ملخص
ينتمي الشاعر المصري عاطف عبدالعزيز إلى جيل الثمانينيات في الحركة المصرية الجديدة. وتميز بصوته الشعري الخاص، وأسلوبه في رؤية الحياة، ومفهومه لطبيعة الشعر. وأصدر عاطف عبدالعزيز ديواناً جديداً بعنوان "غياب حر"، وفيه يواصل مساره في قصيدة النثر.
أعتقد أن جيل الثمانينيات في مصر انتخب من بين شعرائه شعراء الطبقة الأولى. وما أراه أن عاطف عبدالعزيز واحد من هؤلاء المتميزين، ليس فقط لغزارة إنتاجه الذي بلغ 12 ديواناً، إضافة إلى كتاب نقدي تناول فيه شعراء الموجة الأحدث بروح شاعر لا ناقد، فهو شاعر يعرف أسرار لعبة الفن الشعري. ليس هذا فقط، على رغم أهميته، مما يجعل عاطف عبدالعزيز من شعراء الطبقة الأولى في جيله، بل وهذا هو الأهم، تميز صوته الشعري وأسلوبه الخاص في رؤية الحياة، ومفهومه لطبيعة الشعر.
ويختار عاطف عبدالعزيز لديوانه الجديد عنوان "غياب حر" (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وهو ليس عنواناً لإحدى القصائد، بل إنه ورد في آخر قصيدة "عادة سرية"، "صرت أفعلها كل يوم/ أمرر أناملي أنشودة حرة في غياب حر". ومن الواضح أن الغياب الحر هنا هو غياب المرأة التي صارت بعيدة منه، وصار بعيداً منها. وتحرر من حضورها الطاغي بوصف الحب قيداً كان يمنعه من ممارسة عاداته السرية، كأن يستعيد بلمسة من يده بقاياها فوق الجلد، أو يفقأ الثآليل التي تركتها الأيام تحت روحه، وفق متن القصيدة نفسها.
الغياب، إذاً هو إحدى ثيمات هذا الديوان الرئيسة. ومن هنا تردد ذكر المدن البعيدة والرغبة في السفر إليها، يقول في القصيدة الأولى "في نهار مثل هذا، طويل ومنقسم على نفسه/ وقفت أتلفت في ممر يعج بالمسافرين/ على ذراعي معطف رمادي/ وفي جيبي عقد للعمل/ وبطاقة سفر/ إلى البلد الأفريقي البعيد". لكن هذه الرغبة تجهض بسبب مقتل رئيس هذا البلد على يد مجموعة من المتمردين.وعندما يتحدث عن سعاد حسني، يتذكر سماء لندن وهو يبكي "أعرف أنك تعرف أنني أعرف/ كيف سوف أنتهز - فيما بعد – فرصة غيابك/ لأنفرد بالبكاء عليها/ عندما ستحلق بسماء لندن/ دون جناحين".
ولأن الشاعر مجبول – كما صرح في موضع آخر- على الرهانات الخاسرة، وعلى التشبب بالضائعات خائبات الرجا، فتوقف عند مأساة سعاد حسني "التي أصبح جسدها ميدان حرب للأجهزة السيادية".
المجازات غير المألوفة
ولا يتخلى عاطف عبدالعزيز عن المجاز، مخالفاً بذلك الوصفة الجاهزة التي شاعت عن قصيدة النثر. هذا المجاز الذي يصل إلى التشبيهات البعيدة غير المألوفة "سرنا كان ضئيلاً غامضاً/ أقرب إلى تعثر خف منزلي في سجادة". فأنت لا تستطيع أن تدرك بوضوح علاقة تشابه بين هذا السر الضئيل الغامض وتعثر خف في سجادة، إلا على سبيل التأويل المتروك للمتلقي. هذا الخيال المركب يقودنا إلى صور عجائبية كثيرة تتردد بإلحاح داخل الديوان، منها قوله "سرعان ما يتشظى في عيوننا الشارع الذي انتخبناه، وأسلمنا له قيادنا/ ويكون علينا ترتيبه بأنفسنا"، أو "تنحدر الأزقة نحو التقاطع في حسم غير مفهوم، فيأخذ المكان شكل عنكبوت ضخم/ مستسلم لما تبقى من القيلولة". وأخيراً حين يقول مخاطباً الشاعر الراحل محمود نسيم "فتنتك ذاك المساء لم تكن لتحتمل/ كنت تحمل كتاباً عنوانه موصول بغرابتك/ حتى إنني للحظة رأيتك جدولاً ينحدر إلى الأعالي". وإضافة إلى هذا الأسلوب العجائبي، نجد الأسلوب السيري، حين يذكر الشاعر اسمه صراحة "في دولابك الآن لغم يا عاطف/ أجل، لديك عطر مسحور لا يؤمن له جانب".
ويعد الديوان كله سيرة ذاتية للشاعر وعلاقته بالمكان تحديداً، وكأننا أمام ما يمكن تسميته بتاريخ المكان حين يتحدث عن "ميدان النعام" (شرق القاهرة) الذي ولد "إثر التقاء سلالتين متباعدتين من النزق: أولاهما، لنزق أميري ينحدر عن الأسرة العلوية البائدة/ أما الأخرى فقد كانت لنزق طالع من مقهى عمالي/ يبص بزاوية إلى شارع المطراوي". إنها حقبة الستينيات التي مزجت بين الطبقات تحت شعار "قوى الشعب العامل". هذا المزج الذي جمع مع حقبة السبعينيات/ "ناصريين إلى أسياخ إلى تروتسكيين أقحاح"، وأصبح من المألوف "أن يسمع صوت الشيخ إمام متصاعداً من بيوت المستورين".
المكان والزمان
ولا يتحدث الشاعر عن تاريخ المكان فقط الذي أصبح – في الشاهد السابق – مجازاً مرسلاً لسكانه، بل يتحرك داخله بالكاميرا لمعرفة تفاصيله "عن شمالنا ابن خلدون الثانوية بسورها الذي كان معبراً للشاردين"، و"عن يميننا، تبقى المسرات كاملة ومكفولة لخلاة البال ورواد المقاهي"، و"قرب النهاية بقليل، نرى شرفة دلال زهدي واطئة وخالية/ إلا من لبلابة وأصيص به عصفورة جنة". والمكان، كما هو معروف، قرين الزمن في ما يعرف بالزمكانية، وهي الثنائية التي وظفها الشاعر كثيراً.
ويقول في قصيدة "الكتانة"، "تعرفين أنت/ أن الأيام ليس لها غير أن تمضي إلى غايتها/ تعرفين أيضاً أن النسيان فن قديم/ قدم الحماقة ذاتها". والنسيان نعمة لا تدرك إلا بمرور الزمن "صرت امرأة وحيدة/ لها ابنة مراهقة لم تزل تتلمس طريقها إلى المواعدات". كذلك يترك أثره على المكان "ها أنا لم أعد أذكر/ كيف تلاشت نجمتي الضالة/ بعدما صارت سينما ’نادية‘ جراجاً للشاحنات".
ونجد في قصيدة "جنة المطاريد" متابعة دقيقة للزمن، من خلال تعبيرات، من قبيل "نهار حذو النهار"، و"ليل حذو الليل"، و"ليل حذو النهار". بل إن الصدفة المسائية تترتب عليها قصة حب مجهضة "هكذا كتب علي أن أعود أدراجي/ ومعي حقائبي/ من أجل أن ألتقيك في المساء صدفة/ وينمو بيننا السر الذي سوف يشبه خيطاً من الحرير".
شعرية التفاصيل
واهتم الشاعر بـ"شعرية الأشياء" قدر اهتمامه بتفاصيل المكان والزمان. ففي قصيدة "صباح الخير يا إسكندرية" نراه مهتماً بالموج الذي يقوم بتشخيصه "ما زال يشبه نفسه"، و"يتذكر بقلب فارغ/ كيف كان ذات يوم أمين سر العاشقين". أو حين يتوقف أمام زجاجة عطر، مفعلاً حاسة الشم "كان يحمل رائحة فردوس مفقود/ كلما نزعت عنه السداد/ اضطرب الناس من حولي لذة/ والتهب حلقي/ ثم لا يلبث أن ينقسم على نفسه النهار".
وتنطوي بعض القصائد على أسلوب تداولي، يؤكد شفاهية تظهر في التكرار "بان أن الفتى كما لو كان يعرف عني كل شيء/ كل شيء/ وإلا لماذا ظل يمنحني ابتسامته المشفقة طوال الليل". أو "تكتبين شعراً لا يخلو من الأخطاء/ تلك التي تجعله أعمق إيجاعاً/ وأكثر لياقة بالحياة/ التي هي أخطاء فوق أخطاء تحت أخطاء". أو "الشعراء تعطلوا/ جفت الأقلام في أدراجهم/ وانطوت الصحائف/ صاروا يرون هائمين في الطرقات يفتشون/ عن القسوة/ أجل القسوة".
وتكرار عبارة "قتلت ربة الغرام " في قصيدة "في مديح القسوة" مرتين، في البداية وقرب نهايتها، بما يحقق بنية سردية دائرية. وللسرد وضعية واضحة في هذا الديوان، وفي هذا السياق يصبح للمروي عليه حضور واضح، وكأنه يجلس أمام الشاعر. وامتداداً لثيمة شعرية التفاصيل الصغيرة يتوقف أمام "شيء" لا نعرف – مثلما لا يعرف هو أيضاً- كنهه "مندهش لأن المسافة طالت كثيراً بيني وبين كل شيء/ منذ تركت الشيء على طاولة الحانة". ثم نعرف – مع المقطع الثاني – أن هذا الشيء عبارة عن "لفافة مدماة"، لكنه لا يفصح عن محتواها. هذا "الشيء" المجهول الملغز، يذكرنا بقول صلاح عبدالصبور في إحدى قصائده: "هناك شيء في نفوسنا حزين/ قد يختفي ولا يبين/ لكنه مكنون".
تعدد الأساليب
هل يمكن أن نقول، في حال عاطف عبدالعزيز، إن هذه اللفافة المدماة تعبير رمزي دال على الحياة ذاتها، خصوصاً حين نعلم رغبة الشاعر في هذا "اللاشيء"، الدال على الغياب والفراغ والبعد من كل شيء "تنمو داخلي رغبة في اللاشيء، الذي يعرفني وأعرفه". هذه المعرفة المتبادلة هي سر الألفة التي يحس بها الشاعر إزاء هذا "اللاشيء". فهل يمكن أن نقول إن هذا كله دال على الغياب المتحرر من القيود مرة أخرى، والذي هو في حقيقته مواز لهذا الإبداع الشعري الحر أو المتحرر – هو الآخر – من الوصفات المسبقة والقيود المكبلة للإبداع؟
هذا ما نستشعره في ذلك الديوان الجديد للشاعر عاطف عبدالعزيز، كذلك لاحظناه – بوضوح – في مجمل أعماله السابقة. وليس أدل على إبداعية ديوانه الجديد من تداخل المستويات والدلالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، من دون فصل لمستوى عن الآخر، وكأننا أمام سبيكة إبداعية واحدة تتوازى مع تعدد الأساليب الشعرية، التي جمعت بين الأسلوب الغنائي والسير ذاتي والسردي والعجائبي والشفاهي والرمزي.