ملخص
عدد كبير من أولئك العاملين بشكل مستقلٍ اصطدموا بعقبات كبرى أبرزها وأخطرها "استسهال إهانة المنتج الفكري السوري أو الاستخفاف بمنح السوريين أجورهم بعد إنجازهم أعمالاً لمشغّلين في الخارج، ضمن سياسة العمالة السورية متدنية الأجر عالمياً.
بلغت أعلى نسبة مئوية عالمية مسجلة لمعدل بطالة خلال العقود الأخيرة في جنوب أفريقيا حيث كانت نسبة البطالة هناك نحو 33 في المئة، ولكن سوريا تخطت هذا الرقم بتحقيقها رقماً قياسياً غير مألوف في العالمين المتقدم والمتأخر، إذ سجلت نسبة البطالة فيها حدود 50 في المئة، في أواسط العقد الأول من حربها وتحديداً بين عامي 2015 و2016.
ذلك الرقم كان يعني أنه من بين كل شخصين قادرين على العمل، هناك واحد فقط يعمل، مع الأخذ في الاعتبار الشرط الزماني والمكاني لتلك الإحصائية مع وجود أكثر من 7 ملايين مهجر خارج البلد وقتذاك، أي أن فرص العمل تضاءلت وتلاشت إلى حد عدم تمكن السوري من العثور على عملٍ يناسبه أو لا يناسبه، لا فرق، المهم فرصة عمل تعيله، من دون إغفال نسبة العجزة والأطفال، ما يجعل أعداد المتمكنين من العمل أقل، في علاقة طردية مع فرص عمل أقل أيضاً.
خارج الصندوق
انهيار المجتمع السوري على نفسه اقتصادياً من الداخل وسط بيئة مدمرة المصانع والمعامل والمنشآت، واندحار القطاع الخاص وشبه الخاص، وهجرة رؤوس الأموال، رافقه تمنّع الحكومة عن تقديم تسهيلات لاستقطاب رؤوس الأموال باتجاه المدن الآمنة، أو تحقيق شروط جيدة لعودة المستثمرين من الخارج (لبنان، والخليج، ومصر، وأوروبا)، وحتى الآن لم يفعل النظام ذلك بصورة جدية، لا تحاصر المشغّل وترهقه بالضرائب والقيود بل تشعره بالأمان، مكرسةً القاعدة الاقتصادية الأبرز أن على رأس المال أن يكون جباناً في واقع كهذا.
كل تلك الخلخلة الاقتصادية المتعالية على رؤوس الجياع المتزايدين، دفعت السوريين إلى التفكير خارج الصندوق والبحث عن بدائل وظيفية أخرى تمكنهم من الاستمرار في تأمين سبل حياتهم، ذلك أن السوري على مدار عقود لم يكن يحلم أو يسعى لأكثر من وظيفة حكومية ينالها عقب تخرجه الدراسي أو الجامعي أو يدفع لأجلها المال والرشى، ومردّ ذلك امتيازات الموظف الهائلة التي كان يحظى بها، وقد قارب راتبه عتبة الألف دولار عشية الحرب، فيما صارت الوظيفة ذاتها اليوم مكروهةً ومستبعدةً بعد أن بات مرتبها الشهري عشرين دولاراً.
الموظف الحر
استفاق السوريون بدايةً بصورة فردية على العمل بصيغة "موظف حر – فري لانسر"، قبل أن تأخذ الطريقة شكلها وتتبلور مع الوقت جامعةً خلفها عشرات آلاف السوريين الذين يقدم معظمهم خدماته "أون لاين"، وبهذه العدوى الجماعية تمكنوا من تحقيق تغلب نسبي على البطالة الطاغية والتي ما زالت مستمرة ولو كانت قد تراجعت نسبتها بشكل أو بآخر.
اختيار أولئك السوريين لتلك المغامرة غير النمطية وهم أولاد الموظفين وأحفاد الموظفين والذين لم يعيشوا في بلدٍ جرب فيه قبلهم كثيرون صيغ العمل تلك، فالإنترنت بحدّ ذاته مع التصميم البصري والتقني والتعديل الفني وبقية الاختصاصات كلها مستجدّة، لا مدارس سابقة فيها، ولا أساتذة، وشيوخ طريقةٍ ليرسموا لمن خلفهم أسس السير فيها.
استعباد مهني
عدد كبير من أولئك العاملين بشكل مستقلٍ اصطدموا بعقبات كبرى أبرزها وأخطرها "استسهال إهانة المنتج الفكري السوري أو الاستخفاف بمنح السوريين أجورهم بعد إنجازهم أعمالاً لمشغّلين في الخارج، ضمن سياسة العمالة السورية متدنية الأجر عالمياً لأسباب موضعية باتت معلومةً بعد أن كان السوري يحظى بأعلى الرواتب في الخليج قبل عقدين على الأقل"، على ما تقول المصممة البصرية ريم عدوان في حديثها مع "اندبندنت عربية".
وتضيف عدوان أن "الجميع يعلم أن السوري كان يحظى براتب محترم عندما يعمل في إحدى دول الخليج العربي، وأن عمالتنا هناك كانت رائدةً لعقود قبل الحرب، ولكن نتيجة التدفق البشري غير المعقول نحو تلك الدول صارت أجورنا هي الأدنى عالمياً، أتفهم ذلك جيداً، أرفضه ولا أقبله، ولكن هل هناك خيارات أخرى؟".
وتتابع، "حتى اليوم لا أفهم كيف أني أوافق على بيع هوية بصرية متقنة بخمسة دولارات، ومن ثم يعود الزبون طالباً التعديل مرة ومرتين وأكثر. في البداية، وهذا يحصل كل يوم، أرفض، ثم أراجع نفسي وأقول حسناً 5 دولارات يعني 70 ألف ليرة سورية، إذا نفذت كل يوم تصميماً سيكون لدي 150 دولاراً شهرياً، وهذا رقم لم يعد أحد يحلم به".
ليست ريم وحدها مَن تعيش تلك المعاناة اليومية، وهي الخريجة الجامعية من كلية الفنون الجميلة، إذ تعيش رفقة أقرانها صراعاً قاسياً بين منجَزٍ مغرق في التفاصيل الجميلة يقدمونه مقابل أزهد أجرٍ ممكن أن يتلقاه "فنان" مبدع، فمن وجهة نظر زملائها فإن "التصاميم تلك تباع خارج سوريا بمئات الدولارات وأحياناً أكثر، ولكن لأن المصمم سوري الجنسية فلن تُشترى منه إلا بقروش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نحن نلتهم بعضنا
وحول ذلك يقول عمّار عزّة، زميل ريم في الكليّة، والذي قرر تعلم البرمجة وتصميم المواقع عقب تخرجه أنه يعاني ذات معاناة زميلته، واصفاً الواقع بالقاتم، ويعبر عن ذلك بقوله، "قبل الحديث عن التعامل مع السوق الخارجية، علينا الحديث عن السوق الداخلية والتنبه لأخطار ما يحصل، فقد يطلب مني أحد تصميماً لموقعه وأطلب منه لقاء ذلك خمسة ملايين ليرة سورية مثلاً (350 دولاراً)، فيكون أول جواب له: هذا كثير، فلان طلب مني مليون ليرة فقط. نحن نزاحم بعضنا بطريقة مقرفة، قد يكون ذلك مفهوماً لأن الناس جياع وتريد أن تأكل، ولكن هذا لا يعني أن نلتهم بعضنا ونحرق السوق".
أما عن تعامله مع السوق الخارجية فيوضح أنه "في الخارج يعاملونك كماكينة جائعة تكتفي بأن يرموا بعض النقود في وجهك لتقول: حاضر وشكراً، هناك ازدراء ودائماً كلمة: إذ لم ترد فهناك العشرات غيرك. ويبدأون بوضع شروط قاسية لناحية الوقت وجودة التصميم من دون أن يدفعوا أكثر من 10 في المئة مما يدفعونه لشركات في بلدهم أو لمصممين من جنسيات أخرى، ولكن علينا أن نقبل، وإلا متنا جوعاً".
ضحايا للاحتيال
على رغم كل المشقات تنامى عمل هؤلاء المستقلين باطراد لافتٍ متمكنين من جذب زبائن دائمين من الأسواق العربية، ولكن في الوقت ذاته تزايدت مشكلات ذلك العمل بعد أن صار يمكن القول إن مستقلاً واحداً لم يتعرض للنصب على الأقل مرة واحدة خلال عمله، على ما رواه مستقلون لـ "اندبندنت عربية" راويين تجاربهم وتجارب زملاء لهم.
"وصل الأمر بالبعض إلى أن ينصب عليك لأجل خدمة بدولارين"، يقول المصمم وفيق عامر، ويكمل "طلب مني أحد الأشخاص أن أصمم له سيرة ذاتية، لم تكن لتأخذ من وقتي، وليست مكلفة، سعرها مجرد دولارين، ما إن حصل عليها الزبون حتى اختفى ولم يعد يجيب على رسائلي، وقد تكرر هذا الأمر معي مرات عدة سواء بسيرٍ ذاتية أو تصاميم بصرية، النصّابون في كل مكان حولنا. ولو أردت رفع دعوى قانونية فستكلف أضعاف قيمة الخدمة نفسها، لذا نحن دائماً نتوقع أن نتعرض لعمليات احتيال".
احتيال مبتكر
بدورها تعرضت سوس جمّال، وهي مصممة سورية أخرى، لعملية احتيال بطريقة أكثر احترافية، وبدا بعد التدقيق أن تلك الطريقة قد شقت طريقها ونجحت في المرور على عاملين مستقلين آخرين، وحولها تروي سوسن، "أنا مصممة غرافيك، أنجزت عملاً مكثفاً لشركة خارجية وحين اتممت إرسال العمل قالوا لي إنهم وضعوا أجوري في حساب بنكي اسمه Stand union، وبأن عليّ أن أرسل لحسابٍ آخر مبلغ 55 دولاراً ليتم تنشيط حسابي الذي وضعوا به المال ومن ثم الحصول عليه، وهو مبلغ قابل للاسترداد، ولأن قيمة اتفاقي المالي معهم كانت عالية فعلاً فعلت ما قالوه لي، ليتبين لي لاحقاً أن العملية كلها نصب واحتيال وبأني خسرت شهراً من وقتي وعشرات التصاميم وفوقهم 55 دولاراً".
حماية المنتج
بعد سنيٍّ من الخداع والاحتيال بطرق تقليدية أو مبتكرةٍ على المستقلين وجد كثيرون منهم طريقة لحفظ حقوقهم تتمثل في إرسال التصاميم أو الهويات البصرية ممهورةً بعلامة مائية لحين قبض ثمنها، أو بدقة منخفضة جداً، أو وضع ثغرة في تصميم الموقع، أو خفض الصوت في جمل معينة وإغفال أخرى في التعليق الصوتي، وما إلى ذلك من بقية التخصصات التي يقدمها هؤلاء المستقلون، وعلى رغم ذلك لا يزال بعضهم يتعرضون للنصب حتى اليوم.
كل تلك المعاناة الجماعية للشباب السوري الذي يملك منجزاً قيّماً فنياً وفكرياً ولم يجد حيّزاً لاستثماره أو بيعه، دفعه لتحمل مشقّة العمل الحر والقبول بكل شروطه القاسية تحت ضائقة البطالة وازدراء العمالة السورية مهما كانت لافتة وتستحق الوقوف عندها بل والثناء والتقدير ليتعداهم الأمر وصولاً إلى صحافيين تركوا مهنتهم تحت ظرف قلّة فرصها، وتحولوا إلى آلات تكتب محتوى لا يشبه تخصصهم ودراستهم وميولهم، وليطلب منهم عشرات المقالات شهرياً التي تعتمد على الحشو الكفيل بقتل القدرة الإبداعية والعودة مجدداً بمنجزٍ يلائم سنوات الخبرة السابقة، وكل ذلك أيضاً لقاء قروشٍ قليلة تعينهم على ظروفٍ مريرة.