ملخص
"تكوين" هي الحلقة الأحدث في ما يعتبره بعضهم جهوداً للتنوير ومحاولات لتطهير الخطاب والمحتوى الديني مما لحق بهما من علل وشوائب حولت قطاعاً غير قليل من المصريين إلى متشددين ومتعصبين، وهي أيضاً ما يراه آخرون باعتبارها محاولة خبيثة جديدة لهدم الدين ومحاربة المتدينين عبر تشويه صحيح الدين وجذب المتدينين نحو الإلحاد والكفر والانفلات الأخلاقي.
بالون هائل آخذ في التضخم، المحتويات خليط من الدين والدنيا، والجمود والحركة، والفكر النقدي والتحجر الثقافي، وفي داخل البالون جبهتان متناقضتان متنافرتان وبينهما ملايين من الجموع الغفيرة الحائرة بينهما، تارة تنجذب صوب الفكرة والتجديد والتحديث، وأخرى تلتزم البقاء في خانة الأمان حيث الفكرة حرام والتجديد مكروه والتحديث حكر على "العلماء"، هذا البالون آخذ في الانتفاخ، مستمر في الامتلاء، يهدأ حيناً، وينشط أحياناً، ويثير الزوابع ويؤجج الأعاصير دائماً، قبل أن يعاود خفوته.
ما كاد بركان مؤسسة "تكوين" يخفت بعض الشيء بعدما أغضب رموز الدين وروّع المتدينين واستنفر قاعدة عريضة من المصريين "المتدينين بالفطرة"، فالتدين يحدده رجال الدين سواء الرسميين أو العصاميين، والفطرة متحولة من وسطية ثقافية تاريخية إلى مغالاة في الطقوس وتزمت في النفوس وتشدد في المظهر منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، حتى أعيد النفخ في نيران البركان، وانبرى من بين صفوف القائمين على أمر الدين والمدافعين عن المتدينين من يشهر سيف المناظرة ويطالب برأس من يرفضها مجازاً.
للقصة وجوه عدة
لكن للقصة وجوهاً عدة، وللبالون عشرات إن لم يكن مئات أو آلاف المكونات، "تكوين" هي الحلقة الأحدث في ما يعتبره بعضهم جهوداً للتنوير ومحاولات لتطهير الخطاب والمحتوى الديني مما لحق بهما من علل وشوائب حولت قطاعاً غير قليل من المصريين إلى متشددين ومتعصبين، وهي أيضاً ما يراه آخرون باعتبارها محاولة خبيثة جديدة لهدم الدين ومحاربة المتدينين عبر تشويه صحيح الدين وجذب المتدينين نحو الإلحاد والكفر والانفلات الأخلاقي.
أخلاقياً، تواجه "تكوين" مقصلة شعبية من جهة ودينية من جهة أخرى منذ الإعلان عن تأسيسها، وكل الكلمات والعبارات التي من شأنها أن تثير الخوف وتشيع الشك وتستنفر قرون الدفاع عن الدين والمتدينين بنسختيهما الحديثة المهيمنة منذ نصف قرن تم تضمينها في رؤية وبيان تأسيس "تكوين"، التجديد والإصلاح ومستجدات العصر والاستنارة، وكذلك قيم العقل وقبول الآخر وغيرها ألهبت الشارع.
كذلك فإن غالبية الأسماء الضالعة في مجلس الأمناء وكتاب "تكوين" مصنفة شعبياً بفعل توجيهات وآراء وتوصيفات قائمين على أمر الإسلام (دنيوياً) سواء في مؤسسات الدولة الرسمية الدينية أو من قبل كثيرين نصبوا أنفسهم دعاة أو علماء دين صنعوا علمهم بنفسهم أو معلمين ومعلمات فقه وشرع وأحكام قرأوا كتباً وتتلمذوا على أيادي مشايخ ودعاة واختصاصيي تنمية بشرية بنكهة دينية على مدى العقود الخمسة الماضية.
الجولة الحالية
هذه المرة، ما مضى من جولات محاولات خدش قمة جبل جليد التدين الجديد أو مناقشة الأفكار المتضمنة في نسخة تفسير الدين التي ظهرت في السبعينيات وبزغ نجمها في التسعينيات ورسخت أقدامها حتى باتت الأكثر انتشاراً والأقوى تأثيراً شيء والجولة الحالية بقيادة "تكوين" شيء آخر.
كثير من محاولات بعض الكتاب أو المثقفين أو الباحثين أو الإعلاميين لفتح باب النقاش حول مسلمات، أو الدعوة إلى إعادة التفكير في جوانب التكفير بصورة مختلفة، أو تفسير مظاهر تدين من زوايا مختلفة عن الزاوية المعتمدة من قبل القائمين على أمر الدين والمتدينين الجدد تواجه باعتبارها محاولة فردية لازدراء الإسلام، أو مؤامرة فكرية للنيل من المجتمع، أو مخططاً خبيثاً لإلغاء الدين أو نشر الكفر والإلحاد والرذيلة عبر طرح أسئلة تدعو إلى التفكير مثل هل تهنئة الآخر في عيده حرام؟ وهل كل التدين مرتبط ارتباطاً شرطياً بلباس بعينه؟ وهل المسلمون وحدهم على حق والباقون مخطئون ومذنبون؟.
مع "تكوين"
قبل "تكوين"، كان إذا تساءل فلان عن فرضية الحجاب ينعت بالضلال، أو علان الذي طالب بقبول الآخر ضعيف الإيمان، أو ثالث لا يرى غضاضة في تهنئة جاره غير المسلم بعيده مشكوكاً في تدينه، أو رابع بدأ مراجعة نقدية لما قاله أئمة سابقون أو دعاة حاليون بات يُنظر إليهم على أنهم منزهون عن الخطأ وأفكارهم غير خاضعة للمناقشة، تم التعامل معه كشخص حاد عن الطريق ومال صوب الضلال.
أما "تكوين"، فمجموعة من الشخصيات المعروفة ذات الآراء ذائعة الصيت، لكن مثيرة للجدل، ومعروفة بالمواقف الرافضة لما يسمونه "جموداً دينياً" والمطالبة بالتجديد والتنقيح والتطهير، ولكن بحسب تصورهم وفي ضوء فهمهم للدين ودوره، والتجديد والغاية منه، والتطهير وما يجب تصفيته وما ينبغي الإبقاء عليه.
أبقى رجال الدين الرسميون والمستقلون من دعاة جدد وقدامى وجيل الوسط على قدر من هدوئهم ورباطة جأشهم أمام خروج عدد من مؤسسي "تكوين" الفجائي من قلب القاهرة، تحديداً من المتحف المصري الكبير "تحت ظلال الأهرامات".
جانب من الصحافة المصرية تعامل مع خبر الانطلاق كما ورد إليها عبر بيان التأسيس، قبل أن يجد الإعلام نفسه ملتزماً الترقب الذي لا يخلو من قلق، في مطلع مايو (أيار) الماضي، نشرت الصحافة خبر انطلاق فعاليات المؤتمر السنوي الأول لمؤسسة "تكوين الفكر العربي" تحت رعاية الدولة المصرية، وتحت عنوان "50 عاماً على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟".
لكن ما هي إلا ساعات قليلة، حتى تم تداول الخبر في دوائر "غيورين على الدين" و"مدافعين عن المتدينين" باعتبارها مؤسسة جاءت لهدم المجتمع وتدمير القيم ونشر الانحلال وتعميم الضلال.
وبدت المخاوف في عرف بعضهم "منطقية"، فالأسماء المرتبطة بـ"تكوين" لها سجل حافل من إثارة الزوابع عبر الدعوة إلى التفكير، ونشر البلبلة جراء وضع علامات استفهام أمام مسلمات ثقافية بدلاً من النقاط، وتحفيز التفكير النقدي الذي يعتبره كثيرون مرادفاً لنشر التشكيك وبث الفتنة.
الفتنة سابقة
فتنة "تكوين" بدأت مع التأسيس لمتلازمة التفكير والتكفير، ومعضلة اعتبار كل من يتحدث باسم الدين منزهاً عن النقد ومكتسباً صفة القداسة، والتسليم بأن العالم قائم على لونين لا ثالث لهما، أبيض اعتناق النسخة السائدة من التدين، وأسود رفضها أو نقدها أو الدعوة إلى مناقشتها.
المناقشة الشعبية والدينية الرسمية ترفع راية رفض المناقشة لكل ما يتعلق بتجديد الخطاب الثقافي أو فتح مجال لمجرد التفكير في أن النسخة السائدة للتدين منذ سبعينيات القرن الماضي ربما تكون أخطأت أو تطرفت أو تشددت، في المقابل، فإن الموجة الحالية من الدعاة الجدد الوافدين من خلفيات مهنية واجتماعية مختلفة تلقى رواجاً وقبولاً وذيوع صيت، إضافة إلى جنوح بعضها صوب مزيد من التشدد والانغلاق اللذين يلقيان آذاناً مصغية لدى الشارع بصورة كبيرة.
"الشارع بات منقسماً قسمين متنافرين غير متساويين من حيث الحجم" بحسب ما يقول متخصص علم الاجتماع السياسي سعيد صادق لـ "اندبندنت عربية"، "قسم يقبل التفكير ويختار التنوير ولا يخشى من الدعوة إلى المراجعة الفكرية وهذا قليل الحجم جداً، والآخر يميل إلى التشدد ويختار التزمت ويجد نفسه منجذباً إلى الانغلاق، لذلك نجد أن جمهور داعية مثل عبدالله رشدي يلقى قبولاً كبيراً من منطلق أن الجبهة الأخرى هدفها تدمير الإسلام".
يشار إلى أن رشدي المنتمي لوزارة الأوقاف معروف بنشاطه "الدعوي" الكبير ووجوده المتمدد على أثير الـ"سوشيال ميديا"، وكان رشدي بطل آراء ووقائع عدة أثارت جدلاً، مثل رأيه في زواج القاصرات وإمكان تزويج الطفلة ابنة التسع سنوات "شرط أن تطيق الوطء، وإذا كانت سمينة الجسد"، ويدافع باستماتة عن ختان الإناث، وقال إنه "ليس من الطبيعي أن تخرج فتاة بملابس لا تصلح إلا للنوم ثم تشكو من التحرش" وأن "من تستعرض جسدها بصورة فاحشة أمام شباب تملؤه الرغبة ويمنعه الفقر فهي شريكة في الجرم"، وغيرها كثير من الآراء التي لا تزعج الشارع إلا قليلاً.
قنبلة وشظايا
العدد الصغير من المنزعجين في الشارع جراء آراء أو فتاوى أو مواقف دينية يصفها بعضهم بالتشدد أو التطرف أو الغرابة وجدوا خلال الأسابيع الأخيرة قنبلة جديدة تنفجر شظاياها في المدارس وعلى أثير الـ"سوشيال ميديا"، القنبلة الجديدة اسمها فدوى مواهب، وهي أحدث الوافدين والوافدات إلى عوالم الدعاة الجدد الذين يخاطبون طبقات اجتماعية واقتصادية تسكن النصف الأعلى من الهرم الطبقي.
بلغة عربية ممزوجة بالإنجليزية تنثر مخرجة الحفلات والأفراح المعتزلة المنتمية لأسرة فنية فدوى مواهب آراءها الدينية التي يجري تصويرها في فصول مدرسية في حصة التربية الدينية الإسلامية على الأثير العنكبوتي، ومواهب التي بدأت عقب ارتدائها الحجاب واعتزالها وتدشينها "بيزنيس" بيع عباءات وملابس محجبات للطبقات الثرية تقول للأطفال إن ارتداء الطفلة "الشورت" في بيتها أمام أمها حرام، وإنه "يجب إغلاق الشبابيك (النوافذ) في البيوت قبل الغروب لأن الشياطين بتجري (تركض) في الشوارع، وأي مكان مفتوح هتخش (ستدخل) فيه على طول"، كما أكدت أن النبي عيسى (عليه السلام) مسلم، "ومافيش حاجة اسمها دين مسيحي أو يهودي"، "لكن توجد الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء والدين الوحيد هو الإسلام"، وغيرها كثير من الآراء الشبيهة.
ما تقوم به مواهب صورة طبق الأصل عما دأب "الدعاة الجدد" على عمله، ظاهرة "الدعاة الجدد" بزغ نجمها في مصر في ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت منذ ذلك الوقت مع ضخ دماء جديدة بصور مختلفة بين الحين والآخر، ومعظمها يلقى رواجاً شعبياً وإعلامياً كبيراً، لا سيما أن بعض هؤلاء "الدعاة الجدد" لا يقدمون أنفسهم باعتبارهم دعاة، بل هواة متبحرين في الدين.
على سبيل المثال لا الحصر، يعتبر بعضهم طبيب الحالات الحرجة حسام موافي الذي تصاعد نجمه من الـ"سوشيال ميديا" لتتلقفه القنوات التلفزيونية مازجاً الدعوة الدينية بالطب والفقه بالصحة والشرع بالعلاج داعية، ويقدم موافي برنامجاً احتار بعضهم في تصنيفه بين الطب والدين عنوانه "ربي زدني علماً" على قناة يملكها رجل أعمال مصري.
وقبل أيام، أثارت صورة منتشرة لموافي وهو يقبل يد مالك القناة جهراً جدلاً كبيراً، ففريق رأى في المشهد إهانة للعلم والعلماء الذين يعتبر موافي نفسه منهم، والآخر هرع للدفاع عنه، ومنهم علماء دين أفتوا بأن تقبيل عالم الطب ليد رجل الأعمال لا يخالف الكتاب والسنة، واللافت أن رأي الشارع مال إلى الدفاع عن موافي، لا سيما بعدما حصل الدفاع على "تصديق" من رجال دين ووعاظ على منصات التواصب الاجتماعي.
الدعاة الجدد
الكاتب الصحافي ومؤلف عدد من الكتب التي توثق ظاهرة الدعاة الجدد وائل لطفي يقول إن "الموجة الأحدث من الدعاة الجدد ظهرت في بداية التسعينيات، وهؤلاء لم يتعلموا في الأزهر أو يرتدوا زياً مثل علمائه، كما لا ينتمون لدعاة السلفيين الذين يمكن معرفتهم بمظهر مميز كذلك، بل يرتدون ملابس عادية ويتحدثون باللهجة العامية العادية، ودربوا نفسهم بنفسهم، واكتسبوا ثقافة يعتقدون بأنها دينية من خلال كثرة التردد على المساجد وحضور الدروس الدينية لمشايخ بأعينهم بعضهم على الإنترنت، وخطابهم قوامه التخويف والزجر إذ إن مهمة الإنسان في الدنيا هي النجاة من النار".
ويرى لطفي أن فدوى مواهب "نموذج لهؤلاء الدعاة، لا سيما الذين استفادوا من الـ’سوشيال ميديا‘ ومن التغير الاجتماعي الذي حدث في الشارع المصري، خصوصاً بعد أحداث 2013 والتي نتج منها إنهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كما لا يمكن فصل ظاهرة فدوى مواهب عن الأوضاع الاقتصادية في المجتمع المصري".
ويبدو أن هذه الأوضاع الاقتصادية تقوم بدور ما في "جذب" قاعدة ليست قليلة من المصريين بعيداً من أي دعوات إلى نقد الفكر السائد أو تطهير الخطاب الثقافي أو تنقيح الخطاب الديني، والاكتفاء بالارتماء في أحضان من يميلون إلى التشدد والدق على أوتار تأنيب الضمير والشعور بالذنب، مما يدفع بعضهم إلى اعتناق منهج من التشدد كنوع من التطهر.
التشدد رفاهية فكرية
متخصص الطب النفسي خليل فاضل يقول إن "المجتمع بات شديد الارتباك، فغلاء المعيشة وصعوبة العيش أصبحا هماً رئيساً، أتأمل وجوههم في الشارع أو في عيادتي، فأجدهم مرهقين غير قادرين على التفكير، لا أظن أن لديهم رفاهية التفكير واختيار التزمت أو التشدد، هم لا يملكون هذه الرفاهية الفكرية".
ويضيف فاضل أن "تدين المصريين كان بسيطاً وفطرياً، كنا نقول إن المصري بطبيعته بينه وبين ربنا عمار، لا يحتاج إلى أحد يخبره إن كان الفتح الإسلامي خيراً أو شراً، أو أن رجل الدين الفلاني آراؤه متعصبة أو وسطية، المصري كان وما زال يختار التدين البسيط كنوع من الأمان وحائط الصد، لكن للأسف أن فئة كبيرة جداً أصبحت تختار التديين، أي تهويل الدين ونزع المكون الروحاني منه، فقط مظاهر وطقوس".
تناقض رهيب
ويرى فاضل تناقضاً رهيباً في المجتمع، ممثلاً بفساد قيمي لدى بعضهم ومعه تزمت ديني رهيب، وفي ضوء هذا التناقض، بحسب فاضل، بات هناك من لا يلتزم أخلاقياً، لكنه يبحث عن دعاة جدد ليربي أبناءه على "التدين" بحسب المفهوم الجديد، ويضيف أن "هؤلاء الذين يحملون هذا التناقض ينفرون من أية محاولات تدعو إلى التفكير بطريقة مختلفة أو إعادة البحث في مسلمات أو أفكار متشددة يعتبرونها ملجأ ومهرباً لهم، هم يتشبثون بفكرة ولو كانت طارئة، والتدين الشعبي الحالي أصبح سريعاً وشديد التفاعل مع الأوضاع العامة أكثر من أي وقت مضى، وللعلم، فإن كثيراً من العادات الاجتماعية بات يتسم بالقدسية، ومن يجرؤ على الاقتراب من هذا المقدس وتفكيكه، يواجَه برعب وتكفير تلقائيين".
هذا الدفاع من قبل بعضهم عن الدعاة الجدد سببه أن "بضاعتهم مطلوبة، سواء كانت دروساً مثل تلك التي تعطيها مواهب، أو خط أزياء عباءات، أو ملابس محجبات أو ما شابه، وهو تحديداً ما تقدمه فدوى مواهب"، كما يقول الكاتب الصحافي وائل لطفي.
أما آخرون مثل حسام موافي، فيرى لطفي أنه نموذج شديد الشبه بما كان يفعله الراحل مصطفى محمود عبر برنامجه "العلم والإيمان"، ويقول "هو يبيع فكرة مريحة جداً، ألا وهي العلم والإيمان، وهي فكرة قائمة على أن القرآن فيه كل شيء، العلم والطب والفضاء وغيرها وبذلك لسنا مضطرين إلى بذل أي مجهود، أو إجراء أي بحوث أو دراسات علمية، أو أن نشعر بالنقص تجاه الغرب، أو أننا متخلفون مقارنة بالغرب، أو أن المجتمع يعاني نقصاً من أي نوع، وكيف نشعر بذلك، والقرآن الكريم فيه كل ما نحتاج إليه، الفكرة مريحة جداَ".
متخصص علم الاجتماع السياسي سعيد صادق يضيف سبباً آخر يجعل بعضهم في مصر يهرع لقبول أفكار يصفها بـ "العجيبة" أو "المتشددة" يحاول الدعاة الجدد ترويجها، وهو نظام التعليم الذي لم يتمكن من الانتقال من خانة الحفظ والتلقين إلى التفكير النقدي والذي يأتي معه قبول الآخر والتسامح، ولذلك، يقول سعيد "يأتي رد الفعل الشعبي على مبادرات مثل ’تكوين‘ عنيفاً رافضاً بشدة من دون الاطلاع على ما تمثله المبادرة أو ما تحاول عمله أو نهجها، والطبيعي أن يكون في المجتمع فريقان كارهان لبعضهما بعضاً تماماً، فرد الفعل الغاضب على ’تكوين‘ جاء رفضاً للأفراد قبل الأفكار، هؤلاء الأفراد، مثل إبراهيم عيسى ويوسف زيدان وفاطمة ناعوت يجري تشويههم من قبل بعضهم باعتبارهم ’جاؤوا ليدمروا الإسلام‘".
فشل التحديث
أما وائل لطفي، فيرى أن سبب الإقبال الشعبي على الدعاة الجدد لا سيما إن كانوا متزمتين، وليس على مبادرات مثل "تكوين"، هو فشل تجارب التحديث، ويقول "تجربة التحديث في مصر فشلت تاريخياً، وحتى عام 1805، كان المجتمع تقليدياً تسيطر عليه الخرافات بصورة أساسية، ثم بدأ تأسيس الدولة الحديثة بتدشين الوزارات والجيش، وهيئات الجامعات وغيرها، لكن بعد الحرب العالمية الثانية ومحاربة إسرائيل، أصيبت التجربة بانتكاسة، وبدأت تيارات التطرف الديني بالتصاعد كرد فعل على قيام إسرائيل".
ويضيف لطفي أن "شخصيات نعتقد بأنها مؤثرة في المجتمع المصري ظل تأثيرها في واقع الحال محدوداً بالمدينة، وليس القرى النجوع، أفكار وكتابات طه حسين أو أحمد لطفي السيد مثلاً، هل وصلت أفكارهما إلى القرية؟؟، حتى إن لطفي الذي رشح نفسه في 1913 في قريته على مبادئ الديمقراطية، أشاع معارضوه أن معنى الديمقراطية هو الإلحاد".
غياب خطة الإصلاح
من جهة أخرى، ينتقد سعيد عدم وجود خطة قومية للإصلاح أو مكافحة التطرف، مشيراً إلى أن "من يرغب في مكافحة التطرف في الفكر فعلياً، يفعل ذلك من خلال إجراءات وسياسة غير معلنة مثل تمكين المرأة والأقليات وإصلاح التعليم ليكون قائماً على التفكير النقدي، مع خطاب إعلامي منفتح متنور، لا بإقحام عشرات البرامج الدينية تحوي فتاوى لا أول لها أو آخر".
ويظن بعضهم أن عروض المناظرات مع أعضاء "تكوين" التي تقدم بها رجال دين والتي تواترت منذ تم الإعلان عن تأسيس "تكوين"، هي من قبيل دعم التفكير النقدي وطرح الأفكار للنقاش، لكن آخرين يخشون من أن تنتهي هذه المناظرات كما انتهت المناظرة الشهيرة للمفكر الراحل فرج فودة الذي كان من أعتى المدافعين عن الدولة المدنية في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992 أمام عدد من رجال الدين، والتي انتهت بإصدار بيان من قبل "جبهة علماء الأزهر" يكفر فرج فودة، وأصدر عدد من رجال الدين، بينهم الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي بياناً داعماً لما جاء في بيان الجبهة، وبعد ستة أشهر من المناظرة، تم اغتيال فرج فودة على يد شابين متشديين.
مؤيدون ومعارضون
وتبقى ردود فعل الشارع المصري، وكذلك أثيره على الـ"سوشيال ميديا" منقسمة بين مؤيدين كثر لفدوى مواهب وما تمثله لمجرد أنها تتحدب باسم الدين، ومعارضين لما تحاول أن تقوم به من زرع مزيد من أصول نسخة التدين التي يعتبرونها متزمتة أو غريبة أو لا علاقة لها بدين، كما تبقى هذه الردود نفسها متخوفة ومتشككة، وربما معارضة ومنددة بما تقول "تكوين" أو غيرها من المبادرات التي يذكر أصحابها أنهم يهدفون إلى التنوير الثقافي وتصحيح مسار تجديد الخطاب الديني أو رفع الحرج عن خاصية التفكير من دون تكفير، هي موجة من موجات الشد والجذب بين تيارين، سرعان ما ستخفت، على رغم قوتها هذه المرة، لحين قدوم موجة أخرى، لكنها تظل موجات تضاف إلى بالون ضخم يحوي التيارين المتناقضين.