ملخص
"لقد وصلت شكاوى ومطالب الفنانين العديدة إلى مسامع جلالة الإمبراطور متعلقة بالأعمال الفنية المرفوضة من جانب لجنة محكمي الصالون الرسمي. وبالتالي قرر جلالته وقد اتخذ قراره بأن يدع للجمهور نفسه مهمة الحكم على تلك الأعمال" هذا نص القرار الذي أصدره نابوليون الثالث لصالح الفنانين الذين رفضتهم المدرسة التشكيلية التقليدية
هو في الحقيقة حدث فني ضخم في تاريخ الحياة الفنية الفرنسية يعود لعام 1874، مما يعني أن باريس وفي هذه الأيام بالذات تحتفل بذكراه الـ50 بعد المئوية الأولى. ومن هنا ها هي الاحتفالات الفنية تعم مدينة النور لتصل إلى أوجها خلال الأيام الـ10 الراهنة منطلقة من متحف أورساي المعتبر محور الفنون التشكيلية الفرنسية، كما سادت في هذا البلد وعمت العالم كله تحت عنوان إجمالي هو "الانطباعية" التي ولدت من خلال المعرض / الحدث الذي لا بد من العودة للتذكير في المناسبة بأنه معرض لـ"المرفوضين" أقيم في ربيع ذلك العام بأمر من الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث، الذي ساءه أن يرفض محكمو الصالون الرسمي في ذلك العام بالذات عرض 3 آلاف لوحة من أصل 5 آلاف عمل قدم لهم ليعرض في "الصالون الرسمي"، الذي كان يعتبر في كل عام ومنذ القرن الـ17 وحتى نهايات القرن الـ19، المنطلق الحقيقي لفن الرسم الفرنسي، فبات مع الوقت امتثالياً تقليدياً لا يؤمن محكموه بالتجريب في الفن ولا يقبلون للعرض سوى اللوحات الكلاسيكية المصرة على عرض المشاهد الكلاسيكية والأسطورية، فإن نوعت قبلت لوحات رومانسية كان زعيمها أوجين ديلاكروا من دون منازع.
صيغة رسمية
مهما يكن لم يسفر ذلك الإجحاف في حق شبان الفن والمجددين فيه عن صراع حقيقي، حتى عام 1874 في الأقل حين أصدر نابوليون الثالث قراره الذي افتتحنا به هذا الكلام. وهو قرار عبرت عنه الجريدة الحكومية الفرنسية يومها بالصيغة الرسمية التالية: "لقد وصلت شكاوى ومطالب الفنانين العديدة إلى مسامع جلالة الإمبراطور متعلقة بالأعمال الفنية المرفوضة من جانب لجنة محكمي الصالون الرسمي. وبالتالي قرر جلالته وقد اتخذ قراره بأن يدع للجمهور نفسه مهمة الحكم على تلك الأعمال، فيصار إلى عرض اللوحات المرفوضة كلها في جناح آخر من أجنحة قصر الصناعة، إذ يقام الصالون الرسمي عادة. وسيكون هذا المعرض اختيارياً يحق المشاركة فيه لكل عمل فني مرفوض، أما الفنانون الذي لا يودون المشاركة فتتعهد السلطات المسؤولة بإعادة أعمالهم لهم، شرط أن يعلموا الإدارة مسبقاً بذلك".
تسامح ونوايا حسنة
اليوم قد لا يبدو هذا النص سوى إعلام رسمي يعبق بكل النوايا الحسنة وضروب التسامح، لكنه في ذلك الحين كان ثورة فنية حقيقية وانقلاباً على التقاليد قادته السلطات المتنورة، وهي تعلم سلفاً أنها بقرارها الإمبراطوري التاريخي، هذا لم تفعل أقل من إطلاقها معركة الجديد ضد القديم، وتمكين فرنسا من القبض على ناصية الفن الحديث من طريق تحويل الفن من تصوير للعتائق والأساطير في لوحات ضخمة تحل محل اللوحات الدينية الأكثر منها ضخامة، إلى فن يتعامل مع الحياة اليومية وشؤون الطبيعة وألوانها ويتوجه إلى الطبقات الوسطى الصاعدة في المجتمع لا إلى القصور بديلة للكاتدرائيات. باختصار كانت ولادة "الانطباعية" على تلك الشاكلة وبدعم رسمي، واحدة من أكبر الثورات في تاريخ الفن والمجتمع. ومع ذلك يجب ألا ننسى دائماً أن تلك الثورة لم تكن لا انطباعية ولا غير ذلك. فهذا الاسم أطلق عليها على سبيل السخرية من صحافي ناقد شاء أن يسخر من عنوان اللوحة التي شارك بها كلود مونيه في ذلك المعرض "الانطباعي" الأول فالتصق التنعبير بالحركة اسماً تقنياً لها.
... وضاعت جماعة باتينيول
مهما يكن من أمر ربما كان من الأفضل لتلك الحركة أن تحمل منذ البداية وبعد ذلك، الاسم الذي كان لها قبل تجمع نحو 300 لوحة حملت صفة انطباعية في ذلك المعرض الأول، الذي أطلقها في ذلك الوقت بالذات ولكن ليس تماماً في الجناح المخصص للمرفوضين في قصر الصناعة، بل في الدار الفسيحة التي يملكها المصور الشهير نادار الذي استضاف، وفي ذلك الوقت بالذات معرض "جماعة باتينيول" الأول، الذي كان إرهاصاً بولادة الانطباعية وفيه كان عرض مونيه للوحته "انطباع شمس مشرقة" التي في معرض سخريته منها سمى الناقد الصحافي التيار بأكمله. ولكن من أين جاء الاسم الأول للجماعة؟ ببساطة من اسم الشارع الذي يشكل اليوم زاوية من ساحة كليشي في الشمال الباريسي، وكان إنشاؤه جديداً في ذلك الحين وجماله فاقعاً إلى درجة أن الرسام إدوار مانيه العائد حديثاً من إقامة لفترة في إسبانيا حاملاً معه درامية فنونها، سارع إلى إقامة محترف له هناك. وفي ذلك الحين كان مانيه بدأ يحلق من حوله جماعة من الفنانين الشبان ورفاق لهم من المثقفين التجديديين الذين يعتبرون أنفسهم طليعة فنية ونقدية تحديثية. ولقد اعتاد مانيه حينها أن يتخذ لنفسه مجلساً في زاوية من مقهى "غيربوا" الذي يتوسط الشارع نفسه حيث توجد الجادة التي يفضي إليها شارع باتينيول عرفت باسم جادة باتينيول الكبرى وتسمى اليوم جادة كليشي.
تحت زعامة مانيه
كان من بين المداومين على لقاءات المجموعة في المقهى وآلت السلطة فيه إلى إدوار مانيه نفسه، الكاتب إميل زولا الذي كان في مستهل شبابه ويحاول في الأدب الروائي أن يخوض تجارب الكتابة عن الحياة اليومية، والناقدان ثيودور دوريه ولويس إدمون دورانتي والفنان زاكاري آستروك، بل حتى أنطونان بروست الذي سيعرف لاحقاً بتوليه منصب وزير الفنون لمدة قصيرة. بيد أن النجوم الحقيقيين لتلك الجلسات سيكونون الرسامين أنفسهم من أصحاب الأسماء التي ستلمع لاحقاً بعدما كانت تستظل فيء إدوار مانيه أول الأمر، من كلود مونيه إلى ألفريد سيسلي ومن كونستانتاين غوي إلى فردريك بازيل وهنري فانتين لاتور وإدغار ديغا وبيار أوغست رينوار، وصولاً إلى بول سيزان وكاميل بيسارو وبالطبع المصور فيليكس تورناشون الذي سيدخل التاريخ تحت اسم نادار أولاً بوصفه ملتقط صور معظم أقطاب الحركة الفنية والسياسية والأدبية الفرنسية، وغير الفرنسية في ذلك الحين بحيث اعتبر صاحب أعظم مصور للبورتريهات، وثانياً بوصفه صاحب تلك الدارة التي أقيم فيها المعرض التأسيسي لـ"الانطباعيين"، وأيضاً كما أشرنا في مثل هذه الأيام من عام 1874. وهنا على سبيل ختام هذه الوقائع التاريخية التي بعدما كانت في ما يشبه الظل، وفي الأقل بالنسبة إلى الجمهور العريض، ها هي تستعاد اليوم في باريس لهذه المناسبة التي لا ريب أن فعاليتها ستعود للظل خلال الشهرين القليلين المقبلين، إذ تنشغل باريس وفرنسا وعالم الرياضة بشكل عام بالألعاب الأولمبية وضجيجها، لا بد من إشارة أخيرة في هذا السياق تتعلق بتأسيس رسمي قبل المعرض الانطباعي الأول بشهور قليلة لـ"جمعية فنية جديدة" نالت ترخيصها يوم الـ27 من ديسمبر (كانون الثاني) 1873 ليعلن رسمياً بعد ذلك بـ20 يوماً. جمعية لا شك أنها كانت هي في خلفية ذلك المعرض. وكان الإعلان على الصورة التالية: "هي جمعية مغفلة تأسست من مجموعة من الفنانين في باريس. لقد أبلغتنا المجموعة بهذا الخبر عن تأسيسها وها نحن نبادر إلى نشره كما وصلنا مهنئين الفنانين بمبادرتهم هذه متمنين لهم ولأعمالهم الفنية كل نجاح وازدهار"، (كما جاء حرفياً في الخبر المنشور في "مدونات الفنون والغرائب" بتاريخ الـ17 من يناير (كانون الثاني) 1874، الصفحة 19).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جمعية بصيغة رسمية
والحقيقة أن في خلفيات ذلك الخبر الرسمي أن كلود مونيه وبيار أوغست رينوار وإدغار ديغا وكاميل بيسارو وألفريد سيسلي اجتمعوا في محترفات المصور الفوتوغرافي نادار، 25 بوليفار الكبوشيين في باريس، في ذلك اليوم ليؤسسوا جمعية مغفلة تضم الفنانين الرسامين والنحاتين وصانعي المحفورات هادفين إلى ثلاثة أمور: أولها تنظيم معارض حرة من دون لجان تحكيم أو تنويهات أو جوائز، ويمكن للمشاركين أن يعرضوا أعمالهم من دون رقابة أو تدخل من أي كان، وثانيها بيع الأعمل للهواة بكل حرية، والثالث نشر مطبوعة متخصصة في شؤون الفن في أقرب وقت ممكن. ونص ميثاق الجمعية المعلن يومذاك أن صندوق الجمعية، وفي سبيل تمويل أهدافه يحصل على ما نسبته 10 في المئة من مبيعات اللوحات وسواها من الأعمال المعروضة في المعرض الأول الذي سيقيمه الفنانون الانطباعيون.