ملخص
ما جرى خلال العقود الأخيرة هو أن نسبة متزايدة من النساء بتن يسعين إلى الحصول على الطلاق من دون خوف كبير أو قلق عميق أو تردد يجعلهن يفضلن الحياة التعيسة على الوصمة أو السبة أو حتى الصعوبة.
كان "بابا ضياء" يسارع إلى نصيحة كل سيدة تعاني الأمرين في زواجها فتستعين برأيه الحكيم وعلمه الوفير في شؤون الأسرة والعلاقات بعبارته الشهيرة "اتركيه"!.
كان ضياء الدين بيبرس كاتباً وصحافياً وإذاعياً مصرياً لامعاً بزغ نجمه عبر برنامج "ماذا تفعل لو كنت مكاني؟" الذي ظل يذاع لمدة 35 عاماً من مطلع الستينيات وحتى منتصف التسعينيات. كانت ترد إليه مشكلات المستمعات والمستمعين، والجانب الأكبر منها كان يدور حول العلاقات الزوجية والعاطفية. شذ بيبرس عن القاعدة السائدة التي كانت تدفع المشتكين، لا سيما المشتكيات، إلى التحلي بمزيد من الصبر والجلد والتحمل وبلع الإساءات وهضم الأحزان والتغلب على الكروب. كان إذا شعر بأن الشاكي (ة) قد بلغ من الهم أوجه، نصحه (ا) "اتركيه"!.
"اتركيه" منهج ومدرسة
اليوم تحولت "اتركيه" إلى مدرسة ومنهج وفكر في شؤون الزواج، فهناك أصوات وأفكار وإجراءات متصاعدة عدة تعمل ليس فقط على تيسير الطلاق لناحية الإجراءات، لكن بدءاً من اتخاذ القرار مروراً بمرحلة الصدمة والغضب والحزن التالية لوقوعه وانتهاء باعتباره بداية مرحلة جديدة إيجابية ومبهجة. ولولا المبالغة، لقيل إن الطلاق صار مدعاة فخر وسبب تفاؤل ومدخل بدايات أفضل.
"الطلاق الجيد" و"كيف تجعل في الطلاق نجاتك؟" و"في الطلاق سبع فوائد" و"تيسير الطلاق" و"اليوم التالي: عن الطلاق والانفصال" و"التربية المشتركة بعد الطلاق" و"جراحة الطلاق: فن فك العقدة" و"مطلق(ة) لا ميت(ة)" و"الطلاق للمبتدئين" و"أتمنى لو علمت قيمة الطلاق مبكراً" و"دليل المرأة الذكية للطلاق الناجح" و"طريقك إلى طلاق ناجح" وقائمة أيادي العون الممدودة للأرواح المعذبة في زيجات مزعجة لم تَعد تُعد أو تحصى.
ما يمكن أن يحصى
ما يمكن أن يحصى هو الأعداد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقع حالة طلاق في مصر كل 117 ثانية، وفي الكويت بلغت نسبة الطلاق 48 في المئة من إجمالي الزيجات، والنسبة تصل إلى 37.2 في المئة في الأردن و37 في المئة في قطر، وهلم جرا عربياً.
عالمياً، تطور الطلاق في جميع أنحاء العالم خلال العقود الأخيرة، وهي العقود التي شهدت ازدهاراً للتنمية البشرية والتقوية النسوية والتطورات الحقوقية التي صب كثير منها في خانة تمكين المرأة، وجزء من التمكين تم توجيهه لتمكينها من الطلاق من دون سبة أو وصمة أو خوف من اليوم التالي بعد الطلاق.
اليوم التالي تختلط فيه مخاوف نفسية واقتصادية واجتماعية ومعيشية خلطة تختلف مكوناتها وتتفاوت حدتها من مجتمع إلى آخر، وبين فئة وأخرى، ولا يخلو منها مجتمع أو ثقافة، لكن بدرجات مختلفة.
عادات وتقاليد
اختلاف التعامل مع الطلاق، قبولاً ورفضاً، وثيق الصلة بالثقافات إذاً بالعادات والتقاليد والعقائد، فالمحامون المتخصصون في الطلاق وأطباء النفس والمعالجون النفسيون في الدول متعددة الأعراق والإثنيات، وتلك التي تستضيف أعداداً كبيرة من المهاجرين أو اللاجئين، يأخذون في الحسبان وجهات النظر الثقافية المختلفة في مختلف جوانب الحياة والطلاق في القلب منها.
وبحسب موقع "ديفورس" أو "الطلاق" الأميركي المخصص لتقديم خدمات الطلاق المختلفة، هناك عدد من العوامل التي تؤثر في نسب الطلاق في كل دولة على حدة، زيادة أو انخفاضاً، أبرزها الدين والقوانين المحلية المنظمة للطلاق، وحجم خدمات الدعم الاجتماعي وفرص العمل المتاحة وغيرها مما يؤثر في اتخاذ قرار الطلاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قرار الطلاق أصبح أكثر سهولة بصورة عامة. عربياً، وعلى رغم هامش عدم القبول أو مقاومة أو وصم الطلاق الأكبر نسبياً مقارنة بمناطق أخرى في العالم، لكنه أصبح أكثر سهولة ويسراً. ليس هذا فقط، بل إن نمط الطلاق يشهد تغيرات لم تطرأ يوماً على بال.
قرون طويلة والطلاق امتياز واحتكار للزوج لا ينازعه أحد فيه. لا يسيطر عليه الزوج بالضرورة، ربما والدته أو والده أو أخوته أو أقاربه أو حتى أصدقاؤه، لكنه يبقى امتياز الزوج، إلا في ما ندر، لكن ما جرى خلال العقود الأخيرة هو أن نسبة متزايدة من النساء بتن يسعين إلى الحصول على الطلاق من دون خوف كبير أو قلق عميق أو تردد يجعلهن يفضلن الحياة التعيسة على الوصمة أو السبة أو حتى الصعوبة.
قوانين ومحاضرات
وذللت قوانين جرى تعديلها ومحاضرات وكتب وفيديوهات يقدمها اختصاصيو تنمية بشرية ومنظمات حقوقية ونسوية ومواقع وتدوينات وصفحات عنكبوتية كثيراً من الصعاب التي كانت تعتري إبرام الطلاق بأقل كلفة مادية ونفسية ممكنة.
نفسياً، أسهم الانتشار الكبير للمحتوى المقدم بهدف محو وصمة العار المتصلة بفكرة الطلاق، لا سيما المرأة، في تمهيد الطريق نحو مزيد من الطلاق. وقبل أعوام قليلة، أطلقت سيدة مصرية مطلقة منصة إذاعية خاصة بها على الإنترنت سمّتها "مطلقات راديو"، والهدف من المنصة كان تقديم النصح حول تجربة الطلاق، بدءاً من اتخاذ القرار، مروراً بالإجراءات والخدمات المقدمة للمطلقات وانتهاء بكيفية العمل على محو الوصمة المتصلة بالمطلقة.
وعلى رغم الإقبال على المنصة من قبل زوجات يعانين حياة زوجية تعيسة، والاستفادة من مشاركة التجربة، إلا أن كثيرين اعتبروا مثل هذه المنصة "خراب بيوت".
خراب بيوت
تعريف الطلاق، أي طلاق، سواء كان لأتفه الأسباب أو أكثرها فداحة باعتباره خراب بيوت ليس غريباً، فهذا التعريف ينتشر بصورة أكبر بين الفئات العمرية الأكبر سناً، وكذلك بين كثير من رجال الدين. والأفكار التقليدية الخاصة بالطلاق أكثر انتشاراً بين الأكبر سناً. ونسبة كبيرة ممن هم فوق سن الـ50 في الدول العربية ما زالت تعتبر الطلاق وصمة وعاراً ودليلاً على الأنانية وضعف تحمل المسؤولية وقائمة طويلة من الاتهامات التي عادة تكون من نصيب الزوجة لا الزوج، بغض النظر عن المتسبب في تردي العلاقة بين الزوجين. والزوجة تاريخياً وبحكم العادات والتقاليد هي الطرف الذي يحمله المجتمع مسؤولية تدليل الزوج وهضم نزواته وتقبل هفواته لدرجة تحول مقولة "الزوج طفل كبير" إلى أسلوب تربية وطريقة تنشئة.
وصفة سحرية
"الرجل طفل كبير ليست مجرد مقولة، بل أسلوب حياة ومفتاح نجاح مضمون في الزواج، وكل من اتبعتها نجحت في تعاملها مع زوجها. وبعيداً من أن الزوج هو رب الأسرة والحاكم الآمر الناهي، لكنه في النهاية طفل يعشق التدليل ويكره من يفرض عليه رأياً. وفي ما يلي خمس نصائح تعين الزوجة على التعامل مع زوجها الطفل، وتضمن حياة زوجية هانئة واستقراراً تبتغيه كل أسرة، "ابتعدي من العناد واطلبي ما تودين من زوجك بطرق ومسالك جانبية من دون مواجهة مباشرة، التدليل هو الحل ومعدة الرجل أقرب طريق لقلبه فعلياً وكلما أجادت المرأة الطبخ ضمنت الطريق إلى قلب زوجها وباتت ملكة متوجة لديه، انتبهي لاهتماماته واجعليها اهتماماتك وغيري لكن بهدوء".
الأسطر السابقة وصفة "سحرية" نشرت قبل أعوام قليلة على موقع خبري عربي، وتمت الاستعانة بها في رأي استشارية علاقات زوجية تحت عنوان "خمس نصائح لامتلاك قلب زوجك!"، وهذه النصائح تجد صدى طيباً لدى بعضهم، لا سيما من الأكبر سناً، لكنها أيضاً تجد نفسها في مواجهة قاسية مع موجة متنامية من النصائح المضادة التي تجد آذاناً مصغية وتفعيلاً على أرض الواقع، لا سيما بين الأصغر سناً.
الطلاق ورجال الدين
وسواء بين الأصغر أو الأكبر سناً، تتمسك الغالبية المطلقة من رجال الدين بموقف مناهض للطلاق، وتقول دار الإفتاء المصرية في بيان عن الطلاق إن "الشرع الشريف أرشد الزوجين إلى عدم التسرع في قطع رباط الزوجية عند أي مشكلة أو حدوث عقبة، بل ينبغي لهما التمسك به من خلال إجراءات وقائية مبكرة، وهي ضرورة المعاملة بالرفق والرحمة وحسن الظن واعتدال الغيرة والمشاركة في تحمل أعباء الحياة ومراعاة كل طرف لظروف الآخر".
وتتبع دار الإفتاء خطوات عدة في حالات طلب فتوى أو أسئلة خاصة بالطلاق، معظمها يركز على سبل الحيلولة دون وقوعه إلا إذا كان الحل الوحيد والنهائي وذلك "من باب المحافظة على الأسرة التي هي نواة المجتمع".
وكذلك الحال في الكنيسة المصرية التي ما زالت تتمسك بمبدأ أن "الزواج في المسيحية يعني وحدة الكنيسة والمسيح، فما يوحده الرب لا يفرقه إنسان"، ولا يمكن طلب الطلاق إلا لعلة الزنا. وعلى رغم سماح الكنيسة الأرثوذكسية بالطلاق في حالات محدودة جداً مثل الحكم على أحد الزوجين بالأشغال الشاقة أو السجن لسبع سنوات أو أكثر، أو أصيب أحدهما بجنون مطبق أو مرض يخشى به على الآخر، إلا أنه ما زال من المكروهات الكبرى.
تنمية بشرية للطلاق
ضمن إنجازات دورات التنمية البشرية وجهود منظمات حقوقية ونسوية نشر ثقافة ووعي متقبلين للطلاق، وآلاف الدورات التدريبية ومحاضرات التنمية البشرية التي تنظر إلى الطلاق باعتباره خطوة إيجابية لإنهاء مرحلة من التعاسة وإعادة بناء فصل جديد من فصول الحياة متاحة بكل اللغات، بما فيها العربية، على الإنترنت ومنصات الـ"سوشيال ميديا" المختلفة. وعلى رغم وجود دورات ومحاضرات مشابهة، لكن لمجابهة فكرة الطلاق وإثناء العزم عنه، إلا أن المحتوى الذي يروج للطلاق باعتباره بداية وليس نهاية أكثر انتشاراً.
رواج فكرة الطلاق عالمياً، لا سيما في الغرب، وثيق الصلة بما أشار إليه اختصاصي العلاقات والقيم الأسرية الأميركية برادفورد ويلكوكس في مقالة عنوانها "تطور الطلاق" منشورة في دورية "ناشونال أفيرز" الأميركية (2009) بـ"الثورة النفسية في أواخر الستينيات والسبعينيات"، ويقول ويلكوكس إن هذه الثورة غذاها ازدهار ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي سمح لكثيرين بإيلاء اهتمام أكبر للمخاوف غير المادية، وهو الاهتمام الذي قام بدور رئيس في إعادة تشكيل وجهات نظر الرجال والنساء حول الزواج والحياة العائلية".
ويشير المؤلف إلى أنه قبل أواخر الستينيات، كان الأميركيون أكثر ميلاً للنظر إلى الزواج والأسرة من خلال مفاهيم الواجب والالتزام والتضحية، وكان البيت الناجح والسعيد الذي يحوي علاقة زوجية ملباة ووظيفة لائقة وتجري صيانته بصورة جيدة وفيه مساعدة زوجية متبادلة في الأعمال المنزلية وتربية الأطفال، إضافة إلى قدر كبير من الإيمان الديني المشترك. ويضيف ويلكوكس أن هذا المفهوم للزواج الناجح والبيت السعيد كان سمة في غالبية أرجاء العالم في ذلك الوقت.
"ذلك الوقت"
"ذلك الوقت" تغيّر وتغيرت معه مفاهيم السعادة والنجاح، مما تطلب لغة خطاب ومحتوى علوم اجتماعية مختلفة تناسب التوجه الجديد للاهتمام بالنفس. وعلى رغم أن مفهوم "تطوير النفس" أو الذات قديم قدم البشرية والحضارات، إلا أن الفورة الحديثة في دورات ومحاضرات ودراسات التنمية الذاتية وتطويرها تعود لمطلع القرن الماضي، وأخذت تتطور وتنتشر وتتسع مواضيعها. فمن "كيف تصبح ثرياً؟"، إلى "كيف تصبح اجتماعياً ومحبوباً؟"، إلى "كيف تصبح مديراً أو معلماً أو قائداً ناجحاً؟"، مما تطلب "كيف تصبح سعيداً في حياتك الشخصية؟"، وفي القلب منها الأسرة والزواج والتربية. وتطور المحتوى، وبدلاً من التزام قواعد وتقاليد الحفاظ على وحدة الأسرة ونسيجها والتدريب على سبل تعايش الزوجين بأقل أضرار ممكنة حين يصل زواجهما إلى طريق مسدود، دخل المحتوى في "كيف تنهي زواجاً تعيساً؟" و"كيف تنجز طلاقاً ناجحاً؟".
دورات ومحاضرات التنمية البشرية لا تؤدي إلى الطلاق بصورة مباشرة، لكنها تبرؤه من صفات الوحشية والقبح والحزن والهم والقلق وغيرها، وكلما كان الكلام سلساً ومنطقياً ويدق على أوتار المتلقي، كان المتلقي أكثر عرضة للتأثر واتخاذ خطوات فعلية.
صناع محتوى الطلاق
تفعيل الطلاق وتحويله من فكرة تراود التعساء والتعيسات إلى واقع أصبح أكثر قبولاً وشعبية كذلك بفضل، أو بفعل، محتوى الـ"سوشيال ميديا" الذي يصنعه مطلقون ومطلقات، وجزء كبير من هذا المحتوى يعرض حياة الرجل المطلق والمرأة المطلقة باعتبارها أفضل ما حدث لهما، وتفاصيل الحياة اليومية مع التعليقات التي تدق على أوتار الهدوء والسكينة والسعادة والثقة بالنفس وإعادة اكتشاف القدرات وتنظيم الوقت وهيكلة الإنفاق، بل تعميق وتحسين العلاقة مع الأبناء وغيرها تشجع بعض المتابعين والمتابعات على اتباع نهج الخلاص ذاته.
وعلى رغم عدم وجود دراسات ميدانية أو قياسات يمكن الاعتداد بها لمعرفة مدى تأثير هذا النوع من المحتوى في زيادة معدلات الطلاق، إلا أنه من المؤكد أن آذاناً، لا سيما نسائية، مصغية وقلوباً متضامنة وعقولاً مقدرة تستقبل هذا المحتوى بترحاب واقتناع.
شكراً على النصيحة
التعليقات التي ترد إلى عدد من صاحبات المحتوى العنكبوتي من المطلقات اللاتي يعرضن تجربتهن وتفاصيل حياتهن اليومية بعد الطلاق تشي بكثير، فصحيح أن فيها من يتهمهن أو ينتقدهن بأنهن يروجن للطلاق، ولو من دون قصد، إلا أن كثيرات يسردن قصصهن الشخصية باعتبارها قصص نجاح في تفعيل الطلاق بعدما كنّ مترددات، لكن المحتوى الإيجابي شجعهن على الإقدام على الخطوة.
أستاذة علم الاجتماع سهير صفوت أشارت غير مرة إلى أن تغيرات عدة طرأت على المجتمع المصري في ما يختص بالطلاق، تحديداً المطلقات، وقبول الفكرة، وعلى رغم أن درجات القبول تختلف بحسب الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنها تشير إلى حراك في الفكرة، لا سيما أنه ظل وصمة عار، وظلت الزوجة مطالبة بتحمل حياتها التعيسة حتى لا تحمل لقب "مطلقة". وتلفت إلى أن المتغيرات والأفكار والسبل الجديدة التي عرفت طريقها إلى المجتمع ساعدت في التحرر من هذا الوصم، وبات ينظر إلى الطلاق من قبل كثيرين على أنه حق من حقوق الإنسان وحرية كفلها الدين ولو على مضض، بعد استحالة العشرة بين الزوجين حفاظاً على صحتهما وصحة الأبناء النفسية.
"بابا ضياء" سبق خبراء التنمية البشرية وجموع المؤثرين والمؤثرات الذين يجعلون الطلاق أمراً يسيراً لطيفاً خفيفاً، لكنه كان سابق عصره وزمانه. نصيحة "بابا ضياء"، "اتركيه" أصبحت شعار المرحلة. وبعد القرار وإتمام الطلاق، تقول المطلقة لمن نصحوها به "شكراً على النصيحة".