ملخص
في وقت يتراجع ظهور مجموعة "فاغنر" ويخبو بريق أعضائها، سجلت موريتانيا ظهور عدد من عناصر هذه المجموعة في أراضيها لكن تحت اسم "الفيلق الأفريقي".
"ما قطعته على النفس من وعود سيتحقق، وأعود لأكرر أن الخيار متروك لكل واحد منكم، لكنني متأكد من أنه سيكون خيار الجنود الروس الذين أدركوا خطأهم المأسوي". هذا ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين في لقائه مع قيادات مجموعة "فاغنر" في أعقاب فشل تمردها في يونيو (حزيران) من العام الماضي.
وكانت هذه المجموعة المسلحة باتت في أعقاب مصرع قائدها ورمزها يفغيني بريغوجين وعدد من قياداتها إثر انفجار طائرة كانوا يستقلونها قاصدين سان بطرسبورغ من موسكو في نهاية الشهر نفسه، في حكم "غير الموجودة" بعد إعلان بوتين أن هذه المجموعة يمكن أن تختار واحداً من طرق عدة يمكن أن يسلكها هؤلاء "المتطوعون المرتزقة": فإما الانضمام إلى القوات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع الروسية بعد إبرام العقود الخاصة بذلك أو التوجه إلى بيلاروس كما سبق وطرح رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، الذي أعلن عن إعداد مخيمات خاصة بهم هناك أو الانضمام إلى عائلاتهم وأصدقائهم أينما كانوا.
ونذكر أن صحيفة "كوميرسانت"، المعروفة بعلاقتها القريبة من الكرملين، أشارت نقلاً عن بوتين إلى أن "كثيرين أومأوا برؤوسهم عندما قال ذلك"، بينما أكد بريغوجين، الذي كان يجلس في المقدمة ولم ير ما أومأ به مرؤسوه، أن "الرجال لا يوافقون على هذا القرار".
في دائرة النسيان
وكان ذلك اللقاء الذي أعقبته حادثة "انفجار طائرة بريغوجين" بمثابة الإعلان عن نهاية مجموعة "فاغنر" المسلحة وانفراط عقدها، على رغم كل ما عقد من اجتماعات واتخذ من قرارات. وننقل عن "الصحيفة البرلمانية" الروسية ما صرح به فلاديمير كوزين نائب رئيس لجنة مجلس الاتحاد المعنية بالتشريعات الدستورية وبناء الدولة، حول أنه "ليس لدينا الإطار القانوني لإنشاء أي نظائر مماثلة لمجموعة (فاغنر)". ومضي كوزين ليقول إن "مشروع قانون الشركات العسكرية الخاصة لا يزال قيد التنفيذ، لكن حتى الآن توقف كل شيء على مستوى مناقشة الخبراء. وحتى الآن لا يوجد إجماع بين جميع المشاركين في العملية حول ما إذا كنا في حاجة إلى مثل هذا القانون أم لا. لذلك لا أستطيع أن أعد بأي قدر من اليقين بأي إدخال للشركات العسكرية الخاصة في المجال القانوني خلال المستقبل القريب".
وكشف الجنرال أندريه كارتابولوف رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما عما نشهده اليوم في عديد من الدول الأفريقية، أن مجموعة "فاغنر" قد حلت، ويواصل بعض أفرادها تنفيذ مهام في البلدان الأفريقية، ولكن على سبيل المثال تحت علامة تجارية مختلفة وبرعاية وزارة الدفاع، بعد توقيع العقود الخاصة بذلك مع القوات المسلحة، بينما انضم البعض الآخر إلى الحرس الوطني الروسي". فضلاً عن إشارة البرلمان الروسي إلى ما اختاره فريق ثالث من المجموعة بالانضمام إلى عائلاتهم للراحة.
وأشار أندريه كارتابولوف كذلك إلى أن مقاتلي "فاغنر" ممن اختاروا الانضمام إلى وزارة الدفاع أو الحرس الوطني يتمتعون بوضعية المتطوعين بموجب عقود أبرموها مع وزارة الدفاع بصورة فردية، وعلى أساس عام، بما يعنى عدم استيعاب "فاغنر" كبنية واحدة من قبل أي مؤسسة أو تنظيم.
الفيلق الأفريقي
وكانت وزارة الدفاع الروسية بقيادة الوزير السابق سيرغي شويغو، قد أوكلت مهمة الإشراف على توزيع وتحديد مهام النشاط الموكلة إلى الباقين من أعضاء "فاغنر" إلى الجنرال يونس بك يفكوروف نائب وزير الدفاع والرئيس الأسبق لجمهورية إنغوشيتيا المجاورة للشيشان في شمال القوقاز. ومن هنا كانت بداية الرحلات المكوكية للجنرال يفكوروف، بما تضمنته من لقاءات مع عدد من رؤساء بلدان القارة الأفريقية. وسبق أن أشارت "اندبندنت عربية" في موضوع سابق من موسكو، إلى هذه اللقاءات وما استهدفته من خطط ومهام.
وفي مطلع أبريل (نيسان) الماضي كشفت وكالة أنباء "ريا نوفوستي" عن وصول "متخصصين روس" إلى النيجر، وقالت إن ما وصفتهم بـ"الفيلق الأفريقي" سيضطلعون "بمهمة إقامة العلاقات والتشكيل المشترك والتدريب لجيش النيجر". ونقلت عن أحد "هؤلاء" ما قاله حول إنهم "أحضروا معهم الموارد التعليمية والمادية لتدريب مختلف المتخصصين". ومن جانبها أشارت وكالة "رويترز" نقلاً عن مصادر في البنتاغون إلى أن "أفراداً عسكريين روساً استقروا في أراضي القاعدة الجوية 101 في النيجر، إذ تتمركز القوات الأميركية".
وإذ كشفت الوكالة الإعلامية الغربية عن بدء ظهور ما جرى تسميته "الفيلق الروسي" في النيجر، قالت إن الوحدة الأميركية ستضطر قريباً إلى مغادرة البلاد، وإن "الروس يستخدمون حظيرة منفصلة في القاعدة الجوية". مع ذلك، أشار أحد مصادر شبكة تلفزيون "سي أن أن" إلى أن القاعدة الجوية في النيجر "لا تملك مثل هذه المساحة الكبيرة". ووصف مصدر لـ "رويترز" الوضع الراهن بأنه "ليس جيداً للغاية وإن كان من الممكن التحكم فيه على المدى القصير". وقد أوضحت الولايات المتحدة لسلطات النيجر أن الموظفين الأميركيين لا يمكنهم الإقامة في القاعدة مع الجيش الروسي جنباً إلى جنب.
وفيما وصفت صحيفة "فايننشال تايمز" الوضع الراهن في أفريقيا بأنه "انتصار استراتيجي آخر لروسيا"، أعلنت سلطات النيجر طلبها سحب القوات الأميركية، وهو ما وافقت سلطات واشنطن على تنفيذه في غضون أشهر عدة. وكانت صحيفتا "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" أشارتا إلى أن "القاعدة الجوية الأميركية 101 شيدت قبل ستة أعوام بكلفة 110 ملايين دولار، فيما كشفت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية في ما سبق عن خطط لنشر قوات "الفيلق الروسي" في النيجر التي قيل إنها ستكون بديلاً لمجموعة "فاغنر"، إلى جانب مهام إرسال هؤلاء إلى أربع دول أفريقية أخرى، هي ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطي ومالي وبوركينا فاسو.
ومما يتردد في هذا الصدد نشير إلى ما يقولونه حول إن "الميزة الحقيقية التي يتفوق بها الروس على نظرائهم من الولايات المتحدة تتمثل في أن لديهم أسلحة يبيعونها، بما في ذلك الأسلحة الخفيفة والمروحيات". وننقل عن مجلة "بوليتيكو" ما نشرته من تصريحات لأحد المسؤولين الأميركيين يقول فيها إن "هناك كثيراً من المشكلات الأمنية في أفريقيا، في وقت يبدو الأفارقة في حاجة إلى الأسلحة". ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن أحد المسؤولين الأميركيين ما قاله حول، إن "وصول الأفراد الروس لا يشكل في حد ذاته علامة على القطيعة الكاملة بين النيجر والولايات المتحدة، بل إن الوجود القصير الأمد للمدربين العسكريين هو تقليد شائع يرتبط بمبيعات الأسلحة". وأضاف أنهم "قالوا بحاجتهم إلى وجود مدربين"، مشيراً إلى أن هناك حداً "لنوع العلاقة التي يمكن أن تقيمها النيجر مع الولايات المتحدة، اعتماداً على نوع العلاقة التي تقرر أن تكون لها مع روسيا".
ذهب "فاغنر"
ثمة ما يشير إلى صعوبة حصر النشاط الاقتصادي الذي كانت تمارسه "فاغنر" وزعيمها بريغوجين، في حين أن هناك من يقول بعدم وجود معلومات عما تجنيه هذه المجموعة من أعمال التعدين وقطع الأخشاب في جمهورية أفريقيا الوسطى وغيرها من الدول الأفريقية، شأن الحال بالنسبة إلى ما يقال حول أصولها النفطية في سوريا. وقالوا أيضاً إن تحديد أصول "فاغنر" النفطية أكثر صعوبة من الأصول الأمنية. في وقت أعلنت السلطات الروسية أن ما أنفقته الدولة على نشاط هذه المجموعة من مايو (أيار) 2022 وحتى مايو 2023 بلغ ما يقارب 268 مليار روبل كرواتب وحوافز، في وقت قالت صحيفة "كوميرسانت"، إن ما حصلت عليه مقابل غذاء أفراد المجموعة عن الفترة نفسها يساوي 80 مليار روبل.
وكشفت صحيفة "سوفرشينو سيكريتنو" (سري للغاية) الأسبوعية الروسية، عن بعض من النشاط السابق ليفغيني بريغوجين قائد مجموعة "فاغنر"، ليس فقط في الداخل الروسي بما في ذلك ما استهدف به تحقيق طموحاته السياسية ومنها الفوز بمنصب رئيس روسيا، وإن سارع إلى دحض ذلك بقوله إن ما صدر عنه بهذا الصدد كان مجرد "مزحة"، بل وأيضاً في سوريا وليبيا وعدد آخر من الدول الأفريقية. وقالت الصحيفة، إن بريغوجين مارس في سوريا عدداً من النشاطات في مجال التنقيب عن النفط وترميم البنية التحتية وإنتاج المواد الهيدروكربونية. كما عملت "فاغنر" في السودان أيضاً في التنقيب عن الذهب وغيره من المعادن الثمينة، إلى جانب كثير من مشروعات التنقيب الجيولوجي الأخرى.
وثمة ما يشير إلى علاقات زعيم مجموعة "فاغنر" بكثير من حكام الدول الأفريقية، ومنها السودان وجمهورية أفريقيا الوسطي. وتشير المصادر إلى العلاقات الوثيقة التي كانت تربط بريغوجين مع الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي" وقوات "الدعم السريع". ولعل ما يتناثر من معلومات حول الثروة الطائلة لبريغوجين يكاد يؤكد أن النشاط الهائل لذلك الذي طبقت شهرته الآفاق وذاع صيته وانتشر، أنه لم يكن يستهدف مساعدة الوطن الأم بقدر ما كان يحاول بلوغ أعلى وأسمي درجات الثراء بالدرجة الأولي. وذلك ما أعلنت السلطات الروسية عن بدء التحقيق في كل جوانبه.
ظهور في موريتانيا
في وقت يتراجع ظهور مجموعة "فاغنر" ويخبو بريق أعضائها، سجلت موريتانيا ظهور عدد من عناصر هذه المجموعة في أراضيها لكن تحت اسم "الفيلق الأفريقي". وكانت الأيام القليلة الماضية شهدت مداهمة إحدى فصائل هذه المجموعة التي تراجع تأثيرها وانحسر نفوذها، لاثنتين من القري الموريتانية لأول مرة منذ فشل التمرد التي قامت به في يونيو من العام الماضي، وما أعقبه من مصرع زعيمها وعدد من قياداتها في حادثة انفجار طائرتهم على مقربة من موسكو.
وقالت المصادر الموريتانية، إن "مجموعة من المرتزقة الروس تسللت إلى اثنتين من القري الموريتانية وفتحت النار ضد سكانهما وأسرت عديداً من الأشخاص الذين تعرضوا للاضطهاد، ووصفوها بالإرهاب". وأضافت أنه خلال الغارة على القريتين أصيب ثلاثة من السكان المحليين برصاص "فاغنر" أو كما يسمونها الآن "الفيلق الأفريقي". وقد تسببت الحادثة في تصعيد أجواء التوتر بين موريتانيا ومالي المجاورة، كما أثارت موجة من الاحتجاجات والإدانات الجماهيرية في موريتانيا، مما دفع قيادة الجيش إلى طمأنة سكان المنطقة الحدودية بأن هذه الغزوات لن تتكرر في المستقبل، لأن الجيش قادر على حمايتهم". وبادر الرئيس المالي عسيمي غويتا بالاتصال بنظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني الذي اعترف بالخطأ، إلى جانب ما وعد به حول عدم تكرار مثل تلك الحادثة مستقبلاً.
"فاغنر" الأوكرانية
وفي وقت يخبو فيه نجم مجموعة "فاغنر" الروسية، ويشهد الواقع الراهن نذر اختفائها من الساحتين المحلية والإقليمية، أعلن مجلس الرادا (البرلمان) الأوكراني عن تقدم مجموعة من نوابه باقتراح ينص على تجنيد السجناء من أجل تعويض ما تعانيه قواتها المسلحة من نقص في عدد جنودها على جبهة القتال مع روسيا.
وكان 14 من نواب مجلس الرادا الأوكراني تقدموا بمشروع قانون يقضي بتجنيد السجناء من أجل تعويض ما تعانيه قواتها المسلحة من نقص عددي حاد تبدى في ما يتوالى من سقوط كثير من بلدان مقاطعة خاركيف ثاني أكبر المدن الأوكرانية، في خطوة يقولون إنها قد تغير من "قواعد اللعبة" بين موسكو وكييف، بالنظر إلى تشابهها مع تجربة مجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية.
وعلى رغم أن البرلمان الأوكراني لم يبت بعد في مثل هذا الاقتراح، تقول المصادر الأوكرانية، إن "القانون في أوكرانيا لا يسمح بتجنيد السجناء، بيد أنه ومع بداية العمليات الروسية في فبراير (شباط) 2022، أصدرت الحكومة الأوكرانية عفواً عن أكثر من 300 سجين بعد إبداء رغبتهم بالانضمام للجيش"، في محاولة هي أقرب إلى استنساخ "فاغنر" الروسية.