ملخص
كل من يريد اليوم، وربما في هذه المناسبة، التصدي لسيرة كافكا سيلاحظ نقصاً حاداً في المراجع والمصادر التي تنير له الطريق وتقترب بعمله من الكمال.
في مثل هذا اليوم الثالث من يونيو (حزيران) وقبل 100 سنة، عام 1924، توفي وهو بالكاد تجاوز الـ40 من عمره، ذلك الكاتب التشيكي باللغة الألمانية فرانتز كافكا، الموظف من ناحية وضعه المهني، في فرع مينة براغ من شركة التأمين العامة الإيطالية. ولئن كان عالم الأدب يحتفل اليوم بالذات بالذكرى المئوية الأولى للسيد كافكا، فليس هذا بالطبع لأنه كان موظفاً نشيطاً في تلك الشركة، بل لأنه كان في أوقات فراغه، لا يتوقف عن أن يدبج مئات من الصفحات مؤسساً عبرها لحداثة أدبية غير مسبوقة في الأزمنة الجديدة، بين روايات وقصص ويوميات ورسائل كان قبل رحيله قد طلب من "أقرب أصدقائه إليه"، الكاتب ماكس برود، أن يحرقها غير مبق على أي أثر لها في حال مفارقته الحياة.
في مثل هذا اليوم فارق الكاتب المريض الشاب الحياة، لكن صديقه لم يعمل بوصيته، بل على العكس، سارع بعد ذلك الرحيل بـ15 يوماً إلى البدء في إصدار تلك الصفحات بدلاً من حرقها. وحسناً فعل! فاليوم وبعد مرور قرن بكامله على ذلك الحدث الجلل ها هو أدب كافكا لا يزال يملأ الدنيا ويشغل الناس. ومن هنا لا شك أن ذكرى مئويته التي تصل أوجها اليوم بالذات تكاد تكون الحدث الأدبي الأبرز في أنحاء عديدة من العالم، ولا سيما في براغ وبرلين وفيينا، المدن الأوروبية الثلاث التي ارتبطت بها حياة ذلك الكاتب. وبالنسبة إلينا هنا، في هذه الزاوية التي كثيراً ما اهتمت بكافكا وأدبه، ها نحن نشارك في المناسبة، لكن عبر ثلاث نظرات نقدمها تباعاً، ملقاة على كافكا من خارج ما هو مألوف من نظرات تلقى عليه. وأول تلك النظرات تأتي من أحدث من تصدوا لكتابة سيرته، والثانية من خلال نظرة الكاتب الأميركي فيليب روث، أما الثالثة فمن خلال الفيلم الأكثر نجاحاً الذي اقتبسته السينما من أدب كافكا، فيلم "المحاكمة" من إخراج عملاق السينما أورسون ويلز.
من السوري إلى الألماني
عندما شرع المؤرخ الأدبي الألماني راينر ستاخ في العمل على إنجاز سيرة جديدة لفرانتز كافكا، كان يعرف تماماً ما يخبرنا به إبراهيم وطفة، الباحث السوري المقيم والعامل في ألمانيا ويكاد يكون أبرز المتخصصين العرب في أدب كافكا وحياته كما في نقد ما ترجم إلى العربية من كافكا وعنه، ناهيك بأن ترجماته الخاصة لأعمال كافكا الرئيسة تعد من أفضل ما تحقق في هذا المجال، بخاصة أن وطفة حققها مباشرة عن الألمانية مشتغلاً بالنسبة إلى كل قطعة منها على عشرات النسخ والبحوث بصورة تبدو خلقاً استثنائياً بالتأكيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فهذا الكاتب السوري الذي يكاد يكون في عمله راهباً بندكتياً، يحصي مئات السير والكتب النقدية التي تناولت كل ما له علاقة بكافكا، بحيث يكاد المرء يقول "كفى!"، بل ربما قالها كثر قبل ظهور سيرة كافكا لستاخ، في ثلاثة مجلدات ضخمة يبدو خلال العقدين الأخيرين أنها قد باتت معتمدة في العالم أكثر من أية سيرة أخرى. صحيح أننا لم نعرف رأي وطفة فيها، لكن معظم "الكافكاويين" في العالم أجمعوا على أنها لم تكن ترفاً، بل حاجة ضرورية "إن لم يكن لجديد أتت به، وهي أتت بجديد في ما يتعلق على أية حال بطفولة كافكا، فبفضل التحليل العميق لعلاقة حياة كافكا بنتاجه الأدبي، وبخاصة على ضوء فرويدية لا نعرف ما إذا كان كافكا قد تعرف إليها عن قرب خلال حياته هو الذي كان قارئاً نهماً وعاش ردحاً في فيينا غير بعيد من مكان إقامة فرويد نفسه، لكن هل هذا الجانب يبدو لنا اليوم مهماً حقاً؟
بين الشعبية والنخبوية
سؤال يمكن طرحه بالتأكيد، لكنه لا يشكل الجانب المهم في ما يتعلق بكافكا وأدبه، حتى وإن كنا نعرف أن كتاب سيرة كافكا ومحللي أدبه قبل ستاخ، من مارت روبير إلى بيترو تشيتاتي، مروراً بكلود ديفيد وإرنست باول وحتى بماكس برود نفسه، قد اهتموا بذلك الجانب وأشبعوه درساً. بالنسبة إلى راينر ستاخ، وهو ما سبقه إليه باحثنا السوري المجتهد إبراهيم وطفة، المهم هو تفاصيل تلك الحياة كما تلوح لنا من خلال التفاصيل اليومية لسيرة الكاتب، لكن أيضاً، وبخاصة، من خلال رسمه الدقيق للشخصيات التي تشغل رواياته الكبرى، وقد تلوح أيضاً في خلفيات شخصيات قلقة، بل مرتبكة تظهر كالأشباح في نصوص له أقل شهرة - ولعل أكثرها غرابة، المغنية جوزفين والفنان الجائع في قصتين قصيرتين يشكل كل من الشخصيتين عنوانيهما، ولا تقلان أهمية مثلاً عن أبطال رواياته الكبرى الحاملين حرف "ك" (من كافكا) اسماً لهم: "ك." "المحاكمة" و"ك." "القصر" و"كارل" رواية "أميركا، أو المختفي"... إلخ. - والحال أن ستاخ يتميز بأنه وإن ترك صبى كافكا ليقدمه في الجزء الثالث من "موسوعته" الضخمة، فإنه إنما فعل ذلك لأهمية تلك السن التي سيقول لاحقاً وحتى بعد اكتمال اشتغاله على الثلاثية، كم أنها اشتغلت على تكوين أدب كافكا وحداثته. وفي انطلاق من كون ذلك الأدب قد تكون تحديداً من خلال قراءات كافكا الأدبية الخالصة، أي بالتحديد قبل أن يتكون وعيه الوجودي والحياتي.
تأثيرات فلوبير
ولعل علينا أن نتنبه هنا إلى هذا الواقع، وذلك على الضد من معظم تلك الدراسات والسير "العالمة" التي ركزت في الماضي على ثقافوية أدب كافكا الروائي ونخبوية مصادره، مما جعله يبدو وكأن أدبه وليد تعمق في الدراسات الفلسفية والأدبية. في المقابل إذاً، يخبرنا ستاخ هنا بأنه أدب أتى مستلهماً من الحياة نفسها، مما رصده كافكا الفتى حوله في ما كان منكباً وفي سن المراهقة تقريباً على قراءة روايات الفرنسي غوستاف فلوبير، وبخاصة رواية هذا الأخير "التربية العاطفية" التي يقول كافكا نفسه في يومياته إنها كانت سفر تكوينه الحقيقي كرواية شعبية تتلاقى مع أسلوبه الساخر والمرح، في كتابة رواياته لاحقاً.
ومن المؤكد أن هذا البعد، الذي قليلاً ما اهتم به الدارسون "الأكثر جدية" لروايات كافكا، سيبدو لكل من يتعمق حقاً في قراءة كافكا، والذي لن تفوته ولو فقرة واحدة من فقرات السيرة التي كتبها ستاخ وتعد أجد ما كتب عن كافكا دون أن يزعم كاتبها أنها تقول الكلام الفصل في هذا السياق بمعنى أن كاتبها نفسه إنما يعدها فاتحة لتجديد النقاش من حول كافكا، بالتالي إعادة أساليب هذا الأخير إلى أبعادها المضحكة التي لم يفت الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني حنة آرندت، في عديد من نصوصها - ولا سيما في ذلك النص الكبير واللافت الذي كرسته لكافكا في كتابها "إضاءات لفهم الواقع" الصادر مترجماً إلى العربية في بيروت قبل سنوات قليلة - أن تقارب بينها وبين أساليب شارلي شابلن في سينماه. وهي أساليب نعرف أن كافكا نفسه طالب قراءه باستعادتها خلال السنوات الأخيرة من حياته!
بعيداً من زحام الحياة
مهما يكن من أمر لا بد أن نشير هنا إلى ما يشير إليه راينر ستاخ في حوار أجراه معه ملحق خاص أصدرته صحيفة "لوموند" الفرنسية لمناسبة مئوية كافكا التي نحن في صددها، من أن كل من يريد اليوم، وربما في هذه المناسبة، التصدي لسيرة كافكا سيلاحظ نقصاً حاداً في المراجع والمصادر التي تنير له الطريق وتقترب بعمله من الكمال. "صحيح. يقول ستاخ، إنه ليس ثمة ما قد يكون مثيراً حقاً في حياة كاتب مات مريضاً وشاباً بسبب داء سل أصابه في المريء، وأمضى سنوات حياته الأساسية مقيما لدى والديه ولم يتزوج أبداً بل كان قليل السفر"، لكنه عرف مع ذلك كيف ينظر إلى الوجود وإلى السياسة وإلى العلاقات، وهو غارق في عمله البيروقراطي في شركة تأمين مملة بصورة لم يفعلها أي كاتب من كتاب بدايات القرن عاش حياة متنوعة ومتقلبة. ولا شك أن ستاخ كان مهتماً في السيرة الثلاثية بحل هذا اللغز الكبير في حياة فرانتز كافكا، بل حتى في التاريخ الأدبي للقرن الـ20. ونعرف طبعاً أن مثل هذا الاهتمام إنما يزيد عادة من كم الأسئلة المطروحة وتشابكها، وهو ما تفعله هذه السيرة بالتأكيد.