Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"احتمالات لا نهائية للغياب" قصص تفضح وتستجلي أسرارا راقدة

إرث المرأة المصرية من القهر في مجتمع ذكوري

لوحة للرسامة المصرية هالة طارق   (موقع الرسامة فيسبوك)

ملخص

استفادت الكاتبة آية طنطاوي من خبراتها بالكتابة عن السينما، وأودعت قصصها من التقنيات السينمائية، مما أكسب سردها سمات بصرية عززت مشهدية اللغة، مما جعل في مقدور القارئ متابعة حركة عربة الترحيلات، ازدحام النساء داخلها، وإدراك حركاتهن، ملامحهن، قطرات الدم موضع القيد الحديدي حول معاصمهن.

في مجتمعات كثيراً ما توارثت أشكالاً شتى من قهر النساء وتهميشهن، تتحمل النصوص الأدبية بما تتسم به من رحابة، عبء استقراء عوالم المرأة، والاشتباك مع أزماتها، واستجلاء أسرارها ومعاناتها. وهو ما تحقق في المجموعة القصصية "احتمالات لا نهائية للغياب" (دار العين)، والتي تعبر من خلالها الكاتبة آية طنطاوي إلى فضاءات نسوية منسية.

تتشارك القصص ثيمة رئيسة وهي الاختفاء، فالأبطال دائماً ما تلتهمهم مصائر غامضة. يمضون نحو الغياب إما قسراً، وإما طوعاً بإرادة متمردة على واقع معطوب. وبينما تنوعت أساليب سرد القصص بين ذاتي على لسان أبطالها، ومركزي يستحوذ عليه راو عليم، كانت النساء دائماً شخوصاً محورية. وكانت أزماتهن ومعاناتهن قضايا جوهرية. وأضاءت الكاتبة عبرها إرث المرأة من القهر، في مجتمعات موسومة بالذكوروية والثقافة الأبوية، وكذلك إرثها من الخوف، والصمت، والخنوع. فالشابة الصغيرة في قصة "عربة ترحيلات"، كغيرها من النساء داخل العربة، لا تعرف شيئاً عن ذنبها، ولا عن مصيرها المجهول. تدفع - طوال الرحلة - آلام جسدها ضريبة للخجل. وتتكبد من الخوف والقلق، ما يفرضه مجتمع اعتاد أن يمارس عليها وصاية غاشمة: "الفتاة ساكنة في وضعها، أنهكها التعب، وحديد حمالة صدرها لا يزال ضاغطاً يؤلمها، اخترق جلدها، لم يمزقها الألم الذي كاد يشق قلبها، بل الخوف من أبيها الذي لم تعرف كيف ستفسر له غيابها غير المبرر" ص 14. والمرأة في قصة "باب الأساطير... موال النهر"، تسلب حياتها جراء الظن والأقاويل، أما الجاني وإن كان وازعه كبرياء مجروحة بالرفض، فتكفيه شعارات "الشرف" كي يفلت من العقاب. ولا تنفك المأساة تتكرر على رغم أن انسياب الزمن، ويظل الجناة هم الجناة والضحايا هن الضحايا. أما في قصة "مقام خضرا عطية"، تتحمل المرأة تعنيف زوجها وإيذاء ه البدني. وفي قصة "أبناء الليل"، تتكبد المرأة غياب شريكها، ووحدتها، وانتهاك مجتمع وجدها بلا شريك. وفي قصة "يموت مرتين" تعيش الأم مأساة استشهاد ابنها الشاب، الذي قتلته ثلاث رصاصات غادرة أثناء الثورة، ثم يعيش جيرانها أزمة اختفائها الغامض، أثناء سعيها للحصول على تكريم للشهيد. وتستمر معاناة النساء، وتتعدد صور هذه المعاناة، وتتباين تجلياتها عبر قصص المجموعة.

 

قوة الرمز

بينما تختفي بطلاتها، إما بالقبض عليهن، أو بقتلهن، أو بفرارهن ورحيلهن طوعاً، تبقي الكاتبة على غموض رحلتهن، والطرق التي سلكوها نحو الغياب والاختفاء، وما آلت إليه مصائرهن بعده. وتمنح لقارئها عبر هذه الفجوات السردية دوراً جديداً، وتدفعه لملئها والمشاركة في لعبة السرد. وتعزز هذه الغاية ذاتها عبر الحضور الكثيف للرمز في كل قصص المجموعة، الذي تدفع عبره القارئ إلى محاولة التأويل، واكتشاف الدلالة والمعنى، فالأسطورة ولعنة اختفاء النساء تحيل إلى قدم إرث المرأة من القهر، في حين يحيل الرعب من صور الشهداء، والنفور من الشتاء إلى شعور ثقيل بالذنب تجاه ضحايا ثورة يناير، أما التهليل عند إقبال الصيف وإزالة الصور، فيحيل إلى حيل النفس البشرية وألاعيبها للتوائم مع جبنها، ومع عطب واقع بائس، وذلك باقتراف جرم النسيان. كذلك يحيل اللون الرمادي بدلالاته المحايدة، وتكراره في قصص متعددة، إلى مناخ يسود الواقع الذي ترصده الكاتبة، يهيمن عليه اليأس والسلبية واللامبالاة. وتبرز قوة أكبر للرمز مع استدعاء الحلم، الذي شكل مكوناً رئيساً من مكونات السرد، إذ تجاوز دوره التقليدي في التفسير والتمهيد والتنبؤ والاستبصار، وتحول إلى امتداد للأحداث، وعنصر فاعل ورئيس في التطور الدرامي، في كثير من قصص المجموعة، لا سيما في قصة "رمشة عين"، وأيضاً في قصة "يقظة من حلم"، التي يدور القسم الأكبر من أحداثها داخل الأحلام، ويتداخل فيها الوهم والواقع، حتى يصبح كل منهما امتداداً للآخر، ويمتزجان حد استحالة اجتزاء الحلم من سياق السرد. ولم يعزز حضور الحلم، قوة الرمز وما يحيل إليه من دلالات وتأويلات وحسب، وإنما كان كوة نفذت منها الفانتازيا إلى كثير من القصص. وكان كذلك وسيلة لبلوغ الطبقات الأعمق من النفس، واستجلاء أسرارها، وتفريغ كبتها الشعوري "بارداً ذلك السكين، يخترق لحمي ويفسد سكوني، وفي صدري تتحرك الصخور وترتطم بأمواج هادرة. طعنة واحدة كانت كافية لينتهي كل شيء دون جلبة، ودمي الأحمر السائل لم يفسد رماد الحلم وصدى ضحكته العالية" ص 79.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشهدية فائقة

استفادت الكاتبة من خبراتها بالكتابة عن السينما، وأودعت قصصها من التقنيات السينمائية، مما أكسب سردها سمات بصرية عززت مشهدية اللغة، مما جعل في مقدور القارئ متابعة حركة عربة الترحيلات، ازدحام النساء داخلها، وإدراك حركاتهن، ملامحهن، قطرات الدم موضع القيد الحديدي حول معاصمهن. وسمحت لعينيه برؤية الأطفال، الذين يركضون ويتوارون بين أقفاص البائعات في سوق الخضراوات، ومشاهدة حتى ذاك الذي يحدث داخل أحلام أبطالها، من تهدم البيوت، سقوط الأسقف، والرقاب المقطوعة بنصل مروحة تهاوت. ولخدمة المشهدية ذاتها، استعانت الكاتبة بالوصف، وأجادت عبر تقنياته رسم ملامح الهامش، الذي اتخذت منه قضية وفضاءً للسرد. كما أضاءت عبر هذه التقتيات، لا سيما في مستواها التفسيري، الجو النفسي لشخوصها، وما تعيشه من بؤس وقلق وفقد وألم. "تتأمل بيوت الحي المتهالكة، الحوائط المتقشرة، مواسير الصرف الصحي البارزة في الواجهات، وإعلانات مكتوبة بخط اليد لمكاتب محاماة، وأرقام تليفونات مجهولة وأسماء منفردة لصنايعية وسماسرة وأحبة من طرف واحد. رائحة قديمة انبعثت من الجدران المتشققة فأشعلت في رأسها ذكرى مشوشة تعود لطفولتها في حارة مشابهة بحي يراقبه جبل ويسكن أطرافه ما تبقى من خيط النهر" 83. ولم تكن المشهدية والحمولات الرمزية والمجازية، الروافد الوحيدة لجمالية اللغة، بل كان التناص غير المباشر مع الموروث الديني رافداً آخر عزز خصوصية اللغة، وجماليتها "ليس نهراً بل شبه لهم" ص 25.

الفقد رفيق الغياب

تبع بروز الغياب كثيمة رئيسة جمعت كل قصص المجموعة، حضور ثيمة أخرى هي الفقد، لا سيما أن الاختفاء كان نهاية أزمة الغائبين ودورهم في الأحداث، وبداية أزمة من تركوهم خلفهم في حيز الحضور، لذا تشارك غالب الشخوص حالاً من التيه والألم جراء فقد الأم، الصديقة، الزوج، الحبيبة، الابن، الجارة. ونجحت الكاتبة في تصوير مأساة شخوصها، ومشاعرهم المضطربة والمأزومة. وأسهم ما دفعت به من شحنات عاطفية كثيفة، في تغليف قصصها بغلالة من الحزن الشفيف. كما مررت في زخم تلك المشاعر المضطربة، التي أودعتها نسيجها القصصي، إدانات ضمنية لثقافة تلصق الخطيئة بالمرأة، وتعد الأنوثة لعنة تستوجب التعوذ منها "زاد ابتئاس الأب الذي تمنى ذرية من الصبيان وإرثاً يخلو من الفتنة" ص 22. وحاكمت مجتمعاً ذكورياً، لا ينفك يمارس فوقيته على النساء. يودعهن محبس العجز. ويسرق ألسنتهن، فيصبح الصمت لغتهن الوحيدة، التي تتواطأ مع مصائرهن المظلمة، وتمهد لمصائر أخرى غامضة، تقبع خلف الغياب. كما مررت "طنطاوي" رؤى ضمنية تفكك هذه الذكورية، وتكشف دوافع القسوة، وأسباب العنف "قالوا إن الرجال قديماً كانوا يلدون الأطفال من فركة يد، زرعوا الصبية في أرض الصحراء الجافة فخشنت أياديهم وقلوبهم" ص 29

وأبرزت عبر ما ساقته في قصصها من أحداث، وما طرقته من قضايا، عديد من الثنائيات المتقابلة مثل الحياة والموت، القسوة واللين، الحضور والغياب، الحقيقة والوهم، الشجاعة والجبن، التذكر والنسيان. وكان قطبا كل من تلك الثنائيات، طرفين في الصراعات التي اندلعت في كل نسيجها القصصي، لا سيما في العوالم الداخلية للشخوص "تذكرت كلماتها وهي تواجهني بجبني، لست بطلاً ولم أدعِ ذلك، قاومت رغبتي في النظر إلى الشرفة المفتوحة على الليل، كان الصراع يمزقني، لم يكن إبصار الحقيقة هيناً على صغير مثلي، يتغذى على مخاوفه فيكبر" ص 48

وكما برر الغياب شيوع الفقد والحزن في طيات السرد، كان مقدمة لعدد من التحولات في كل قصص المجموعة، فالأحلام تتحول إلى كوابيس، واللين يتحول إلى قسوة، النهار يتحول إلى ليل والنهر يتوقف عن الجريان ويركد من دون حركة، ويغيب انتقاماً للغائبات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة