ملخص
قرار الشراء قد يتخذ وفق أفكار موروثة، ومنها ما يتعلق بدولة المنشأ حيث ترتبط جودة منتج بها، فهل نجحت الصين في تغيير الأفكار الراسخة حول منتجاتها؟
يتخذ المستهلك عادة قرار الشراء بالاستناد إلى عوامل متعددة، هي نفسها تلك التي تركز عليها الشركات المنتجة ضمن الحملات الترويجية للتسويق لبضائعها، وصحيح أن نوعية المنتج وسعره والحاجة إليه من العناصر الأساسية التي تؤثر في قرار الشراء، إلا أن دراسات عدة أجريت أكدت أن للمستهلكين اهتمامات أخرى تحدد اختياراتهم في انتقاء السلع المختلفة.
ويبدو واضحاً أن بلد المنشأ، أو البلد الأصلي لإنتاج السلعة من العناصر التي تؤثر إلى حد كبير في القرارات النهائية التي يتخذونها في ما يتعلق بمشترياتهم، فيبدو وكأن بلد المنشأ له دور أساسي في سمعة صناعات معينة بالنسبة إلى المستهلكين، وهو من العناصر التي تنعكس على جودتها في أذهانهم.
فهل الجودة ترتبط فعلاً بهوية بلد المنشأ أم أن الحملات الترويجية وغيرها من العناصر أسهمت في خلق هذا الانطباع لدى الناس خلال أجيال؟
سمعة أساسها إرث صناعي تاريخي
في كثير من الأحيان قد يحصر مستهلكون مشترياتهم من السيارات من ألمانيا أو الولايات المتحدة مثلاً لاعتبارها الأكثر جودة، أما الأدوات الكهربائية فتكون تلك التي من اليابان مفضلة لبعضهم، في المقابل يتحفظ آخرون على شراء منتجات معينة لاعتبارها من بلد لا يثقون بجودة منتجاته، وكأنها قد تكون أقل جودة بسبب أفكار مسبقة مرتبطة ببلد المنشأ، كما بالنسبة إلى من يعتبرون أن البضائع الصينية أو الكورية الصنع أقل جودة، والمستهلكون قد يرفضون شراء سلع معينة منتجة في بلد محدد من دون البحث في نوعيتها بسبب أفكار لديهم أسهم الإرث الصناعي التاريخي لبلد ما في ترسيخها.
ويعود تاريخ الثورة الصناعية الأميركية للنصف الثاني من القرن الـ 19، فيما اتجهت أساليب الصناعة آنذاك نحو الاختراعات التقنية، وتعددت الاختراعات التي أسهمت في ترسيخ مكانة الولايات المتحدة في المجال الصناعي، كما يبدو وكأن الحملات الترويجية طوال عقود لعبت دوراً في هذا المجال.
أما في أوروبا فبدأت الثورة الصناعية في بريطانيا أولاً خلال القرن الـ 18 قبل أن تنتقل إلى دول أوروبية أخرى، هذا فيما بدا التطور الصناعي في الصين أكثر حداثة، ولم يشهد القطاع الصناعي الصيني تقدماً فعلياً إلا منذ خمسينيات القرن الـ 20.
استراتيجيات كسب ثقة المستهلك
توضح خبيرة الإعلان والتسويق نور سكيني أن دولاً معينة عملت طويلاً على استراتيجياتها التسويقية لتكسب ثقة المستهلكين للمدى البعيد، وتصل إلى مكان استطاعت فيه أن ترسخ مثل هذه الأفكار المرتبطة بالثقة التامة بمنتجاتها أياً كان نوعها، هذا إضافة إلى تاريخها العريق والطويل في قطاع الصناعة، واستطاعت أوروبا والولايات المتحدة أن تكسب هذه الثقة العالية بجودة المنتجات التي تقدمها بشكل خاص، خصوصاً أنها حددت معايير معينة تتعلق بالجودة والتزمت بها.
ولفتت سكيني إلى أن الصين اشتهرت طويلاً بالإنتاج بكميات كبرى وبأسعار رخيصة، إضافة إلى الأيدي العاملة الأقل كلفة، لذلك ارتبطت بهذه البلاد طويلاً أفكار راسخة بأن ما تنتجه أقل جودة، وتقول "شيئاً فشيئاً بات من الصعب على الصين أن تحافظ على معايير عالية في إدارة جودة المنتجات وضبطها، تحديداً لأنها قُصدت بشكل خاص لمنتجاتها الأرخص ثمناً والأيدي العاملة الأقل كلفة لديها، حتى أن المعايير لديها لم تتمكن من أن تلاقي تلك التي اعتمدتها أوروبا والولايات المتحدة في منتجاتها ولم تتخل عنها يوماً".
وتابعت خبيرة الإعلان والتسويق أن هذا ما أسهم في ترسيخ هذه الأفكار لدى الناس أكثر فأكثر مع مرور الوقت، لذلك عرفت الصين بالبضائع التي تقلد الماركات الأصلية وهي أقل كلفة، علماً أنها كانت بالفعل ترغب في أن تقترن بها فكرة الإنتاج بكميات كبرى وبكلفة أقل، لكن عندما أرادت أن تذهب في اتجاه معاكس، لم تتمكن من تغيير هذه الفكرة التي ترسخت لدى المستهلكين.
وحرصت أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على تسليط الضوء على سلبيات الإنتاج الصيني في مقابل إيجابيات تتميز بها في إنتاجها، والتزامها بمعايير عالية الجودة، ضمن استراتيجياتها التسويقية.
محاولات باءت بالفشل
وصحيح أنه في الصين شركات كبرى مهمة تلتزم بمعايير عالية في الإنتاج ولها منتجات عالية الجودة، لكن لم تبذل بكين ما يكفي من الجهد لتتمكن من تغيير الذهنية الراسخة عن منتجاتها في عقول الناس مع مرور السنوات من خلال استراتيجيات تسويقية مناسبة.
وفي السنوات الأخيرة بذلت الصين جهوداً بالاستثمار في مجال الإلكترونيات والسيارات الكهربائية، وفي الحملات التسويقية التي تروج لها، فحققت منتجاتها هذه رواجاً على نطاق واسع، لكن بقيت الأفكار العامة التي ترسخت لدى الناس عبر التاريخ عن منتجاتها هي الأقوى والأكثر حضوراً في الأسواق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التأثير في وسائل الإعلام
من جهة أخرى ليس للصين التأثير الذي لأوروبا والولايات المتحدة في وسائل الإعلام، ولم تتمكن من منافستها في هذا المجال، وينطبق هذا على بلاد مثل الهند أيضاً وكوريا الجنوبية، إذ تسيطر الولايات المتحدة وأوروبا على أهم وسائل الإعلام على صعيد عالمي وأكثرها حضوراً ومتابعة، وهي موطن لأهم الماركات العالمية التي تحقق رواجاً في مختلف دول العالم.
رواج هذه المنتجات لم يحصل بطريقة عشوائية، بحسب سكيني، بل التزمت بمعايير عالية عبر التاريخ حتى اكتسبت تلك "الثقة العمياء" لدى المستهلكين بمنتجاتها على صعيد عالمي، وحصل ذلك بطريقة مدروسة، وانطلاقاً من ذلك ارتبطت بالأذهان فكرة البضائع الصينية القليلة الكلفة، كنتيجة مباشرة للمقارنة بين العالمين المختلفين.
هذا تحرص العلامات الكبرى على إنفاق أموال طائلة بشكل متواصل على إعلاناتها وحملاتها الترويجية على رغم الرواج الذي حققته، كونها تعمل على خطة تسويقية بعيدة المدى، هذا إضافة إلى التفاصيل في الحملات الترويجية كالسعر والألوان والشكل، لكن الأهم بحسب سكيني هو بلوغ مرحلة يمكن فيها التعرف إلى المنتج ليكسب صورة معينة ترسخ في أذهان الناس، فيصبح له مستهلكون أوفياء.
أي دور تلعبه السياسة في سمعة المنتج؟
إلا أن الجودة والمعايير العالية ليست العائق الوحيد دائماً أمام الدول المصنعة، إذ تلعب السياسة دوراً مهماً في انتشار منتجات في دول معينة أو في الحد من انتشار أخرى، على سبيل المثال قد تحقق المنتجات الصينية الصنع رواجاً في الدول التي تميل إلى محور الصين وروسيا، وتعتبر من المنتجات العالية الجودة، فيما تبدو المنتجات الأميركية أقل جودة في هذه الدول، والعكس صحيح.
ويشير مدير المبيعات والإنتاج في إحدى شركات السيارات الصينية في لبنان كريس العضم إلى أن سيارات الشركة لا تدخل إلى الأسواق الأميركية لأسباب سياسية، لكن من المفترض أن تبدأ دخول الأسواق الأوروبية خلال العالم الحالي، إضافة إلى دول الخليج، ففي كثير من الأحيان تمنع السيارات أو أي منتجات صينية من دخول أسواق معينة لأسباب سياسية.
ويوضح العضم أن الثقة لم تكن عالية بالسيارات الصينية لدى دخولها إلى لبنان، بسبب انعدام اعتبار المنتجات الصينية أقل جودة، لكن منذ 2017 حتى اليوم تسير في الطرقات أكثر من 5 آلاف سيارة من العلامة نفسها بعد ما حصل انفتاح على الإنتاج الصيني.
وقع الحملات الترويجية
في اليابان حيث سادت قديماً ثقافة تناول الشاي الأخضر، ولم يكن من الممكن اختراق أسواقها، كانت هناك محاولات لإدخال القهوة إليها وفشلت مراراً، وفي مرحلة ما تمت الاستعانة باختصاصيين نفسيين اقترحوا نشر السكاكر والبسكويت بطعم القهوة بين الأطفال حتى يميل الجيل الجديد إلى القهوة ويتعلق بها، وبالفعل نجحت التجربة وأصبحت اليابان أكثر الدول استيراداً للقهوة، هذا ما يؤكد على الأثر النفسي المهم الذي تركز عليه الحملات الإعلانية والتسويقية، بحسب الاختصاصية في المعالجة النفسية جيزال نادر.
وأوضحت نادر أنه تُستغل نقاط معينة تؤثر في الناس، لتحفيزهم على شراء منتجات معينة والتعلق بها من خلال الحملات التسويقية، مشيرة إلى أن "سيكولوجية الإعلان من المجالات التي تدرس لمن يتخصصون في مجال الإعلان والتسويق، وهناك تركيز على عناصر معينة تهدف إلى إقناع الناس بمنتجات معينة ودفعهم للتعلق بها، وقد يكون هناك تركيز على تلبية حاجات ورغبات لدى الناس تعرف بالنداءات العاطفية، فيلبي المنتج حاجة معينة أو شعوراً لدى الشخص من الناحية العاطفية حتى يشتريه، كما يمكن التركيز بشكل خاص على قيمة المنتج لتعزيز الاهتمام به".
وقد تستعين شركات بخبراء ومتخصصين للترويج لمنتجات معينة لتقديم الحقائق التي تجذب الناس، كما قد تستعين بمشاهير ومؤثرين من أولئك الذين يلقون شعبية بين الناس لمزيد من الإقناع، حتى أن الأغاني أو الشعارات أو الهاشتاغ من الحيل أيضاً التي تلقى رواجاً في الحملات التسويقية وتحقق نجاحاً، لأن تكرار الشعارات في أذهان الناس يجعلها أكثر تعلقاً بالمنتجات المعنية التي يسوق لها، إذ تصبح العبارة راسخة في أذهانهم وفي اللاوعي لديهم، ويصبح هناك صلة في أذهانهم بين المنتج والشعار المكرر، وفق الاختصاصية النفسية.
هذا ما يؤكد على الدور الكبير الذي تلعبه الحملات الترويجية، فهي تولد لدينا قناعات نتمسك بها، ونصدقها أكثر مما نصدق المنطق أحياناً، وهذا ما يحصل مع التدخين مثلاً، فبغض النظر عن الإدمان الذي يسببه، يجد المدخن صعوبة في التخلي عنه على رغم إدراكه أنه يقتل أو يسبب مشكلات صحية، فهو يجد فيه الراحة والمتعة كمشاعر زرعتها لديه الحملات الترويجية، وهذا هو الأثر النفسي للإعلان.