ملخص
عندما كتب الاميركي فيليب روث عن كافكا عمد في نصه إلى التفاعل مع سلفه الكبير ليس من موقع السيرة، وليس من منطلق علمي عموماً، بل من منطلق يخلط بين التخييل والسيرة في لعبة يتقنها عادة وستصل إلى أوجها مع روايته "قضية شايلوك"
لمناسبة المئوية الأولى لرحيل الكاتب التشيكي باللغة الألمانية فرانتز كافكا (1883 – 1924) نقدم في هذه السلسلة من المقالات التي ننشرها تباعاً، ثلاث نظرات ألقيت في مراحل مختلفة على صاحب "المسخ" و"المحاكمة"، أولاها نشرناها أمس وتعود إلى كاتب سيرته التي باتت مرجعاً عن حياة كافكا وعمله بمجلداتها الثلاثة، راينر ستاخ. والثانية ننشرها اليوم مستقاة من نص يكاد يكون كافكاويا خالصاً للكاتب الأميركي فيليب روث الذي حين كتبه عام 1978 ضمن سياق كتابه "من جانب بورتنوي ونصوص أخرى" لم يكن بعد يعتبر الأكثر كافكاوية بين كتاب نهايات القرن العشرين، على أن ننشر غداً النظرة الثالثة التي تتمثل في تحقيق السينمائي الأميركي أورسون ويلز في عام 1962، واحداً من أقوى الأفلام السينمائية المقتبسة من نص لكافكا، "المحاكمة".
تفاعل بين كاتبين
بداية لا بد من التركيز على أن روث عمد في نصه هذا عن كافكا إلى التفاعل مع سلفه الكبير ليس من موقع السيرة، وليس من منطلق علمي عموماً، بل من منطلق يخلط بين التخييل والسيرة في لعبة يتقنها عادة وستصل إلى أوجها مع روايته "قضية شايلوك" حيث يحدثنا عن الكاتب فيليب روث نفسه وقد تناهى إلى علمه من طريق أصدقاء عادوا لتوهم من تل أبيب بأن ثمة شبيهاً مطابقاً له شوهد في تلك المدينة يتجول ويقابل الناس والأوساط الأدبية زاعماً أنه هو نفسه فيليب روث!. هنا في النص المكرس لكافكا والذي يمكن القول إنه افتتح منذ ذلك الوقت المبكر، كافكاوية روث، يفترض هذا الأخير بأن كافكا لم يمت بداء السل في يونيو (حزيران) 1924، بل هو بقي على قيد الحياة حتى استيلاء هتلر على السلطة واحتلاله براغ حيث هرب كافكا في جملة الهاربين عابراً المحيط الأطلسي إلى العالم الجديد حيث سيمرض ويموت في ضاحية نيوآرك بولاية نيوجيرسي – مسقط رأس روث نفسه وموطن كثر من بائسي اليهود الأميركيين ومثقفيهم -، بعدما عاش هناك ردحاً من الزمن درّس خلاله اللغة العبرية وهو غارق في عزلة تليق بتاريخه، مريضاً يحتضر. ويفترض روث أن تلك الفترة التي عاشها كافكا في الولاية غير البعيدة من نيويورك، كانت تلك التي كتب فيها ما تمكن من إنجازه من رواية "الخلد" التي سيموت من دون استكمالها...
خلد بين الدهاليز
انطلاقاً من تلك الرواية إذا يكتب روث نصه هذا عن كافكا والذي يفتتحه بالحديث عن الحيوان الذي أعار رواية كافكا عنوانه موضحاً لنا أن "الخلد" نص يحكي قصة ذلك الحيوان "الذي تطبعه حساسية مفرطة تجاه الخطر الذي يحيط به ويترصده في كل لحظة". بالتالي فإن ذلك الحيوان ينظم حياته من حول مبدأ الدفاع الذاتي ودائماً تبعاً لمبدأين لا يبتعد عنهما ولو لحظة واحدة: الأمن والرصانة. وفي سياق هذين المبدأين يبني الخلد كما يحدثنا فيليب روث مفسراً رواية كافكا، "شبكة مدهشة من الأنفاق والدهاليز تحت الأرض تتقاطع مع غرف وممرات وزوايا غايته منها أن توفر له ما تستدعيه الأخطار من ضرورة الإحساس بالأمان وهو يحفر ذلك كله بمخالبه وأسنانه ولكن قبل ذلك كله بعقله ورأسه. ولكن "إذا كان الخلد يبعد بتلك الهندسة كلها الأخطار التي تأتيه من الخارج، فإن ما يشغل باله حقاً حين يكون في الداخل إنما هي الأخطار التي تجابهه هناك في ذلك الداخل حيث يتعين عليه أن يمضي كل دقيقة وثانية مهتماً بأن يدفع عنه تلك الهموم الداخلية التي يشعر بأعلى درجات الفخر والإحساس بملامسة الجوهر فيما هو يلامسها" غير أنها في الوقت نفسه لا تكف عن التهامه التهاماً حتى بمجرد تفكيره بها.
ويخبرنا روث هنا أن هذه الرواية التي كتب كافكا ما كتب منها خلال تلك الشهور التي عرف فيها المرض والاحتضار وهو مقيم في منزل دورا دياما بالقرب من برلين فتحولت إقامته في نص روث إلى نيوآرك الأميركية في النص المختلط بين سيرة متوهمة لكافكا وسيرة تكاد تكون حقيقية لروث نفسه كما يمكننا أن نستنتج. ومهما يكن من أمر هنا، فإن روث يخبرنا أيضاً بأن كافكا لم يكمل الرواية حيث نجده يتوقف عند حديثه عن أصوات مبهمة مدندنة فيما الخلد يحفر دربه الغورية وهو متوجه إلى القلعة (القصر في رواية كافكا الفعلية) حيث يزور ذلك المكان النائي العصي الغامض بوصفه مساح الأراضي الذي أرسل إلى المكان للقيام بمهام بيروقراطية، ولنتذكر هنا لغوياً أن المساح يسمى خلداً في المصطلحات الشعبية في بعض المناطق وهو أمر يذكرنا فيليب روث به في النص نفسه.
أمام روايتين سوداويتين!
وعلى هذا النحو، ودائماً بالنسبة إلى فيليب روث الذي يقارب هنا بين روايتي كافكا غير المكتملتين، "القصر" و"الخلد"، نجدنا أمام روايتين سوداويتين يفترض روث أنهما رواية واحدة بتنويعتي أحداث تنتمي إلى تفسير واحد يتعلق بذلك الفخ الذي يعيشه الشرط الإنساني في كل لحظة من وجوده، فخ يرى روث أن كافكا إنما وصفه، وورثه روث نفسه منه في نصه، الكافكاوي على أية حال، كمكان تمحي فيه الفوارق المنطقية بين الشخصية والمحن التي تتعرض لها. وعلى رغم هذا البعد الذي ينسبه روث لكافكا لكننا نعرف أنه ينتمي إلى روث بأكثر مما ينتمي لكافكا لكونه وليد خيال روث نفسه، ها هو الكاتب الأميركي يعزو إلى سلفه التشيكي نوعاً من نقطة تفاؤل ناتجة من كتابته نص "الدفاع الذاتي" في الشهور الأخيرة "الشهور الأخيرة السعيدة في حياة كافكا والتي سبقت موته" بحسب ما يحاول روث إخبارنا. ويبدو واضحاً أن تلك "النقطة المتفائلة" تعود إلى ما يلمسه القارئ في "الخلد" من رغبة الكاتب في مصالحة ذاته. أي في قبول ما يعيشه من خلال رضاه عما بات عليه من جنون سعيد. وهو مصير ربما قد فات كافكا أن يعبر عنه بشكل واضح من خلال رنة السخرية المازوخية التي يواجه بها غريغوار سامسا مصيره في "المسخ" إذ يتحول إلى صرصار. أو يبديها (ك.) في "المحاكمة" و"الحكم"، حيث تتحول ذهنية الكاتب، ودائماً من منظور فيليب روث، إلى نوع آخر من "المصالحة مع العالم" عبر ما في الروايتين الأخيرتين من توجه إلى نقد الذات بل حتى إلى جلدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطوة لا بد منها
ومن هنا حتى نستعير من روث توصيفه موقف سامسا و(ك.) في تلك الروايات وتحديداً على ضوء شخصية الخلد في الرواية كما يفترضها روث، للقول بأن ليس من الصحيح أن كافكا إنما كان يسعى للاستسلام أمام هزيمة الإنسان بشرطه الوجودي، خطوات يقطعها روث في هذا النص الغامض على رغم وضوحه ما يجعلنا نفترض أن تفسير هذا الأخير لرواية "الخلد" يجعل منها حكاية رمزية تتعلق بالسمات الرومانسية بل العاطفية حتى التي تطبع منطق الفن نفسه وتحديداً من خلال سؤالي "الكيف" و"اللماذا" بحيث تصبح اللعبة كلها لعبة تنتمي إلى السيرة الذاتية.
ويقيناً أن تلك السيرة الذاتية، التي لن يفوت فيليب روث أن يقول لنا إن كافكا لم يبتعد عنا ولو قيد أنملة في أي من نصوصه، بمعنى أنك كي تكون كافكاوياً حقيقياً لا بد لك من أن تجعل من نفسك كاتباً لا يكتب إلا عن ذاته هي هنا للتعبير ليس تماماً عن كافكا ولكن عن روث نفسه (1933 – 2018) من خلال من سيبدو لاحقاً ليس فقط بوصفه كاتبه الأثير، بل بوصفه حتى كاتبه القدوة. فهل يمكننا يا ترى، وبعد كل شيء ألا نرى في واحدة من روايات روث الأساسية، وهي تحديداً "قضية شايلوك" التي ذكرناها أعلاه، نوعاً من تحية موجهة إلى كافكا من كاتب وجد فيه أناه/الآخر بل توجه يوماً إلى تل أبيب للبحث ليس فقط عن كافكاه ولكن أكثر من ذلك عن ماكس برود، صديق كافكا الذي حافظ على تراثه من الحرق بادئاً بنشر ذلك التراث من ناحية كصديق مخلص ولكن أيضاً كشايلوك حقيقي، تاجر معاصر يبرز من خلال نصوص كافكا بعد قرون من كتابة شكسبير مسرحيته "تاجر البندقية" التي كثيراً ما وصف بسببها بـ"معادي السامية"؟