ملخص
"أمة الدوبامين" كتاب ألفته طبيبة نفسية أميركية استناداً إلى قصص واقعية عاشها أناس وجدوا أنفسهم محاصرين بمنتجات "السعادة المفرطة" فلجأوا إليها هرباً من الألم. تروي آنا ليمبيكي بمؤلفها المترجم بقلم علياء العمري، قصة التأثير الفيزيائي والنفسي لهذا الهرمون في حياتنا بأبعاد مختلفة تصدمنا بوجود نظام اقتصادي عالمي قائم على "الدوبامين" وأنواع مستحدثة من الإدمان لا نعرفها على رغم أننا عرضة لها في حياتنا اليومية.
سهولة الوصول إلى المواد المسببة للإدمان ربما أهم عوامل الخطر التي يواجهها الإنسان اليوم. والإدمان هنا يتجاوز المواد المخدرة التي تكاثرت أنواعها بفضل التقدم العلمي والتقني، ليمتد إلى سلوكات في روتيننا اليومي لا نعرف كيف ومتى أصبحنا مهووسين بها، والأهم من هذا وذاك كيف يمكننا الشفاء والتحرر من ممارستها؟
كلمة السر هي "الدوبامين" الذي حوله الإنسان من ناقل عصبي في الدماغ إلى سلعة تشكل نواة نظام اقتصادي متكامل يفيض على البشر بطوفان من الخيارات السهلة في المتعة واللذة والمكافأة فيدمنونها من دون أن يدركوا، ثم يهيمون على وجوههم بحثاً عن ذواتهم الضائعة وشخصياتهم الأصلية التي تشوهت بحثاً عن "السعادة".
في كتاب يقع بـ310 صفحات، تفكك أستاذة الطب النفسي والإدمان في كلية الطب بجامعة ستانفورد الأميركية آنا ليمبيكي، ألغاز هرمون الدوبامين الذي اكتشف عام 1957، وتقارب تعقيداته بلغة بسيطة وقصص حقيقية من "الاستهلاك القهري" لأنواع تقليدية ومستحدثة من الإدمان عانى أصحابها لسنوات طويلة قبل التعافي منها.
كتاب "أمة الدوبامين" يروي حكاية ميزان اللذة والألم عند البشر. فتقرأ فيه ماذا يحدث عندما تميل إحدى كفتيه، وبين السطور تتلمس أدوات يوظفها أرباب السياسات الاستهلاكية حول العالم للتحكم بحاجتنا إلى هذين النقيضين، فيغرقون الأسواق بسلع ومنتجات "السعادة المفرطة" ثم يرمون لنا طوق نجاة مصنوعاً من أدوية معالجة الإدمان.
يقول الكتاب إن حالة هيسترية من التنقل بين النقيضين يومياً تسيطر على الإنسان حين يدمن منتجاً دوائياً أو تقنياً أو دراسياً أو علمياً أو ترفيهياً أو غيره، وإلى حين اكتشاف هذا الإدمان ومواجهة نفسك بأسبابه وحاجتك إلى التخلص منه، ستبقى تدور في حلقة مفرغة لسنوات تأكل من جسدك وتقتات على فرصك في الاستقرار.
"الرأسمالية الحوفية" هو النظام الذي نعيشه اليوم ويتحكم بمنتجات الدوبامين حولنا. وسمي كذلك نسبة إلى النظام الحوفي المسؤول عن الاستجابة السلوكية والعاطفية في الدماغ. ومؤلفة الكتاب تستعرض في أجزائه المختلفة قائمة طويلة من السلع المخدرة التي طورها هذا النظام وأغرق أسواق العالم بها على مدى عقود من الزمن.
صور الإدمان
يستدعي الكتاب الأفيون كمثال لتوضيح تمدد الإدمان على مادة مخدرة بفضل التطور العلمي، ويقول إنها باتت جزءاً من منتجات صيدلانية كثيرة مثل "الأوكسيكودون" و"الهيدروكودون" و"الهيدرومورفون"، فتضاعفت وصفات الأدوية المنتجة منها في أميركا أربع مرات بين 1999 و2012 وازداد عدد مدمنيها بأرقام كبيرة.
بالطريقة ذاتها يشرح الكتاب انتشار الحشيش والكحول والكوكايين والمورفين والتبغ وغيره حول العالم، بفضل زيادة منتجات هذه المواد والترويج لها بمهارة ثم توزيعها بحيث تصبح في متناول اليد بكل مكان وزمان، لتتحول أخيراً إلى إدمان نبحث فيه عن ملاذات آمنة من قلق أو حزن أو فشل أو صدمة أو عزلة أو خوف.
إلى جانب المواد المخدرة أضافت الحداثة لقوائم الإدمان صوراً جديدة، فأصبح بيننا من يدمن استخدام الهواتف الذكية أو وسائل التواصل أو مشاهدة الأفلام الإباحية أو تناول أنواع طعام وشراب محددة أو رسم الوشوم على الأجساد أو تكبير العضلات، وغيرها كثير من الممارسات اليومية الجسدية أو الفكرية التي يسهل الوصول إليها أكثر فأكثر يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام بفضل تطور التكنولوجيا ورقمنة كل شيء في حياتنا.
حتى مؤلفة الكتاب ذاتها على رغم أنها طبيبة نفسية عاشت إدمان قراءة القصص الرومانسية وبلغ فيها الأمر حدود إهمال عملها وعائلتها لمطالعة تلك القصص. استهلك الأمر منها سنوات للتخلص من هذا الإدمان بسبب مواقع النشر الإلكترونية وسهولة تنزيل أي مؤلف على هاتفك أو حاسوبك بضغطة زر أينما كنت وخلال ثوان معدودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القياس والتوازن
يستخدم الدوبامين لقياس الإدمان فكلما زاد إفرازه تصاعدت حدة الإدمان. يسوق الكتاب أمثلة مستخلصة من تجربة علمية على الفئران، ويقول إن الشوكولاتة تزيد إنتاج هرمون الدوبامين في الدماغ بنسبة 50 في المئة والجنس 100 في المئة والنيكوتين 150 في المئة والكوكايين 225 في المئة أما الأمفيتامين فيصعد به 1000 في المئة.
تعيش ذواتنا بميزان كفتاه هما السعادة والألم وعندما يميل إلى جهة بصورة متكررة أو طويلة يخلق الدماغ رد فعل عكسياً إلى الجهة المقابلة كي يعود الميزان مستوياً. فإذا أفرز الدوبامين حتى مالت الكفة نحو اللذة سارع الدماغ إلى الدفع باتجاه الجهة المقابلة وفق آلية يطلق عليها الكتاب اسم "الخصم المضاد" أو الدفع نحو الاتجاه الآخر.
المشكلة الكبرى هي عندما تلجأ إلى مواد وسلوكات الإدمان لفترة طويلة كي تستعيد توازن سعادتك مع الألم. فحينها تقل فعالية هرمون الدوبامين ويصل المرء إلى مرحلة تدعى "عجز الدوبامين". وهنا تلفت الطبيبة ليمبيكي إلى أن طغيان الألم على اللذة عند الإنسان يبقيه دائماً عرضة للانتكاس بعد أن يتعالج من أعراض الإدمان.
ثمة حقيقة علمية يسوقها الكتاب مفادها أن "لكل لذة ثمناً، والألم الذي يتبعها يدوم لفترة أطول وأكثر حدة، ومع تعرض طويل ومتكرر للمنبهات الممتعة تقل قدرتنا على تحمل الألم وتزداد عتبة تجارب المتعة". استناداً إلى هذه الحقيقة وضعت المؤلفة استراتيجية لمواجهة الإدمان أياً كان نوعه تمتد على ثماني مراحل وتستمد أسماءها من أحرف كلمة دوبامين باللغة الإنجليزية، أما مترجمة الكتاب إلى العربية علياء العمري فوضعت لفصل الاستراتيجية في الكتاب عنوان "جهاد النفس" وأطلقت على أبرز مراحلها "صيام الدوبامين".
علاج الإدمان
الحرف الأول من دوبامين "Dopamine" هو "D" ويشير في استراتيجية ليمبيكي إلى "Data" أي البيانات ثم الأهداف "Objectives" وبعدها المشكلات "Problems" إلى الامتناع "Abstinence" واليقظة " mindfulness" والبصيرة "insight" والخطوات التالية "next steps" وأخيراً التجربة "experiment".
في مرحلة البيانات يجمع المريض معلومات حول المخدر الذي يستخدمه، ثم يحدد أهدافه من هذا الإدمان ومنها يرصد المشكلات التي دفعته إليه، وعندما تتضح الصورة يمتنع عن تعاطي المخدر مادة كان أم سلوكاً لفترة شهر في الأقل يعيش خلالها يقظة موقتة يراقب فيها نفسه وهي تخوض غمار واقع جديد لم تعرفه سابقاً أو لا تتذكره.
بعد اليقظة يحدد للمريض خطوات شفائه علاجياً. وفي طريق إنجازها يبدأ برؤية حياته بعيداً من الإدمان، فتتقوض تدريجاً الصورة الجميلة للمخدر الذي كان يتلذذ به أو السلوك الذي يمارسه بحثاً عن السعادة. وهنا "يصبح المرء قادراً على تقييم تجربته متسلحاً بنقطة محددة للدوبامين، وخطة لكيفية الحفاظ على توازن الألم واللذة".
ما يمارسه الشخص كي لا يعود إلى الإدمان أو لا يقع فيه أصلاً يسميه الكتاب "جهاد النفس"، وهو يشبه تلك الإجراءات التي تفرضها الحكومات لتحمي الناس من الإدمان مثل رفع قيمة الضرائب على السجائر ومنع التدخين في الأماكن العامة وتقييد استهلاك الكحول وتجريم تعاطي الكوكايين وغيرها، لكن المشكلة تكمن في أن العالم يمضي باستمرار وتسارع كبير نحو الوفرة والتنوع في كل السلع والمنتجات عالية الدوبامين.
"جهاد النفس"
أمام هذه المعضلة يصنف الكتاب استراتيجيات "جهاد النفس" إلى ثلاث فئات هي "الفيزيقية" و"الزمنية" و"الفئوية". مارس أوديسيوس جهاداً فيزيقياً في طريق عودته من حرب طروادة عندما أمر جنوده بوضع شمع العسل في أذنيه وربطه بسارية السفينة كي لا ينجذب للمغنيات الأسطوريات اللاتي يغوين الرجال بأصواتهن ويقدنهم للموت.
بالنسبة إلى الجهاد "الزمني" فيعني تقليص استهلاك مادة الإدمان تدريجاً، فنبدأ بأخذها مرة في اليوم ثم مرة في الأسبوع وبعدها في الشهر حتى يزول تأثيرها تماماً. قد تبدو هذه الآلية سهلة التنفيذ ومضمونة ولكنها تنطوي على نسبة مخاطرة كبيرة في الانتكاس خلال تدريب الذات على النفور التدرجي من سبب الإدمان ونوعه.
في "جهاد النفس الفئوي" يحدد المرء العوامل التي قادته أو تقوده للإدمان ويبتعد عنها، فإن كان مهووساً بالجنس على سبيل المثال وجب عليه تقييد وصوله إلى المواقع الإباحية. وإن كان مدمناً المراهنات الرياضية فيجب عليه أن يمتنع عن مشاهدة أنواع الرياضات المختلفة، وإذا كان مفرطاً في شرب الكحول فلا يجب أن يقرب البارات، وكذلك الحال بالنسبة إلى المدخنين بإفراط فلا بد أن يتجنبوا أي سلوك أو لقاء يشعل الرغبة بالسجائر.
ترى المؤلفة أن مفتاح الرفاهية هو أن "نخرج من الأريكة ونحرك أجسادنا الحقيقية وليست الافتراضية". أما بوابة تحررنا من مخاوفنا فتكمن في "المواجهة" كما يقول الفيلسوف نيتشه "ما لا يقتلني يجعلني أقوى". حتى إن الكتاب ينصح باستهلاك كمية صغيرة من الألم لتثبيط ألم كبير أو للحصول على نوبة فرح عرضية، تماماً كما يحدث مع الإنسان في مدن الملاهي عندما يصعد إلى لعبة مخيفة ولكنه يشعر بالبهجة عندما ينتهي.
الخلاصة الأبرز في كتاب "أمة الدوبامين" هي الأهمية القصوى للصدق التام في تعامل المرء مع مشكلاته ودوافع استهلاكه المفرط للألم أو السعادة. ومن ثم يأتي دور المجتمع في مساعدة المدمنين بدلاً من ملاحقتهم بالعار حتى يلوذوا إلى العزلة ويبدأوا بنسج الأكاذيب على أنفسهم ومن حولهم فتتحول حياتهم إلى دائرة مغلقة وضيقة من الألم.
كتاب "أمة الدوبامين"
تأليف آنا ليمبيكي - ترجمة علياء العمري
دار مدارك للنشر 2022