ملخص
تحقيق "اندبندنت" يسلط الضوء على أحوال الأشخاص ذوي الإعاقة في المناطق الأوكرانية المحتلة وقيام روسيا بترحيلهم إلى داخل البلاد حيث يبقى مصير كثيرين منهم مجهولاً
في صباح يوم شديد البرودة من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، حضر مسؤولون روس إلى المؤسسة التي كان يعيش فيها مكسيم، وأخبروا جميع من فيها بأنهم ذاهبون في "رحلة إلى شاطئ البحر".
وكان الغزو الدموي الذي شنه الرئيس فلاديمير بوتين مستمراً بعنف منذ شهور، وقد ابتلعت القوات الروسية بلدة في منطقة خيرسون الجنوبية، كان مكسيم يعتبرها موطنه.
بيد أن مكسيم، وعلى عكس الملايين من الأوكرانيين غير المصابين بأي إعاقة، لم يتمكن من الفرار بمفرده من العنف وإراقة الدماء.
فهو عاجز، منذ الولادة، عن استخدام ساقيه، وقد أمضى حياته كلها في مركز أوكراني لرعاية الأشخاص ذوي الإعاقة. وبالتالي، كان يعيش، في سن الـ33، إلى جانب 180 شخصاً آخر تتراوح أعمارهم بين 19 و90 سنة، ممن يحتاجون مثله إلى رعاية مستمرة.
وعندما أخبره الروس بأنهم سيرحلون، لم يكن أمام أي منهم خيار آخر. لكن بدلاً من اصطحابهم في رحلة إلى البحر، توارى أفراد المجموعة كلهم عن الأنظار، بعد اقتيادهم إلى داخل روسيا.
وفي حال تجرأ أي منهم على الاعتراض، كان يُحبس في غرفته. وقد مُنعوا جميعاً من التحدث إلى عائلاتهم، إلى أن وضعوهم على متن قطار عبر بهم الحدود.
وفي حين ذهب معظم أفراد المجموعة في اتجاه محدد، إلا أن مكسيم فُصل عن كل من يعرفهم لسبب أو لآخر، وأُرسل إلى مدينة أنابا الساحلية الروسية، على مسافة 220 ميلاً (360 كيلومتراً). وهناك، أدخل إلى مؤسسة رعاية شبيها بالمراكز الصحية. وقد فُقد كرسيه المتحرك في سياق الرحلة.
وقال مكسيم بغصة يائسة: "ظللنا نسأل، إلى أين نتجه؟ لكنهم كذبوا علينا جميعاً. وكنا مرعوبين، لأننا لم نعرف إلى أين يأخذوننا، وما كان سيحدث بعد ذلك"ـ مضيفاً "وبالتالي، لم تكن في يدنا حيلة".
وبعد أربعة أشهر مروعة قضاها وحيداً في روسيا، نجح في الهروب، مستخدماً هاتفاً محمولاً كان يخفيه عن المسؤولين داخل بنطلونه.
وبمساعدة جمعية خيرية أوكرانية، جرى تهريبه سراً، وقد نجح في الفرار من الشرطة الروسية عن طريق ترتيب اجتماع سري في أحد المتاجر المجاورة.
وفي معرض حديثه من بلد أوروبي فضلنا عدم تسميته، قال إنه لم يدرك إلى الآن أنه كان شاهداً على جريمة حرب: "اضطررت إلى إخفاء هاتفي لأنهم عمدوا أيضاً إلى مصادرة هواتف الأشخاص الذين طلبوا الذهاب إلى أوكرانيا".
وأضاف "لا نستطيع حماية أنفسنا - ونحن منسيون. وأشعر فعلاً بأن العالم نسي أمرنا تماماً".
وقبل ذلك بأسابيع قليلة، وفي مؤسسة أخرى تقع هي التالية في جنوب أوكرانيا المحتل، قدم أيضاً مسؤولون روس وتحدثوا عن "رحلة إلى شاطئ البحر".
بيد أنهم دخلوا، في هذه المرة، إلى مؤسسة تؤوي 500 امرأة أوكرانية من ذوي الإعاقة الذهنية والجسدية - بما يشمل إينا البالغ عمرها 46 سنة والمصابة بمتلازمة داون، التي عاشت في المؤسسة طوال حياتها، مثل مكسيم.
وفي وقت لاحق، أخبرت الممرضات "اندبندنت" بأن رجالاً مسلحين اصطحبوا، بالمجموع، 54 امرأة إلى الحافلات.
وتساءلت ليوبوف أناتوليفنا، التي كانت تعمل في المنشأة في ذلك الوقت: "كيف يمكنك اتخاذ أي قرار بالمساعدة بوجود جنود مسلحين بالبنادق؟".
في تلك الظروف، لم يتسن للموظفين إلا التأكد من بقاء النساء هادئات والسماح لهن بالرحيل، لأنهن، في معظمهن، لم يكن قادرات على فهم ما يحدث لهن.
وبعد مرور 18 شهراً، لا تزال إينا مفقودة، وفق ما يؤكده والداها اللذان يواصلان محاولاتهما اليائسة للعثور عليها.
وفي هذا الصدد، يقول والدها فولوديمير، البالغ من العمر 73 سنة، بينما تبكي زوجته في الخلفية: "لقد فعلنا كل ما في وسعنا، ولا نعرف كيف نتصرف".
ووفق ما جاء في تحقيق أجرته "اندبندنت" على مدار 18 شهراً، كان مكسيم وإينا من بين ما لا يقل عن 500 أوكراني من ذوي الإعاقة - بما في ذلك أطفال - يُرجح أن يكونوا قد نُقلوا قسراً إلى الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، أو اقتيدوا إلى داخل روسيا. ويبقى مكان تواجد عدد كبير ممن وثقنا حالاتهم مجهولاً: فمن بين الأشخاص الذين اقتيدوا من داخل المؤسسة التي أقام فيها مكسيم، لم يُعثر على أكثر من 10 أشخاص. وفي المؤسسة التي كانت تعيش فيها إينا، لم يتحدد حتى اليوم مكان تواجد أي من الأشخاص الذين كانوا يقيمون فيها.
ومن جهتها، أنكرت روسيا أن تكون ارتكبت أي جرائم في أوكرانيا، وروجت لنقل الناس على أنه "إجلاء" قانوني. لكن الأدلة التي كشفت عنها "اندبندنت" تشير إلى أن المدنيين رُحلوا قسراً، وهو ما يعتبر جريمة حرب وجريمة محتملة ضد الإنسانية.
ومن ثم، فإن الأشخاص المفقودين، ويبلغ عددهم 500، لا يمثلون إلا الحالات التي تمكنا من التحقق منها بشكل مستقل؛ وفي هذا السياق، قال مسؤولون أوكرانيون إنه باعتقادهم، قد يكون العدد الفعلي للأشخاص الذين انقطعت أخبارهم بالآلاف.
وبالنسبة إلى الحالات الموثقة - المسجلة بين أكتوبر (تشرين الأول) 2022 وصيف 2023 - فقد جرى التحقق منها عن طريق مقابلات مع أشخاص نُقلوا بشكل غير قانوني، ومع أفراد من عائلات أشخاص لا يزالون مفقودين حتى يومنا هذا، ومع موظفين عاملين في المؤسسات المستهدفة، ومع آخرين في الجمعيات الخيرية التي تحاول تحديد أماكن المفقودين. إلى ذلك، قامت "اندبندنت" بمتابعة مجموعات رسمية على تطبيق "تليغرام"، تديرها إدارة الاحتلال المتباهية ببرامج مصممة لنقل مئات من الأشخاص، الذين تأخذهم من قلب المؤسسات. وقد استعنا بأدوات مفتوحة المصدر [أدوات تكنولوجية عبر الإنترنت متاحة للعموم] - على غرار التصوير بالأقمار الاصطناعية - للتأكيد على المواقع المزعومة [لتواجد هؤلاء المفقودين].
وفي حالات كثيرة، كان الأشخاص الذين اقتيدوا عرضة للتضليل أو الكذب بشأن ما يحصل، وقد جرى احتجازهم في ظروف مزرية، بمعزل عن العالم الخارجي، وأرغِموا على اعتماد جوازات سفر روسية من أجل تأمين العلاج أو الرعاية لأنفسهم. وفي هذا السياق، تفيد تقارير موثوقة بأن عدداً من الأطفال من ذوي الإعاقة قد أُرسلوا إلى معسكرات "إعادة تعليم"، يتلقون فيها دروساً تمجد روسيا وتشجع على الولاء لها، باستخدام كتب تاريخ ولغة منقحة ومعدلة.
"تحاول روسيا محو الهوية الأوكرانية" - المفوض الأوكراني لحقوق الإنسان
أما الدكتور جيرارد كوين، الذي كان يتولى منصب مقرر الأممي الخاص المعني بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة حتى نوفمبر الماضي، والذي قام بإعداد أكثر من تقرير عن أوكرانيا، فقال إن الأشخاص في هذه المؤسسات الواقعة داخل أوكرانيا، كانوا أكثر عرضة من غيرهم للخطر، لأن الجنود الروس اعتبروهم "أهدافاً سهلة".
وشرح في معرض حديثه مع "اندبندنت"، "يكون بعض الأشخاص ضعفاء للغاية ويعيشون ضمن تجمعات مركزة. ولا يملكون، بالضرورة، أي قاعدة جماهيرية طبيعية تمكنهم من رفع أصواتهم وإسماعها. وبالتالي، فقد استهدفوا عمداً لاعتبارهم لقمة سائغة وهدفاً سهلاً".
استطراداً، يرى مسؤولون أوكرانيون أن استهداف الأشخاص ذوي الإعاقة هو جزء من جهود روسية منسقة أوسع نطاقاً "للقضاء على الهوية الأوكرانية" وقد يرقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية".
وفي هذا السياق، يقول دميترو لوبينيتس، مفوض أوكرانيا لحقوق الإنسان: "تحاول روسيا محو الهوية الأوكرانية. ولا بد من الاعتراف بأن هذا كله يمثل جريمة إبادة جماعية".
وتابع قائلاً: "يعمل بوتين على تأسيس ما يسمى بروسيا جديدة، لغتها واحدة: الروسية، وجواز سفرها واحد للجميع: الجواز الروسي. ويصوت كل من فيها لرئيس واحد: رئيس روسيا".
ومن جهته، لفت مكتب لوبينيتس إلى أنه طالب روسيا والأمم المتحدة والمنظمات الدولية مراراً وتكراراً بتوفير بيانات محددة حول عدد الأشخاص ذوي الإعاقة الذين نقلوا بشكل غير قانوني إلى روسيا، لكنه لم يحصل على أي رد.
وقد سأل تحديداً عن مصير الأشخاص المتواجدين في مؤسسات ذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة ماريوبول، التي تعرضت لقصف عشوائي مكثف من الجانب الروسي، والواقعة حالياً تحت الاحتلال الروسي. وأضاف متجهماً: "نعلم بأنهم نُقلوا جميعاً إلى مكان بعيد، ولكننا لا نعرف إلى أين".
أما ميكولا كوليبا، مؤسس منظمة "أنقذوا أوكرانيا" Save Ukraine، فكشف أن الأشخاص ذوي الإعاقة، المقيمين في مؤسسات الرعاية، هم من بين أكثر الفئات عرضة للإبعاد القسري من جانب روسيا، إذ يُفصلون عن أولياء أمورهم، ويسهل ترحيلهم جماعياً. وقد تصدرت منظمته مؤخراً عناوين الصحف العالمية، بعد أن نجحت في استعادة أكثر من 240 طفلاً أوكرانياً كانوا قد نُقلوا قسراً إلى روسيا، ومن ضمنهم أطفال من ذوي الإعاقة يدخلون في عداد 500 شخص مفقود تتابع "اندبندنت" ملفاتهم منذ 18 شهراً.
وتابع كوليبا: "إنه أشبه بالإبادة العرقية"، مضيفاً "إن السياسة الروسية تقوم على نقل أكبر عدد ممكن من الأوكرانيين إلى روسيا، لأنهم يريدون تدمير الهوية الأوكرانية. ومن ثم، هذا ما ألمح إليه بوتين شخصياً".
"أعتقد أن روسيا تستهدف الأشخاص ذوي الإعاقة لأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم" – مكسيم
وقد بلغ القلق ذروته، حتى أن أوكرانيا استنجدت أخيراً بدول أجنبية مثل قطر، في محاولة منها لاستعادة الأشخاص الذين نُقلوا إلى روسيا بطريقة غير قانونية. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، ساعدت الدوحة في التفاوض على إعادة 11 طفلاً. وكان بين أصغرهم طفلان لا تتجاوز أعمارهما الخامسة والسادسة من العمر، وكانا يعيشان في دار لرعاية الأطفال من ذوي الإعاقة في بداية الحرب، ليُنقلا، خلال الهجوم [على المدينة]، إلى مركز [رعاية] في شبه جزيرة القرم الخاضعة للسيطرة الروسية.
وبالإجمال، تشير التقديرات الأوكرانية إلى أن ما يصل مجموعه إلى 19 ألف طفل - ومن بينهم مئات القاصرين من ذوي الإعاقة - قد نُقلوا إلى روسيا، في ما اعتبرته سيدة أوكرانيا الأولى أولينا زيلينسكا، في حديثها مع "اندبندنت"، إحدى "أبشع جرائم الحرب وأفظعها".
لكن حتى الآن، فإن الآليات المعمول بها على المستوى الحكومي تركز فقط على الأطفال الذين نقلوا إلى روسيا أو إلى الأراضي التي تحتلها روسيا. أما البالغون من ذوي الإعاقة مثل مكسيم، فيتعين عليهم أن يجدوا طريقهم بأنفسهم، مع أنهم معرضون، في كثير من الحالات، لخطر مماثل - إن لم نقل أكبر.
واستطراداً، قال مكسيم إنه لم يتمكن من الفرار إلى بر الأمان إلا لأنه تمكن من الاحتفاظ بهاتفه المحمول، ومن التواصل سراً مع منظمة غير حكومية أوكرانية استنجد بها عبر تطبيقات الرسائل المشفرة. وأضاف أنه تعرض للضغط مراراً وتكراراً للحصول على جواز سفر روسي، وقيل له إنه في حال لم يفعل، فقد يخسر حقه في الدعم الطبي. وهو ما يسمى إكراهاً على حيازة جواز سفر، ويعتبر توجهاً مخيفاً آخر ترصده "اندبندنت".
ولهذا السبب تحديداً، فهو يعتقد أن الروس كانوا يتعمدون نقل الأشخاص ذوي الإعاقة - الذين لا يستطيعون المقاومة أو إجلاء أنفسهم بأنفسهم - لأنهم يمثلون أهدافاً سهلة لتغيير التركيبة السكانية في جنوب أوكرانيا.
وتابع شرحه: "يريدون أن يثبتوا أن عدد الأوكرانيين الذين يدعمون روسيا أكبر مما هو عليه في الواقع. ويريدون أن يقولوا علناً: ’انظروا إلى عدد الأوكرانيين الذين يأتون إلى روسيا ويأخذون جوازات سفر روسية‘".
وأضاف: "أعتقد أن روسيا تستهدف الأشخاص ذوي الإعاقة لأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يستطيعون المقاومة. وبالتالي، يجدون أنفسهم مرغمين على الانصياع".
وفي سياق موازٍ، يشار إلى أن هذا التحقيق هو جزء من سلسلة تحقيقات تكشف النقاب عن محنة ما لا يقل عن 2.7 مليون شخص من ذوي الإعاقة، ممن يعيشون في أوكرانيا، وممن تأثروا "بطريقة غير متكافئة" بالغزو الشامل الذي نفذه الرئيس بوتين، وفق ما ذكرت الأمم المتحدة، التي أعربت عن "بالغ قلقها" بشأن هذه الفئة من السكان.
ومن بين الجرائم المروعة التي وثقناها، لا بد من الإشارة إلى استخدام الجنود الروس لمجموعات من الأشخاص ذوي الإعاقة كدروع بشرية، وحرمانهم من الغذاء والدواء في مناطق الجبهة، مما أدى في إحدى الحالات إلى وفاة 12 شخصاً.
إلى ذلك، كشف البحث النقاب عن أوجه الفشل في نظام الرعاية الأوكراني المتقادم الموروث من الاتحاد السوفياتي، والذي يعتمد على وضع الأشخاص في مؤسسات الرعاية بشكل منهجي منذ الطفولة في كثير من الأحيان. وقد ورد على لسان خبراء الأمم المتحدة، وفي تقارير الاتحاد الأوروبي، وصف للأوضاع يفيد بأنها "مريعة".
ومن ثم، فإن تحقيق "اندبندنت" كشف غياباً تاماً خطط إجلاء متماسكة ضمن هذه المؤسسات، عندما زحفت الدبابات الروسية عبر الأراضي الأوكرانية. وكذلك، كشف عن نقص كبير في البيانات. واليوم، يسود الظن بأن ما لا يقل عن 42 ألف شخص يعيشون داخل مؤسسات الرعاية التي يصل عددها إلى المئات. إلا أن الجمعية الخيرية الأوكرانية للإعاقة "الكفاح من أجل الحقوق" Fight For Rights اعتبرت، في معرض حديثها مع "اندبندنت"، أن العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، وسط غياب لأي إحصاءات مؤكدة حول الموضوع.
وفي سياق متصل، تواصلنا مع السلطات الأوكرانية مراراً خلال الأشهر الـ18 الماضية، آملين بالحصول على معلومات عن عدد الأشخاص المقيمين في المؤسسات. بيد أننا لم نتلق أي رد ملموس حتى الآن. وبالتالي، لا أحد يعرف بالتحديد عدد المقيمين في مؤسسات الرعاية هذه، ممن لا يزالون في عداد المفقودين.
أما الدكتور كوين، فأكد أنه على امتداد البحث الذي أشرف عليه، توصلت التقارير إلى "استنتاج غير مفاجئ، وهو أن ذوي الإعاقة يكونون غير مرئيين [غير ذي أهمية] في الصراعات".
وقال في هذا الصدد: "لا يحظى هؤلاء بأي اعتبار"، مضيفاً أن تحقيقات من هذا القبيل أثبتت الحاجة إلى "نقلة نوعية" في المواقف تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة في جميع الصراعات".
ومن جهته، أعرب يوناس روسكوس، النائب السابق لرئيس اللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، الذي أعد التقرير الأممي الرئيس عن القضية، عن موافقته على الكلام هذا.
وأفاد بالقول: "لدينا نقص في البيانات لأن الأشخاص ذوي الإعاقة عادةً ما يكونون عرضة للإهمال أو النسيان".
وبالكلام عن فولوديمير (73 سنة)، كانت المرة الأخيرة التي تحدث فيها إلى ابنته إينا في يوليو (تموز) 2022، بعد نحو خمسة أشهر من اقتحام الروس لمنطقة خيرسون الجنوبية، حيث كانت تقيم في جمعية للنساء من ذوي الإعاقة الذهنية.
وكانت إينا، البالغ عمرها 46 سنة، قد طمأنت والديها في اتصال هاتفي قصير، وقالت إنها بألف خير، وأكدت أنها ليست مريضة.
وأضاف والدها بصوت غلبه اليأس: "كالعادة، قالت إنها اشتاقت إلينا وتريد العودة إلى المنزل".
وفي طفولتها، وُضِعت إينا في مؤسسة في كوميشاني، شأنها شأن عدد كبير من الأشخاص من ذوي الإعاقة في عهد الاتحاد السوفياتي، عندما كان الدعم منعدماً لمقدمي الرعاية والعائلات. وقبل الغزو، كان والداها يقومان برحلة إلى كوميشاني لزيارتها ويصطحبانها في عطلة نهاية الأسبوع.
ومن ثم دخلت الدبابات الروسية.
وآنذاك، لم يتوفر أي هيكل تنظيمي لإجلاء نحو 500 امرأة بأعمار تتراوح بين 19 و90 سنة، كن مقيمات في مبنى الإيواء.
وروى والدها: "بقينا على تواصل معها حتى صيف 2022، وكانت تطمئن علينا. بيد أن شبكات الهاتف المحمول انقطعت بعد ذلك، وفقدنا الاتصال بها".
وعاشت العائلة حالة من الانقطاع التام حتى نوفمبر، إلى ما بعد انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون حيث كان دار الإيواء. فسارع الوالدان بالتوجه إلى المناطق المحررة حديثاً، في محاولة يائسة منهما للعثور على ابنتهما.
وهناك، عرفا بأن إينا وعشرات النساء الأخريات اللاتي عاشت معهن قد اختفين.
وروى قائلاً، بينما راحت زوجته تبكي بهدوء في الخلفية: "أخبرتنا الممرضات بأن الروس جاؤوا إلى المستشفى وسألوا من منهن تريد الذهاب إلى البحر".
وصحيح أن الرحلات إلى شاطئ البحر الأوكراني كانت تنظم قبل الحرب. وبالتالي، افترض فولوديمير أن النساء [في دار الرعاية] اعتقدن أنهن سيعُدن.
وأضاف بعد استراحة: "لقد تعرضن للخداع".
ومن ثم، ذكر أن عائلات النساء لم تُبلغ بـ"الرحلة" وقال إن ابنته معزولة عن أي تواصل مع العالم الخارجي.
وأكمل قائلاً: "لقد أخذن جميع أوراقهم لكنهن رحلن من دون أي مقتنيات شخصية تقريباً. والحمد لله لأنني أملك نسخة عن جواز سفرها".
وفي حديثها مع "اندبندنت"، أفادت ليوبوف أناتوليفنا، وهي ممرضة عملت في دار الإيواء وبقيت فيه على امتداد أشهر الاحتلال الثمانية، بأن طاقم العمل كان عاجزاً عن منع ما حصل. وقالت إن مسؤولاً روسياً جاء إلى دار الإيواء وأعلم من فيه بالخطة. وفي اليوم التالي، حضر رجال مسلحون إلى المكان.
وسألت: "كيف تتخذ أي قرار بالمساعدة بوجود جنود مسلحين بالبنادق؟"، مضيفةً "لقد اقتيدت النساء بحجة إجلائهن. وبالمجموع، جرى اصطحاب 54 امرأة، بأعمار تراوحت بين 30 و50 سنة".
وأوضحت أن معظم النساء اللاتي وافقن [على الرحيل] كن عاجزات عن اكتساب فكرة شاملة وعن فهم قرار حيوي ومعقد كهذا يتعلق بحياتهن. وكل ما كان بوسع الممرضات فعله هو وضع هواتفهن المحمولة في جيوبهن أثناء صعودهن على متن الحافلات الصفراء، وتوصيتهن بالاتصال عند الوصول إلى وجهتهن النهائية.
وتابعت الممرضة: "اتصلت النساء بعد أيام، وقلن إنهن وصلن، مؤكدات على أن الأمور بخير وأنهن يحصلن على الطعام. لكن الاتصال انقطع وكان هذا كل ما سمعناه".
وتجدر الإشارة إلى أن إجلاء المدنيين من دون موافقتهم مسموح كتدبير استثنائي بموجب ميثاق جنيف الرابع، في حال كان الهدف منه ضمان سلامة السكان، أو لأسباب حربية، كإخلاء منطقة قتال. ومن ثم، فإن هذه المنطقة شهدت أعمالاً عدائية، وسط صراع أوكرانيا وروسيا على الأراضي التي احتلتها موسكو.
لكن في حال كان الحافز الوحيد هو الإجلاء لأسباب إنسانية، لكان ينبغي إبعاد جميع الأشخاص المتواجدين في المؤسسة. ومن ثم، لا تفسير لسبب قرار روسيا بمنع النساء من التواصل مع أفراد عائلاتهن، أو لمواصلة التكتم الظاهري على مكان تواجدهن.
وقالت أناتوليفنا إن مدير المؤسسة، الذي وافق على القرار، كان يتعاون مع الجنود الروس منذ البداية، وقد اختفى بعد فترة وجيزة من استعادة القوات الأوكرانية السيطرة على البلدة في نوفمبر.
أما فولوديمير، فقال إنه وزوجته رفعا دعوى جنائية إلى النيابة العامة الأوكرانية العليا، وتمكنا في إطار تحقيقهما من تعقب ابنتهما إلى مؤسسة في كراسنوبيريكوبسك في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا. وقد استعانا بالصحافية الاستقصائية الأوكرانية هانا مامونوفا، التي أكدت أنها تمكنت من الاتصال بالمؤسسة لوقت قصير وتحدثت مع إينا قبل عام. بيد أن الاتصال عاد لينقطع مجدداً منذ ذلك الحين.
وأخبرت مامونوفا "اندبندنت" بالقول: "إن إعادة هؤلاء النساء أصعب من إعادة الجنود، لأنهن لا يتمتعن بوضع أسرى الحرب، وقد ’وقعن‘ فعلياً على اتفاق للذهاب إلى هناك. ومن ثم، فإن هؤلاء ليسوا أطفالاً، مما يجعل الوضع، هو أيضاً، بالغ الصعوبة".
وبحسب أقوالها، فإن ذلك يعني أن العائلة لا تقدر الحصول على المساعدة من الصليب الأحمر الذي يعمل حصرياً مع أسرى الحرب. وأن جهود المنظمات الحقوقية الأوكرانية باءت بالفشل هي التالية، بسبب أعمار النساء، لاعتبارهن، في الواقع، نساء بالغات و"راضيات".
وقد وصفت مامونوفا وضع العائلات بـ"القاسي إلى أقصى الحدود"، وقالت: "أخبرني المدعي العام الأوكراني بأنهم بصدد الإعلان قريباً عن توجيه اتهامات ضد أولئك الذين أخذوا النساء إلى شبه جزيرة القرم. وآمل أن يكون ذلك مجدياً بطريقة أو بأخرى".
وقالت: "لا أنفك أخبر الجميع بأمر هؤلاء النساء، وأسأل إن كان بإمكاننا إعادتهن إلى أوكرانيا. لكن في الوقت الراهن، لا أحد يستطيع ذلك".
أما فولوديمير، الذي لا يزال يعيش تحت وطأة القصف العنيف في المناطق الخاضعة للسيطرة الأوكرانية في خيرسون، فاعتبر أنه ما من طريقة لاستعادة إينا. فهو يخشى الاتصال بالمركز في شبه جزيرة القرم، وهو آخر مكان معروف تواجدت فيه، والاحتمال قائم بأن تكون السلطات الروسية قد قررت نقلتها إلى أعماق الأراضي الخاضعة للسيطرة الروسية أو إلى قلب روسيا.
وأوضح بغصة: "لم يتغير الوضع بأي شكل من الأشكال، ولا أخبار جديدة على الإطلاق. ووطأة الأمر صعب، صعب جداً على زوجتي"، مضيفاً "نحن قلقون للغاية. فكم يصعب شرح مدى قلقنا".
"حضر جنود وبدأوا يصادرون الهواتف وأجهزة الكومبيوتر المحمولة العائدة إلى الأطفال" – أوليكساندر
وفي سياق مماثل، وفي اليوم نفسه الذي دخل فيه مسؤولون روس مجهولو الهوية إلى مؤسسة إينا حاملين وعوداً مغرية بـ"رحلة على شاطئ البحر"، كانت مؤسسة أخرى في منطقة خيرسون تشهد، هي التالية، عملية إجلاء.
وقد حصل ذلك في 20 أكتوبر 2022، لكن هذه المرة، على مسافة 17 كيلومتراً تقريباً باتجاه الشرق، على الضفة المقابلة من نهر دنيبرو، في بلدة اسمها أوليشكي. وفي ذلك المكان، كان الروس قد نصبوا، بمجرد وصولهم إلى البلدة، رئيسهم الخاص في "مدرسة داخلية" للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وكان ما لا يقل عن 82 طفلاً، تتراوح أعمارهم بين أربعة أعوام و18 سنة، مسجلين كمقيمين في المكان. ولم يتمكنوا هم أيضاً من إخلاء بلدتهم عندما احتلتها روسيا.
وقبل ذلك بأيام، كان أطباء روس قد أتوا إلى المكان واختاروا أطفالاً، وقالوا إنهم سيأخذونهم "ليستردوا عافيتهم" في مصحات، وفق ما شرحه أوليكساندر غليبكا، وهو رجل أوكراني معوق، كان يعيش هو التالي في تلك المؤسسة، وقد بقي على تواصل، في السر، مع طاقم العمل فيها.
وروى قائلاً: "حضر جنود وبدأوا يصادرون الهواتف وأجهزة الكومبيوتر المحمولة العائدة إلى الأطفال والعاملين في المؤسسات. وقد منعوا صديقي، الذي كان يعمل هناك، من مغادرة المبنى، لأنه رفض أن يجري ترحيله"، مضيفاً "في البدء، اكتفوا باصطحاب الأولاد القادرين على السير بمفردهم".
لكنهم عادوا لاقتياد المزيد.
وقال غليبكا إن الأطفال نقلوا على متن حافلات، وجرى توزيعهم بين مستشفى للأمراض النفسية في سيمفيروبول، وهي المدينة الثانية الأكبر حجماً في شبه جزيرة القرم المحتلة، وبين مؤسسة في بلدة سكادوفسك، على ضفاف البحر الأسود، المحتلة هي أيضاً من الروس، وهو ما أكده لاحقاً أندريه يرماك، مدير مكتب الرئيس زيلينسكي، في منشور على صفحته الرسمية على تطبيق المراسلة "تليغرام".
وبالنسبة إلى الأطفال الذي يعانون من إعاقات جسدية، كانت الظروف مريعة في المكانين، وفق ما كشفته مجموعات حقوقية تحاول تحريرهم. والحال أن القانون الإنساني الدولي واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ينصان على توفير حماية واهتمام خاصين للأشخاص ذوي الإعاقة، مما يعني أن روسيا ملزمة بالتأكد من أن ظروف الأماكن التي ينقلون إليها الأشخاص ملائمة.
ويعرف غليبكا عن وجه حق أن 16 طفلاً أخرجوا [من دور الرعاية] في أكتوبر 2022، لكن مسؤولين أوكرانيين أفادوا بأن روسيا ترفض تزويدهم بقائمة كاملة [بالأسماء] - فيما يعتبر، مرة أخرى، انتهاكاً للقوانين الدولية التي تغطي حقوق الطفل.
وفي 12 نوفمبر، نشرت ماريا لفوفا-بيلوفا، مفوضة روسيا لحقوق الطفل، على تطبيق "تليغرام"، أنه جرى "إجلاء" ما يبلغ مجموعه 52 طفلاً، ومن بينهم أطفال من ذوي الإعاقات الخطرة، من مؤسسة أوليشكي إلى شبه جزيرة القرم. وقالت إن الوضع على الجبهة أصبح بالغ الخطورة، بحيث أصبح بقاء الأطفال في المكان محفوفاً بالأخطار.
ولم يرد أي ذكر آخر لأطفال أوليشكي أو لمكان تواجدهم النهائي. وقد نشرت المسؤولة الروسية في وقت لاحق منشورات، تحدثت فيها عن جمع تبرعات من أجل توفير الإمدادات لحضانات أخرى بقي فيها أطفال في أوليشكي، مما يثير تساؤلات حول سبب إفراغ بعض دور الأيتام دون سواها، إذا كان الأمر يتعلق فعلياً بما يسمى بالإجلاء الإنساني. وفي منشورات أخرى، ناقشت لفوفا-بيلوفا موضوع تبني الأطفال الأوكرانيين. وهنا، يُذكر أن لفوفا-بيلوفا - والرئيس بوتين - مطلوبان من المحكمة الجنائية الدولية بتهمتي النقل القسري للأطفال وترحيلهم.
وعلى صعيد آخر، حددت "اندبندنت" هوية صبيين فقط من مجموعة أوليشكي، نجحت السلطات الأوكرانية في العثور عليهما وإرجاعهما: وهما مراهق مصاب بالتوحد الشديد يدعى ساشا، وفتى اسمه نيكيتا، كان عمره تسع سنوات فقط عندما اقتيد. وقد عثر على هذين الصبيين وجرى إنقاذهما بمساعدة منظمة "أنقذوا أوكرانيا" بعد أشهر من العمل الشاق. وعلى نحو منفصل، اضطر أقارب الصبيين إلى القيام برحلات محفوفة بالأخطار عبر أراضي العدو، متخفين خلف قصص وهمية لإعادة الولدين إلى أرض الوطن.
ومن جهتها، روت المتحدثة باسم "أنقذوا أوكرانيا"، أولها إيروخينا، لـ"اندبندنت"، أن أكثر ما يثير قلق المنظمة هو لجوء روسيا إلى التبني القسري للأطفال الذين جرى نقلهم، إلى جانب استخدام معسكرات "إعادة التعليم" وغسل الأدمغة.
وقالت إيروخينا في معرض حوارها مع "اندبندنت": "نعتبر ذلك إبادة جماعية للأوكرانيين لأنهم يريدون تحويلهم إلى مواطنين روس"، مضيفة "لقد رأينا الكتب المدرسية التي حصلوا عليها في المكتبة المدرسية عن التاريخ الروسي واللغة الروسية والمواد الأخرى... وهو فعلاً غسيل دماغ".
أما روسيا، فلا تخفي هذا الواقع على شبكات التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار لديها، حيث تتباهى باستمرار بعمليات نقل أشخاص من ذوي الإعاقات وتجاهر بترحيلهم.
وفي 6 نوفمبر 2022، تباهت صفحة "تليغرام" التابعة لإدارة الاحتلال المعينة من روسيا في خيرسون، مرة أخرى، بأجلاء 400 شخص يعيشون في مؤسستي هولا بريستان وكاخوفكا لإيواء ورعاية المسنين والمقعدين والمعوقين في جنوب أوكرانيا.
وجاء في المنشورات أن هؤلاء نقلوا بدايةً في سيارات الإسعاف إلى شبه جزيرة القرم، ومن ثم إلى مدينتي روستوف وفورونيج الروسيتين - على بعد حوالي 750 كيلومتراً - "من أجل حياة مريحة". ولم تتمكن "اندبندنت" من تتبع ما حل بهؤلاء الأشخاص.
وبعد أربعة أيام، كشفت منشورات أن جميع المقيمين في مؤسسة للأمراض النفسية والعصبية في خيرسون أرسلوا "للعلاج" في ستافروبول في جنوب غرب روسيا، على بعد نحو 750 كيلومتراً شرقاً، إنما في اتجاه مختلف.
واللافت أن كلاً من هذين الإجراءين قد يكون مرادفاً لجريمة الحرب المتمثلة في الترحيل.
وفي الفيديو المصاحب لهذا المنشور، يمكن رؤية عشرات الأشخاص وهم يستقلون الحافلات، ومن بينهم 14 شخصاً من "دار إيواء دنيبرو للأمراض النفسية والعصبية"، وفق ما أضافت إدارة خيرسون الروسية في منشور لاحق.
وكانت وسائل الإعلام الأوكرانية قد أوردت سابقاً أن مجموع 98 شخصاً أخرجوا من هذه المؤسسة الواقعة في منطقة نوفا-خوخلوفا المحتلة، بما يشمل أعضاء من طاقم العمل، و"اقتيدوا قسراً إلى الحافلات".
وكذلك، تجدر الإشارة إلى صدور عدد إضافي من المناشير التي تتناول عمليات "إجلاء" حصلت في ديسمبر 2022 وأبريل 2023.
وهنا أيضاً، لم تتمكن "اندبندنت" من متابعة ما حل بهؤلاء الناس، وتسود المخاوف من أن يكونوا هم أيضاً قد اختفوا.
وفي هذا الصدد، أعلنت نيللي إيسايفا من منظمة "المساعدة على الرحيل" Helping to Leave، وهي منظمة أوكرانية غير حكومية تأسست في الأساس لمساعدة المدنيين على مغادرة المناطق الأوكرانية المحتلة بشكل مؤقت: "في الحالات التي عالجناها، لم يُبلَغ أي فرد بأنه ذاهب إلى روسيا أو بأنه سيرحل إلى أجل غير مسمى".
ومع استمرار الحرب، انتقلت المنظمة للعمل أيضاً على مساعدة الأوكرانيين الذين جرى ترحيلهم إلى روسيا.
هذه الجهود سمحت باستعادة مكسيم وسبعة أشخاص غيره، ممن كانوا في المؤسسة نفسها، إنما اقتيدوا لاحقاً إلى فورونيج.
وأوضحت "لم يجر إعلام الأشخاص الذين ساعدناهم بأنهم ذاهبون إلى روسيا، بل قيل لهم إنهم ذاهبون إلى شبه جزيرة القرم لتمضية فصل الشتاء، ليس إلا. وقد تلقوا وعوداً بأنهم يستطيعون العودة، لكنهم ما كانوا سيعيدون أياً كان منهم".
"نحن أهداف سهلة، ولا نستطيع حماية أنفسنا" – مكسيم
وبعدما انفصل مكسيم عن الجميع على متن القطار الذي غادر أوكرانيا، وجد نفسه لاحقاً في منشأة تشبه المستشفى في أنابا، بمحاذاة الشاطئ في روسيا. ولم يشرح له أي كان ما حل بالآخرين، أو لماذا جرى تفريقه عنهم. وأصيب بالهلع، وما عاد يتجرأ على طرح الكثير من الأسئلة.
وفي وصفه للمنشأة المترامية الأطراف، قال إنها أشبه بـ"مخيم مؤقت للاجئين" الأوكرانيين، يحرسه ضباط أمن روس. وكان يعيش بين ما يقدر بـ3000 أوكراني، كانوا جميعاً من منطقة خيرسون المحتلة في أوكرانيا - وقد أراد بعضهم أن يكونوا في هذا المكان، في حين أن البعض الآخر منهم كانوا يرفضون ذلك في قرارة نفسهم.
واللافت أن حرية التنقل لم تكن فعلية [في المكان]، حيث احتجزت السلطات أوراق الجميع. أما هو، فلم يُنقل إلى الطابق الأرضي، وقد فقد كرسيه المتحرك خلال رحلته إلى روسيا. وبسبب محدودية حركته، غالباً ما استحال عليه، جسدياً، مغادرة المبنى.
وبهذه الطريقة، شعر مكسيم بأنه وحيد ومعزول عن الأشخاص الوحيدين الذين عرفهم، ولم يكن يحمل وثائق سفره، فشعر بأنه محاصر وانتابه الخوف.
ومثله مثل إينا، لم يكن عمر مكسيم قد تجاوز الثلاث سنوات عندما وضعته عائلته في دار للأيتام، فيما كان يعتبر ممارسة اعتيادية في ظل الاتحاد السوفياتي، بالنسبة إلى ذوي الإعاقة. وفي سن الـ19، "تخرج" [من دار الأيتام] ونُقل إلى المؤسسة في بلدة خيرسون، حيث بقي مقيماً إلى أن وصل الروس. ولم يكن على اتصال بعائلته إلا لماماً: ويتذكر أنه كان يتصل بوالدته المقيمة في شبه جزيرة القرم المحتلة في بداية الغزو، ويقول لها إنه خائف ويحتاج إلى المساعدة.
وتابع كلامه: "كانت تقول لي، ’من الأفضل أن تبقى هنا، وستكون الأمور على ما يرام.‘ وتكتفي بهذا القدر من الكلام".
بالتالي، وعندما نُقل إلى أنابا في روسيا، احتاج إلى شهر كامل لاكتساب الشجاعة اللازمة ليخطط لهروبه. وكان لديه صديق في أوكرانيا، أخبره بأمر منظمة "المساعدة على الرحيل". فراسل صفحة الطوارئ التابعة للمجموعة باستخدام تطبيق مراسلة مشفر.
وخلال المحاولة الأولى لإجلائه، منعت السلطات الروسية مكسيم من المغادرة، قائلة إنه لم يحذرهم مسبقاً ولم يحصل على إذن بالمغادرة من الشرطة.
وقال: "في تلك المرحلة، كانوا يعرضون على الناس جوازات سفر روسية، حتى أنهم عمدوا إلى تهديد الناس".
وأضاف "بقيت أعدهم قائلاً: ’نعم، سآخذ جواز السفر الروسي‘ لكنني واصلت المماطلة. وفي النهاية، قلت لهم إنني ذاهب إلى متجر صغير قريب ولم أعد أبداً".
وفي مطلع أبريل الماضي، نجحت منظمة "المساعدة على الرحيل" في تأمين سيارة مناسبة تقله من ذلك المتجر. فاتجه شمالاً في رحلة طويلة، أولاً إلى كراسنودار، ومن ثم إلى مدينة روستوف على الدون الروسية، الواقعة عند حدود أوكرانيا، حيث بقي ينتظر أسبوعاً، حتى تمكنت المنظمة من تحديد مصيره بعد ذلك.
وفي نهاية المطاف، انتقل مكسيم إلى بلد أوروبي يشعر فيه اليوم بالأمان. وهو من بين قلة قليلة من المحظوظين، لأن الناس بمعظمهم عاجزون عن تنظيم عملية هروبهم.
واستطراداً، أفادت إيرينا فيدوروفيتش، من مجموعة "كافح من أجل حقوقك" Fight for Right للدفاع عن حقوق المعوقين في أوكرانيا، بأنها قلقة لأن الحكومة الأوكرانية والمجتمع الدولي لا يبذلان جهوداً كافية لرصد الأشخاص من ذوي الإعاقة ولمساعدتهم على العودة.
وأخبرت "اندبندنت" قائلة: "ﻻ وجود دليل على أي جهد حكومي معلن وشفاف لإعادة الأشخاص، ولا معلومات حتى للأقارب عن كيفية الإبلاغ عن شخص مفقود. وعلى ما يبدو، ما من تقارير عن حالات إخراج الناس قسراً من المؤسسات".
وأضافت "وبالنسبة إلى البالغين من ذوي الإعاقة، ممن عاشوا حياتهم كلها في المؤسسات، يكاد يستحيل عليهم العودة بمفردهم. وهنا، أقل ما يمكن أن تفعله الحكومة هو أن تتعقب هؤلاء الأشخاص، وتتطرق إلى هذا الموضوع علناً، وتتصرف".
وهذا الأمر ضروري ومحتم، لا سيما إن كانت روسيا تولي اهتماماً خاصاً بهذه المؤسسات.
ويقول مكسيم إن أكثر ما يثير قلقه هو اعتبار الأشخاص من ذوي الإعاقة "أهدافاً سهلة".
وأكمل قائلاً: "لا نستطيع حماية أنفسنا"، مضيفاً أنه يشعر بالقلق يومياً حيال المسنين الذين عاشوا أيضاً في هذه المؤسسة، والذين لا يملكون، في حيازتهم، أي هاتف لتنظيم عملية هروبهم كما فعل هو. ويشعر بالقلق بشكل خاص حيال الذين تقدم بهم العمر، وليس لديهم أي عائلة تهتم لأمرهم، أو أصدقاء قادرين على المساعدة.
وقال إنه بات يستوعب الآن أنه كان "موضوع جريمة حرب"، ويخشى ألا تكون الجرائم المرتكبة بحق الأوكرانيين من ذوي الإعاقة موضوع متابعة، بمستوى التأني المكرس لجرائم أخرى.
ومن ثم، فقد لقيت مسألة خطف الأطفال إلى روسيا، وبالطبع، مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، ضجة عالمية.
لكنه سأل: من يلتفت إلى ذوي الإعاقة؟
وأضاف بعد صمت عميق: "يحظى ذوو الإعاقة بقدر اهتمام أقل من الأولاد، مع أن كثيرين بينهم معرضون للخطر".
وختم بالقول: "نحن منسيون. واشعر بأن العالم نسي أمرنا".
© The Independent