Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

نحو ترشيد الرياضة من أجل التفكير في غد عالمي أفضل

الألعاب الرياضية والجيوسياسة في جو كأس أوروبا والأولمبياد

لوحة للرسام ليوسيال لونغ (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

مع انطلاق مباريات كأس أوروبا  لكرة القدم، واقتراب انطلاق دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس المعروفة رسمياً باسم دورة الألعاب الأولمبية الثالثة والثلاثين أو باريس 2024، والتي يتزامن إجراؤها مع الذكرى المئوية الأولى للألعاب الأولمبية التي جرت في مدينة الأضواء عام 1924،  أصدر الباحث الفرنسي في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية لوكاس أوبان، كتابين تناولا موضوع الرياضة والألعاب الأولمبية بوصفهما لحظة مفصلية في تاريخ الجيوسياسة الفرنسية، داعياً إلى ترشيد الرياضة من أجل التفكير في غد عالمي أفضل.

يحمل الكتاب الأول عنوان "قوة الرياضة: الرياضة معطى جيوسياسي جديد للمدن الفرنسية؟" (منشورات أوترمان، 2024). أما الكتاب الثاني الذي أصدره بالتعاون مع المحاضر في معهد باريس للعلوم السياسية والخبير في شؤون جيوسياسة الرياضة جان باتيست غيغان فيحمل عنوان "حرب الرياضة. جيوسياسة جديدة" (تالانديه، 2024).

ولوكاس أوبان الحاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات السلافية والمتخصص في الجيوسياسة الروسية والرياضة والعضو في مركز البحوث المتعددة الاختصاصات واللغات في جامعة باريس نانتير وجامعة باريس لوميير، والمعروف بكتابه "الرياضة تحت حكم فلاديمير بوتين: جيوسياسة الرياضة الروسية" (بريال، 2021) يرى في الألعاب الأولمبية والبارالمبية فرصة للتحدث عن البعد السياسي للرياضة واستغلالها الدائم من قبل الدول العظمى، خلافاً لما أراده المؤسس بيار دو كوبرتان الذي أكد الفصل التام بين الرياضة والسياسية وعلى ضرورة أن تكون الرياضة فضاءً للمصالحة بين الشعوب، لكن فكرة دو كوبرتان على بساطتها وجمالها بقيت من وجهة نظر أوبان حلماً صعب المنال، والحال أن مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة على ما يقول الكاتب قام هو نفسه بتسييس هذه الألعاب الأولمبية عندما رأى فيها وسيلة لتهدئة العلاقات بين الدول، وعندما حظر مشاركة النساء ورياضيي المستعمرات الأوروبية فيها حاصراً ممارستها على الغربيين وحدهم وبالرياضات المعروفة في أوروبا خصوصاً وفي الغرب عموماً.

 واليوم على رغم مواصلة اللجنة الأولمبية الدولية من مقرها في مدينة لوزان السويسرية وبعض المنظمات الرياضية الأخرى كالاتحاد الأوروبي لكرة القدم والاتحاد الدولي لكرة القدم التأكيد أن الرياضة محايدة ولا علاقة لها بالسياسية وبالأنظمة السياسية، يؤكد أوبان أن الواقع يشي بعكس ذلك. فغالباً ما يلجأ عديد من أصحاب النفوذ والقرار إلى استخدام الرياضة كوسيلة للتأثير في العلاقات الدبلوماسية والاجتماعية والسياسية على رغم تحرر الرياضة اليوم من بعدها الغربي. ويقول إن الطابع البارز للجنة الأولمبية الدولية سياسي بامتياز. ويكفي أن ننظر إلى القرارات التي اتخذتها عقب الغزو الروسي لأوكرانيا والتي دعت فيها بموافقة 37 دولة بقيادة المملكة المتحدة إلى استبعاد روسيا وبيلاروس من المسابقات الرياضية الدولية الكبرى، والتي تسببت بتعليق عضوية موسكو من قبل اللجنة الأولمبية وإلغاء الأحداث الرياضية المنوي إقامتها في سائر أراضيها ثم سماحها للرياضيين الروس والبيلاروس المشاركة في أولمبياد باريس بصفة حيادية باستثناء الرياضات الجماعية، طالما أنهم لا يدعمون الحرب على أوكرانيا وللقرارات المتعلقة برفض فرض عقوبات على إسرائيل بسبب عدوانها على غزة، إلخ...

باب النقاش

 ويشدد أوبان في كتابه الأول على أن تنظيم اللقاءات الرياضية الكبرى كالألعاب الأولمبية وكأس العالم والبطولات الدولية يثير عديداً من النقاشات. فإن تكن الرياضة وسيلة من وسائل إيصال "القوة الناعمة" لعديد من الدول فالتساؤل عما يجلبه تنظيم أحداثها العالمية للمدن المستضيفة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد يصبح ضرورياً. ومن هذه الزاوية يحاول الباحث العمل على دراسة الإرادة السياسية للمدن الفرنسية المنخرطة في البطولات والتظاهرات الرياضية المرافقة لهذه الدورة الأولمبية مسلطاً الضوء على استراتيجياتها لتطوير هويتها وجاذبيتها لاستضافة هذه الأحداث، وطارحاً بصورة عامة مسألة التوازن الهش بين الاستثمارات المتعلقة بكلف البنية التحتية المرتبطة باستضافة هذه الألعاب، كاستحداث أو صيانة الطرق والسكة الحديد والمطارات وبناء الفنادق والمطاعم والملاعب والقرى الأولمبية، والتي غالباً ما تكلف كثيراً أو أكثر من الكلف المرتبطة بالألعاب الرياضية نفسها ومسألة العائدات الاقتصادية والإيرادات المالية المتوقعة منها، وطارحاً خصوصاً مسألة القبول الاجتماعي والبيئي لتنظيمها مشدداً على أن بناء نموذج ديمقراطي مستدام هو التحدي الأكبر الذي تواجهه هذه المدن للاستفادة كاملاً من تأثيرات قوة الرياضة.

ويقول أوبان إن استضافة الألعاب الأولمبية قد تزيد في بعض الأحيان من صادرات المجتمعات المستضيفة وأن تأثيرها قوي في المساهمات الخيرية للشركات التي يقع مقرها الرئيس في هذه المدن، والتي يبدو أنها تفيد القطاع غير الربحي المحلي ويتطرق في تحليلاته إلى آثارها السلبية.

وتعد الألعاب الأولمبية واحدة من أكبر الأحداث العالمية التي تشارك فيها أكثر من 200 دولة ويشاهدها على شاشات التلفزة مئات الملايين من البشر، ولعل صداها العالمي فرصة تعمل بعض الدول على استغلالها بهدف الترويج لنفسها وهي من هذا المنظار تعكس بحسب أوبان، حال العلاقات الدولية. وبالفعل يظهر لنا الباحث كيف أن العالم أصبح اليوم متعدد الأقطاب وكيف أن الاستخدامات الجيوسياسية ترافق النتائج الرياضية في كل دورة من دورات الألعاب الأولمبية الحديثة منذ انطلاقتها عام 1896.

 وعلى هذا المستوى من التحليل يعود لوكاس أوبان على تتالي صفحات كتابيه إلى تاريخ هذه الألعاب، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي جسدت معظم دوراتها الأولمبية المعارضة بين الشرق والغرب، بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. ويتطرق كذلك إلى مسألة تبلور نظام عالمي متعدد الأقطاب بديل عن القطبية الثنائية ولو لم يتجاوز هذا النظام حدود الحضارة المتمحورة حول الغرب بعامة والولايات المتحدة خصوصاً، التي تدعي شمولية نظامها وقيمها وعالمية حضورها معتمدة إرادة القوة تحت شعار "التنوير" و"التقدم" والعلمانية والعقل والحرية وديكتاتورية التكنولوجيا. ويشير إلى سعي عديد من القوى المختلفة من خلال هذا النظام لاستغلال الرياضة على طريقتها مثل قطر والسعودية أخيراً في مجال رياضة كرة القدم، أو الدول المنضوية تحت مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) التي سعت إلى الحصول على تنظيم الألعاب الأولمبية أو غيرها من البطولات الرياضية الكبرى، كالصين التي استضافت الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية في بكين عامي 2008 و2022.

السمات المشتركة

ويستعرض الكتابان بتفصيل دقيق عدداً من السمات الأساس المشتركة لكل الأحداث الرياضية العالمية المعاصرة على اعتبار أن الرياضة انعكاس لتطور المجتمعات وخادمة لمصالح الدول أو الشركات التي تنظمها، متناولاً القضايا الجيوسياسية التي تمثلها البطولات العالمية الكبرى منذ نشأة الألعاب الأولمبية وتجديدها الذي بدأه دو كوبرتان، مشدداً على دور وقوة الدول المنظمة ومتحدثاً عن إنشاء دبلوماسية رياضية تعمل على تخفيف التوترات السياسية وتعزيز العلاقات الدولية وعن قدرة الرياضة على التأثير في السياسة الداخلية. ذلك أن الرياضيين الذين يحققون النجاح في المباريات الدولية يمكن أن يصبحوا رموزاً وطنية ويسعى بعضهم للوصول إلى المناصب السياسية، مما يظهر بوضوح التداخل بين الرياضة والسياسة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن للهزائم الرياضية أن تؤثر في الروح المعنوية وتعكس صورة الدولة على الساحة العالمية وهذا ما نراه في المنافسة الكبيرة بين الصين وأميركا في الألعاب الأولمبية...

اقرأ المزيد

 وفي هذين الكتابين يتناول لوكاس أوبان إذاً دور الدول والشركات والجهات الراعية وسيطرتها على المسابقات الأولمبية طارحاً في الوقت عينه مسألة التوفيق بين المال والحياد الرياضي والتفاعلات بين البيئة السياسية والمؤسسات المحيطة بهذه الأحداث الكبرى، مشيراً إلى استغلال الرياضة من قبل السياسيين المسيطرين على بعض الأندية الرياضية وجماهيرها الغفيرة ووجود لاعبين لامعين مشهورين فيها وبالتالي استغلالهم في معترك الحياة السياسية.

الكتابان شاملان يسلطان الضوء على تأثير القضايا الدولية الكبرى في عالم الرياضة الذي أصبح من الصعب جداً الحفاظ على طبيعته اللا سياسية والحيادية. ويبدو من خلال قراءة محتوياتهما أن الرياضة تحولت اليوم وبمعنى ما إلى ساحة مواجهة بين الدول، إذ لم يعد خافياً على أحد الدور الذي تلعبه المباريات الرياضية المختلفة في تسجيل الحضور القوي والوازن لبعض الدول الراغبة في التفوق وإحراز السبق على الدول الأخرى.

ويلفت الكاتب انتباهنا إلى أن الرياضة بوصفها أداة لتلميع الصورة وإبرازها باتت بديلاً عن القوة والعنف والحروب التي سادت في القرون الماضية، فتحولت في القرية الكونية الجديدة إلى مجال "للقوة الناعمة" التي تحتل فيها صورة البلد مكانة أهم، فضلاً عن أن البريق الذي تسبغه على الدول والنجوم بات يتجاوز حدود الأوطان الضيقة.

وفي النهاية إن ينسى لوكاس أوبان فلا ينسى التطرق إلى موضوع الرأي العام الذي يحظى بمكانة كبيرة في العالم لتأثيره في قرارات السياسيين، خصوصاً أن الرياضة باتت أحد أهم اهتماماته، فكان لها من هذه الزاوية دور استراتيجي يمكن توظيفه سياسياً سواء من قبل الدول الساعية إلى تأكيد حضورها في العالم أو من قبل السياسيين الساعين إلى الظهور بمظهر المتابعين لأمور الناس والمشاركين إياهم اهتماماتهم. وبهذا المعنى لم تعد الرياضة مجرد مجال للعب والنشاط الجسدي الفردي أو الجماعي بل أصبحت مجالاً للتدافع الجيوسياسي بين الدول الناظرة إلى التنافس واستعراض المهارات الجسدية وقدرات الإنسان الخارقة.

المزيد من كتب