ملخص
يبدو أن الاندفاع نحو إعادة العلاقات يسير باتجاه رغبة طهران في السيطرة على مخزونات اليورانيوم في إقليم دارفور والوصول إلى المخزونات الموجودة في منطقة الساحل الأفريقي بغرض تطوير برنامجها النووي
لحق بالأحداث والتطورات المتعاقبة التي يشهدها السودان خلال الحرب المستمرة منذ أبريل (نيسان) الماضي، تفجر الوضع في غزة واندلاع الحرب بين حركة "حماس" وإسرائيل. أثر التفاعل الدولي والحراك الإقليمي مع الصراع ألقى بظلاله على الاهتمام بالسودان، نتيجة لتصادم هدف الدعوة إلى وقف الحربين مع الرغبة في إعادة ترسيم النفوذ الإقليمي لبعض القوى الدولية. وجدت إيران الفرصة سانحة لإعادة هندسة وجودها، مستفيدة من ميدانين يتحرك خلالهما وكيلاها الإقليميان "حماس" و"حزب الله" اللبناني وتأثيرهما المباشر في غزة، ومن خلال علاقاتها السابقة والمزمع إعادتها كما في حالة السودان، مما يجعل منطقتي الحرب ساحة جاذبة لها وبيئة خصبة لإشعال مزيد من التوتر.
جدد السودان علاقاته الدبلوماسية رسمياً مع إيران في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لكن في الأشهر الأخيرة بدا أن الروابط العسكرية بين النظام الإيراني والجيش السوداني، لا تحتاج إلى خطوات متدرجة حتى تعود إلى سابق عهدها كما كانت في زمن الرئيس السابق عمر البشير. وفور الإعلان عن إعادة العلاقات، تعهد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني، بأن بلاده ستكرس قدراتها لتعميق التعاون مع السودان، وستدعم أنشطتها في القارة الأفريقية.
دعم الحراك
طرأ بند إعادة علاقات السودان مع إيران على اهتمام أصحاب المصلحة السودانيين والشركاء الإقليميين. فعلى هامش قمة الاتحاد الأفريقي الـ37، في فبراير (شباط) الماضي، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ترأست مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، مولي في، اجتماعاً ضم مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في أفريقيا موند مويانغوا، والمبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي مايك هامر، والسفير الأميركي السابق لدى السودان جون غودفري. كما أجرت مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية محادثات مع الرئيس الكيني وليام روتو والرئيس الأنغولي جواو لورينسو في شأن جهود السلام في منطقة شرق أفريقيا، لكن جاءت على رأس جدول الأعمال علاقات السودان مع إيران، واستخدام القوات المسلحة السودانية الطائرات المسيرة الإيرانية في حربها ضد قوات "الدعم السريع"، مما أثار غضب الولايات المتحدة.
دعمت واشنطن الانتفاضة السودانية عام 2018، ولكنها تغاضت عن وجود العسكر على رأس مجلس السيادة الذي ضم إضافة للعسكريين، المكون المدني خلال الفترة الانتقالية بحجة دعم الحراك الانتقالي وفق الأهداف المنصوص عليها في "الوثيقة الدستورية"، وفي حصيلتها النهائية كان يفترض الوصول إلى حكومة مدنية. وبعد انقلاب الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية عام 2021، غضت واشنطن الطرف أيضاً عن ذلك، وترددت في بداية الأمر بتسمية هذه الإجراءات بالانقلاب لأسباب من أهمها أن هذه الأحداث تزامنت مع الانسحاب الأميركي من المنطقة إذ بدت واشنطن منشغلة بالداخل أكثر من غيره، وما بقي من فائض اهتمام بدأت توزعه بين حماية مصالحها في النقاط الساخنة ومنها بحر الصين الجنوبي.
ظهور طهران في خضم الحرب السودانية، أربك الحسابات الأميركية، وزاد عليه اشتعال الحرب في غزة وتهديد الحوثيين بقطع الممرات البحرية الدولية، مما أدى إلى غارات جوية شنتها عليهم الطائرات الأميركية والبريطانية. تخشى واشنطن أيضاً من تمكن إيران من فرض سيطرتها على البحر الأحمر والذي بدأته بمحاولة تأمين وجود سفنها البحرية في الموانئ السودانية. قالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، إن واشنطن طلبت من دول المنطقة الضغط على إيران حتى لا تشارك في الحرب السودانية.
قاعدة سلطوية
بتراجع النفوذ الغربي في أفريقيا أصبح السودان لاعباً رئيساً يعمل تحت الشروط الصينية تارة، والتوجيه الإيراني تارة أخرى لأهداف اقتصادية واستراتيجية منها أن تصبح إيران قوة كبرى في أفريقيا، وهو طموح قديم رعته الدول الغربية لحليفها الشاه رضا بهلوي ومن بعده ابنه محمد، إذ سمحت للعلاقات الإيرانية بالنمو في أفريقيا خصوصاً في مصر ودول غرب أفريقيا. كان السودان حتى انهيار نظام الشاه هامشياً بالنسبة إلى إيران، ولكن بعد اندلاع الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، ومشاركة الإسلام السياسي الشيعي، وأيديولوجيات مختلفة، مثل الاشتراكية والليبرالية والقومية، أدت إلى تقوية حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
تزامن تنفيذ تنظيم "الإخوان المسلمين" بزعامة حسن الترابي الانقلاب في السودان عام 1989، مع بداية إيران، التي بدت كجمهورية أصولية فتية، استعراض قدرتها على التغلغل والتأثير في مراكز صنع واتخاذ القرار في السودان، إذ رفع نظام "الإنقاذ" شعارات ثورية أسوة بالشعارات الإيرانية، وبدأ مباشرة في تجنيد ميليشيات "الدفاع الشعبي" وهي قوات شبه عسكرية شبيهة بالحرس الثوري الإيراني. ولهذا الارتباط جذور تمتد إلى علاقة المعارضة الإيرانية في ظل نظام الشاه بـ"الإخوان المسلمين" في مصر، الذين استقت منهم الحركة الإسلامية في السودان بذور تكوينها.
ومع اكتمال عقد من الزمان عزز فيه آية الله الخميني إدارته وتأسيس قاعدة سلطوية دينية، نشطت خلالها طهران في التعاون الوثيق مع متشددين داخل جماعة "الإخوان المسلمين". وأحاطت بالسودان من خلال شبكات تنظيمات في بعض الدول الأفريقية، كما تعاونت إيران مع نظام معمر القذافي وثارت اتهامات في ذلك الوقت بضلوعه في التنسيق معها في تفجير الطائرة الفرنسية "يو تي أي 772" التي انطلقت من مطار نجامينا الدولي في تشاد، وتحطمت في الـ19 من سبتمبر (أيلول) 1989 في صحراء تينيري بالنيجر، وراح ضحيتها 155 راكباً إضافة إلى طاقم الرحلة. كان ذلك بعد وفاة الخميني وتولي آية الله علي خامنئي السلطة بشهر واحد. وفي عهد خامنئي كان الشريك الرئيس لإيران في أفريقيا هو الرئيس السوداني عمر البشير، إذ اتبعت الخرطوم خطى طهران وسياساتها إلى حد أنها تطورت لتصبح وكيلاً لطهران في عديد من القضايا الرئيسة.
تأمين التغلغل
أثرت التطورات في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا والعقوبات الأميركية منذ تسعينيات القرن الماضي على الصعود الإقليمي لإيران والسودان. ومن أجل تأمين التغلغل السريع في المنطقة، طالبت بكين البلدين حيث كانت تمدهما بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية، وتتشارك مع طهران في عقود النفط المربحة في مجال التنقيب واكتشاف النفط في السودان، باستقرار متزايد وحذرت طهران والخرطوم من أنه لن يتم التسامح مع التحديات أو تعطيل التنمية الاقتصادية. أما السودان، فقد حاز في تلك الفترة على اهتمام متزايد من إيران، فمن أرضه صبت تركيزها على مراقبة منشآتها العسكرية والاستخباراتية في ميناء عصب بأريتريا.
وفي إطار هذا التعاون المنسق، كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة ينشط بصورة مكثفة في مجال مكافحة الإرهاب في أعقاب أحداث الـ11 من سبتمبر 2001. ولذلك، قررت كل من طهران والخرطوم خفض مستوى أنشطتهما لتجنب الصراع والمواجهة غير الضرورية. ومع ذلك أفلتت أحداث متفرقة ولكنها مؤثرة خلال هذه الفترة التي كانت واشنطن تحاول تحديد أماكن الإرهابيين وتدميرهم في المنطقة. ركزت إيران ووكيلاها الإقليميان "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس" على إنشاء شبكات سرية، ومخابئ للأسلحة تحت الأرض في بعض المواقع الأفريقية، كما مررت شحنات أسلحة إلى "حماس" في قطاع غزة، وهو ما أدى إلى تنفيذ إسرائيل هجومها الصاروخي على الممرات التي اتخذتها هذه الشحنات في شرق السودان في الأعوام 2009 و2011 و2012. كما ضبطت قوات الأمن النيجيرية إحدى شحنات الأسلحة في عام 2010، وصلت إلى هناك عبر السودان، إذ أنشأت إيران شبكة كبيرة من مواقع التخزين التي تحوي الذخائر والمتفجرات والقطع العسكرية الأخرى التي تتزود بها الحكومات الأفريقية أو القوات المناوئة لها، بغض النظر عن أيديولوجياتها في القارة الأفريقية، إذ كانت تعتمد لوجيستياً وعسكرياً على الإمدادات الإيرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استراتيجية المناكفات
حذرت الولايات المتحدة من التدخل الإيراني في حرب السودان بمد القوات المسلحة في حربها مع قوات "الدعم السريع" بطائرات مسيرة، ما عدته إيران والخرطوم محاولة لتحييد طهران في هذه الحرب. في مثل هذه الظروف، تطبق طهران استراتيجية المناكفات لإحباط الخطة الغربية. ومع حاجة الجيش السوداني إلى الدعم الغربي، وبقاء واشنطن في جهود الوساطة، لكن يقابل قادة الجيش أي احتمال لبروز طهران ضمن المشهد بتأييد خفي كي لا يؤثر في تحركاتها في الجانب الآخر. وبدت ملامح ذلك ضمن عوامل عدة منها، أولاً، يبدو أن الاندفاع الإيراني - السوداني نحو إعادة العلاقات، يسير باتجاه رغبة طهران في السيطرة على مخزونات اليورانيوم في إقليم دارفور، والوصول إلى المخزونات البديلة الموجودة في منطقة الساحل الأفريقي بغرض تطوير برنامجها النووي.
ثانياً، تركيز إسرائيل والولايات المتحدة على الطريق البري البديل عبر شمال الأردن الذي يسيطر عليه الفلسطينيون، يجعل اللجوء إليه عسيراً، لذلك ستلجأ إيران إلى طرق الإمداد البديلة لـ"حماس" عبر البحر الأحمر من طريق السفن من السودان.
ثالثاً، العودة للاتفاق القديم بين إيران والسودان تبدو الآن أكثر إلحاحاً لتحديث القاعدة الأمامية والمحاور اللوجيستية البرية على نطاق واسع لدفع كميات كبيرة من الأسلحة لتغذية "حماس" وغيرها من التنظيمات المسلحة في قطاع غزة وسيناء، وتعويض مخابئها السرية في بورتسودان التي تعرضت للتدمير في أعقاب الهجوم عليها تبعه القصف الإسرائيلي لمصنع اليرموك للصواريخ ومستودعاتها قرب الخرطوم عام 2012. ولتعويض مخبأ الأسلحة الضخم الذي اكتشفته قوات الأمن النيجيرية وحاربت وجود "حزب الله" على أراضيها وعلى طول ساحل خليج غينيا.