Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بالثازار كاستيغليوني لرافائيل: الرسام يختصر 300 صفحة في بورتريه واحد

هو ذلك الكاتب النهضوي الإنساني الذي عاش بين عامي 1478 و1529 وعرف بنزعته الإنسانية، إضافة إلى نجاحه في عمله الدبلوماسي

بالثازار كما رسمه رافائيل (غيتي)

ملخص

ندنو هنا أولاً من رافائيل الذي كغيره من كبار رسامي عصر النهضة الإيطالي، لا سيما تيتيان، رسم خلال مرحلة متقدمة من حياته المهنية كرسام، عدداً كبيراً من البورتريهات

إذا كان رافائيل احتاج إلى جدار عريض ومرتفع كي يرسم تاريخ الفلسفة العالمية منذ الإغريق حتى القرن الذي عاش فيه في لوحة واحدة هي "مدرسة أثينا"، فإنه لن يكون في حاجة إلى أكثر من جزء من متر مربع واحد كي يجيب عن سؤال لم يكن معهوداً في عصره النهضوي: هل يمكن لفنان ما ومهما كان شأنه أن يختصر كتاباً بأكمله على لوحة تقول كل ما يمكن لكتاب بأكمله أن يقوله؟ كان جواب رافائيل، عملياً في تعبيره، يعني كتاباً حمل في التاريخ عنواناً غاية في البساطة والدلالة: "كتاب رجال البلاط"، مكتفياً في جوابه بـ"بورتريه" رسمه لمؤلف الكتاب. وهو بورتريه لو كان ثمة إنصاف في التاريخ لاعتبر متفوقاً في معانيه وإبداعه عموماً حتى على "موناليزا" معاصره ليوناردو دا فينشي. أما "موناليزا رافائيل" فما كانت غير الكاتب والمفكر النهضوي بالثازار كاستيغليوني الذي لو لم يخلف سوى ذلك الكتاب لصح اعتباره من أبرز كتاب التاريخ ورجالاته أيضاً.

 

بورتريهات لنهاية حياة

وندنو هنا أولاً من رافائيل الذي كغيره من كبار رسامي عصر النهضة الإيطالي، لا سيما تيتيان، رسم خلال مرحلة متقدمة من حياته المهنية كرسام، عدداً كبيراً من البورتريهات، لكن البورتريه الذي رسمه لكاستيغليوني يظل الأشهر، ذلك أن رافائيل تمكن في هذه اللوحة المعلقة الآن في متحف "اللوفر" في باريس، من أن يترجم باللون والموقف والنظرات وانحناءة الجسد وتشابك اليدين، تلك الصورة القلمية التي كان بلداسار رسمها للنهضوي النموذجي من رجال البلاط في كتابه الذي بدأه عام 1508، ونشر للمرة الأولى في عام 1529، ويعتبر اليوم من الكتب الأساسية التي تعبر عن النزعة الانسانية لدى الفكر النهضوي.

وبلداسار هو ذلك الكاتب النهضوي الإنساني الذي عاش بين عامي 1478 و1529، وعرف بنزعته الإنسانية إضافة إلى نجاحه في عمله الدبلوماسي، إذ إنه مارس هذا العمل من خلال تمثيله بلاط أوربينو في روما، حتى عام 1515، عام تحقيق رافائيل لوحته. وكان بلداسار صديقاً حميماً لرافائيل. وهذه الصداقة هي التي مكنت الرسام النهضوي، الذي كان مولعاً بالفكر وسير المفكرين من أن يعبر في اللوحة عن مدى الترابط بين ملامح هذا الفكر وأفكاره، ولا سيما من تعمقه في قدرة الكاتب، من خلال تجربته الحياتية والدبلوماسية، وفي أجزاء الكتاب الأربعة التي صيغت على شكل مقطوعات، كيف يرسم صورة مثالية لرجل البلاط، وبالتالي للإنسان النهضوي بشكل عام، أما الرسام فإنه إذ حقق بورتريه صديقه على هذا النحو، فإنه قال بكل وضوح إنه يجد في بلداسار صورة نموذجية للشخص الذي وصفه هذا الأخير قلمياً.

من خلال سهرة ترفيهية

ويتكون الكتاب من محاورات يشارك فيها عدد من كبار تلك الأزمنة بدءاً من الدوقة إليزابيث إلى الكاردينال بيبينيز، وتشيزاري دي غونزاغي، وصولاً إلى الكاردينال بمبو، وجوليانو دي مديتشي. والحوار بين هؤلاء ينطلق حين يقترح أحدهم خلال سهرة، أن يلعبوا معاً لعبة رسم صورة مثالية لرجل البلاط، أو بمعنى آخر أن يحددوا الصفات التي يجب أن يتمتع بها رجل مهذب يعيش في بلاط أمير محترم. وهكذا يتناول الحوار الأول ولادة الرجل المهذب وتربيته، وفي الحوار الثاني نتوقف عند تصرفات هذا "المهذب" داخل المجتمع والكيفية التي ينبغي أن تكون عليها ردود فعله في مختلف الظروف التي يتعرض لها. أما في الحوار الثالث فإننا نبتعد عن الرجل المثالي، لنتوقف عند صفات المرأة الكاملة التي تعيش في قصر الأمير. وفي الحوار الرابع يتوقف المتحاورون طويلاً عند نوعية العلاقة التي يجب أن تقوم بين رجل البلاط والأمير، وهو حوار يختمه الكاردينال بمبو بمداخلة مفصلة ومميزة عن الحب الأفلاطوني (العذري)، ونحن نستشف من ردود فعل سامعيه أن هذا الكاردينال كان في ذلك الحين مرجعاً كبيراً وذا صدقية في هذا الموضوع بالذات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي شكل عام تتسم كل هذه الحوارات بالأناقة واللباقة اللتين يمكن أن نتصور هيمنتهما تماماً على الأخلاق والتصرفات في ذلك العصر النهضوي الذي بدأ فيه الإنسان يكتشف ذاته وفرديته وقدرته على التعامل مع المجتمع تعامل الند مع الند، من دون أن يجد نفسه مجبراً على الانسحاق التام أمام مجتمع الكثرة، ولسوف نلاحظ من خلال تلك الحوارات كيف أن الأمراء وعلية القوم، إذ يتوافقون في ما بينهم على مواصفات رجل البلاط المثالي، إنما يرسمون صورة مثالية يمكن للإنسان أن يسير على هديها، بانياً لنفسه أخلاقاً وثقافة تقربه إلى المثال الأعلى الإنساني. ومن هنا، اعتبر هذا الكتاب دائماً، وإلى جانب "أمير" مكيافيلي و"أورلاندو غاضباً" لأريوستو، من خير الكتب التي عبرت عن إنسان عصر النهضة وذهنيته. ذلك أن هذا الكتاب اعتبر في الوقت نفسه دليلاً للسلوك العملي، وأشبه بنصيحة للأمراء، خطهما قلم إنسان "أولمبي" النزعة هادئ الصفات خبر الحياة بأفضل ما يكون، وتمكن في النهاية من أن يستخلص منها دروساً شديدة الأهمية.

من الفرد إلى المجتمع

لكن الكتاب لم يقتصر على هذا، بل إنه، وبين سطوره، عرف كيف ينطلق من صورة الفرد ليرسم صورة المجتمع في شكل شاعري، في لحظة كان المجتمع يكون نفسه فيها كمجتمع، ولعل هذه السمة هي ما جعلت للكتاب منذ نشره للمرة الأولى كل تلك المكانة، فترجم على الفور إلى شتى اللغات الأوروبية واعتمد مقياساً لنجاح الإنسان ومن ثم لقدرة الإنسان على إنجاح مجتمعه.

أما لوحة رافائيل، فإنها أتت، وفي كل بساطة، لترسم بلداسار في فكره وملامحه وملابسه وتصرفاته انعكاساً للصورة المثالية التي رسمها للإنسان الكامل. فإذا كان الكتاب يطالب رجل البلاط بأن يكون نبيلاً متحفظاً مسيطراً على مشاعره، يعبر عن نفسه بطريقة لائقة وأنيقة ومعتدلة، فإن ملامح بلداسار في اللوحة لا يفوتها أن تعكس هذا كله. ويطالب بلداسار الفرد النهضوي بأن يكون ذا معارف ومواهب تشمل الموسيقى والفن والأدب، كما يطالبه بأن يكون رياضياً. ويعرف كيف يركب الخيل ويمتشق السلاح ويرقص، وكذلك فإن الرجل يتوقف مطولاً، في الحوارات عند الملابس التي يتعين على النبيل ارتداؤها بأن تكون غامقة وتتفادى الألوان الزاهية وما إلى ذلك. والحقيقة أننا نجد كل هذه الصفات في هذه اللوحة.

إذ ها هي لوحة رافائيل تتميز بإيقاعها اللوني الهادئ الذي يكاد يجعل من ألوانها لوناً واحداً غامقاً يشمل الوجه والثياب والخلفية. وكأننا أمام درجات للون واحد. واللوحة، في هذا الإطار، تستبعد كل صخب لوني وكل تنميق زائد عن حده، وفيها يرتدي كاستيغليوني الثياب نفسها التي نجده يطالب النبلاء، في كتابه، بارتدائها. أما جسده في اللوحة فإنه منحن بعض الشيء إلى اليمين في تواضع يشمل الكبرياء في آن معاً. أما الوجه فتحده قبعة سوداء تعطيه مهابة مركزة إياه في علياء أنيقة وسط النصف الأعلى من اللوحة. ومن الأمور ذات الدلالة هنا أن تغوص القبعة في قبة السترة مؤطرة الوجه تماماً، مما يركز على النظرة الودودة، الجدية والعذبة في آن معاً، التي يوجهها المرسوم إلى المشاهد. أما يدا بلداسار اللتان تخرجان من كمي سترته (ولا تبدوان على أية حال واضحتين تماماً في اللوحة كما هي موجودة الآن، إذ إن جزءاً من قسمها الأسفل قطع لأسباب مجهولة)، هاتان اليدان تبدوان متشابكتين لتعبرا في الوقت نفسه عن ثقة بالنفس أرستقراطية كما عن سيطرة تامة على العواطف.

فعل صداقة مثمرة

ومن المرجح أن رافائيل كان مرتبطاً بصداقة عميقة مع بلداسار كاستيغليوني منذ عام 1506، أي أنه كان لديه ما يقرب من عقد من السنين يراقبه خلاله ويدرس صفاته، لتأتي هذه اللوحة، في نهاية الأمر، محصلة لذلك الارتباط. وحين تعرف رافائيل (واسمه الاصلي رافائيلو سانتي) إلى بلداسار كان في الـ23 من عمره، إذ إنه ولد عام 1483 في أوربينو، ليموت بعد ذلك بـ37 عاماً في روما. ومن المعروف أنه درس الرسم منذ صباه لدى الرسام المعلم بيروجينو، ثم انتقل إلى فلورنسا في عام 1504، ليقيم بعد ذلك في روما منذ عام 1508، وهناك خلف برامانتي في تزيين كنيسة القديس بطرس. واشتهر رافائيل، أول أمره، بكثير من اللوحات والجداريات الدينية، وذلك قبل أن يكلف برسوم صالات البابا جوليوس الثاني، فأعطى هنا أفضل ما عنده بين جداريات دينية وتاريخية وفكرية (وإلى هذه المجموعة تنتمي لوحته "مدرسة أثينا"). وهو في أثناء ذلك حقق كثيراً من اللوحات والبورتريهات الصغيرة ومن بينها بورتريه كاستيغليوني هذا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة