Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إريش كستنر يرصد الواقع الألماني المعطوب ما بين الحربين

"فابيان" رواية تعيد انتاج الماضي بمآسيه الصغيرة والكبيرة

برلين خلال الحرب الثانية بريشة غروز جورج (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

صدرت رواية "فابيان- قصة رجل أخلاقي" للكاتب الألماني إريش كستنر عام 1931 وحققت شهرة كبيرة آنذاك، فبيعت منها في غضون أشهر قليلة من صدورها نحو 30 ألف نسخة. وترجمت إلى لغات عديدة ولا تزال تلقى حتى الآن إقبالاً من القراء. الرواية الشهيرة هذه صدرت حديثاً في ترجمة عربية

مئة عام تقريباً تفصل الشعب الألماني عن حقبة مريرة أعقبت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. ففي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي توحشت في النصف الثاني من عشرينيات القرن الماضي، اختبر الألمان أوضاعاً مزرية على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ ارتفعت معدلات البطالة والتضخم والفقر والعنف. وشاع الفساد والتخبط والفوضى والانحطاط الأخلاقي. هذا المناخ القاتم والمضطرب رصده الكاتب الألماني إريش كستنر في روايته "فابيان- قصة رجل أخلاقي" التي صدرت نسختها الأولى عام 1931 وحققت شهرة كبيرة آنذاك، فبيعت منها في غضون أشهر قليلة من صدورها نحو 30 ألف نسخة وترجمت إلى لغات عديدة ولا تزال تلقى حتى الآن إقبالاً من القراء. وربما كانت مفارقة تشابه المشكلات والأحداث التي رصدها النص الروائي مع ما يحدث الآن في أنحاء مختلفة من العالم، دافعاً لتحويله في الأعوام الأخيرة إلى فيلم ناجح ثم تقديم معالجة مسرحية له على مسرح بريشت. وأخيراً أصدرت دار "المنى" في السويد النسخة العربية بترجمة من الألمانية، أنجزها سمير جريس.

أحدثت الرواية عند صدورها جدلاً كبيراً فبينما أشاد بها نقاد هاجمها آخرون، إذ جاء أسلوبها معبراً عن تيار الموضوعية الجديدة الذي انتمى إليه كستنر وينحاز إلى النبرة العقلانية والارتكاز إلى الواقع، واستخدام لغة مستمدة من الحياة اليومية في حين يخالف التعبيرية ويتمرد على المثالية الزائفة رغبة في اشتباك عملي وحقيقي مع الواقع. وكذلك بدت سمات هذا التيار في ما أظهره الكاتب عبر النص من ذاته الحقيقية. فكان بطله مثله حائزاً على درجة الدكتوراه وخرج مثله أيضاً من الخدمة العسكرية نتيجة إصابته بقصور في القلب. وله موقف يشبه موقفه من العالم وبخاصة رفضه الحرب وكذا موقفه من النازية التي ناهضها، لكنه تجنب صداماً كبيراً معها كان من الممكن أن يحمله على الرحيل عن ألمانيا. كما أن العلاقة الطيبة التي ربطت بين فابيان (الشخصية المحورية) بأمه تتشابه على نحو ما مع ارتباط إريش كستنر الوثيق بوالدته، الذي أسفر عن عدم زواجه وفشل عدد من علاقاته النسائية.

 

الأخلاقي المتفرج

انطلقت الأحداث من مقهى يطالع فيه البطل عناوين صحف المساء التي رسمت منذ اللحظة الأولى للسرد صورة المجتمع الألماني وأوروبا والعالم أثناء تلك الحقبة، وما اتسمت به من عنف وتخبط وفساد وتدن أخلاقي.

وكما يحيل عنوان النص يتخذ البطل موقفاً من العالم يصر من خلاله على الالتزام بالأخلاق، على رغم الضغوط التي تدفعه لأن يحيد عنها. ومع تدفق السرد الذي منح الكاتب سلطة قيادته لراو عليم تتأكد هذه الصورة، فيرفض فابيان إقامة علاقة مع امرأة متزوجة ويسعى إلى مساعدة متسول يتعرض للامتهان ويوفر مكاناً لمتشرد في غرفته، وينقذ طفلة فقيرة اضطرت إلى السرقة ويمنح حبيبته ماله القليل ويورث زميله أفكاره عند طرده من العمل. ويرفض -على رغم الكساد- أعمالاً لا تتسق مع مبادئه لكنه في الوقت ذاته يتقيد بمنهج المتفرج، الذي ينتظر أن تتبنى الجماهير مواقف أكثر أخلاقية حتى تتوارى مشكلات العالم ويصبح مكاناً أفضل، على نقيض صديقه "لابودا" الذي يرى أن حل ما يعانيه المجتمع الألماني من مشكلات لن يتأتى إلا بتغيير النظم، التي ستفرض بدورها على الجماهير أن يكونوا أكثر أخلاقية "أنت تريد التحكم في رأس المال وإشراك الطبقة العاملة. وتريد أن تساعد في بناء دولة متحضرة تشبه الجنة شبهاً ملعوناً. أما أنا فأقول لك حتى في جنتك سيصفع الناس بعضهم بعضاً! أريد المساهمة في أن يصبح البشر صالحين وعاقلين. والآن أكتفي موقتاً بالتطلع إليهم" ص 64.

 وعبر تناقض الصديقين برزت ثنائيات السلبية والفعل والطموح والعزوف، كما برزت عبر الأحداث والشخوص ثنائيات أخرى تراوحت ما بين التضحية والأنانية والإخلاص والخيانة والتخلي عن القيم والتمسك بها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صعود الديكتاتورية

نقل الكاتب الصراعات التي وسمت تلك الحقبة التاريخية خصوصاً السياسية من الفضاء الواقعي إلى فضاءات النص، فرصد تناحر الأيديولوجيات والتيارات السياسية المختلفة، والذي دفع بشيوعيين ونازيين للدخول في معارك لفظية كثيراً ما كانت تنتهي بتبادل إطلاق النار. ورصد غضب العمال بعدما سرحت أعداد كبيرة منهم وما أسفر عنه من صراع اندلع بينهم وقوات الشرطة، وكذلك برز الصراع على المستوى الداخلي في عوالم الشخوص التي انقسمت ذواتها - تحت وطأة الاحتياج- بين الخطأ والصواب، فانقسم الصحافيون بين رغبة في إبداء الحقائق والإذعان لنشر ما يرضي السلطة من أجل توجيه الرأي العام. وانقسمت كورنيليا بين حبها لفابيان والتخلي عنه ببيع جسدها للمنتج "ماكرت" لتحقيق حلمها في النجومية والثراء. في حين انقسم فابيان بين تعاطفه معها وازدرائه لها وانقسم "لابودا" بين حبه لخطيبته ورفضه مواصلة الارتباط بها بعد خيانتها له، وبين طموحه في التغيير وإحباطه من الواقع. وكانت هذه الصراعات الداخلية وقوداً لأزمات الشخوص التي استشرف كستنر أن ما يعادلها في الواقع وتغذيه أوضاع متردية سيقود حتماً إلى غرق المجتمع الألماني. وهو ما حدث بالفعل مع سيطرة النازيين على الحكم وصعود هتلر والديكتاتورية "طالما بقيت هذه المدينة الحجرية العملاقة فهي تكاد تبدو مثلما كانت دائماً. لكن في ما يتعلق بسكانها فهي تشبه منذ الأزل دار المجانين. في شرق المدينة تمرح الجريمة وفي وسطها ينتشر النصب والاحتيال وفي الشمال البؤس والفقر وفي الغرب الفجور، وفي الاتجاهات الأربعة يكمن الانهيار". ص 126.

جماليات السرد

عزز كستنر جمالية سرده عبر ما وظفه من تقنيات فعمد إلى التناص مع الموروث الديني باستدعاء قصة النبي يوسف، وأبرز التماثل بين سلوك امرأة العزيز ومراودتها يوسف عن نفسه وسلوك "إرينه مول" ومراودتها "ياكوب" عن نفسه. وأبرز التماثل بين مشاجرات الأحزاب السياسية ومشاجرات المراقص. وعمد إلى استخدام الحوار بكثافة لإبطاء السرد وتعزيز الإيهام بآنية الحدوث. ولجأ إلى تقنية الحلم فأفرد له فصلاً كاملاً ووظفه لتعزيز رؤاه الاستشرافية المتشائمة حول مستقبل ألمانيا، والتي تحققت مع صعود هتلر. فكان ما رآه فابيان في نومه من عدوه في شارع لا نهاية له جائعاً ظمآناً ورؤيته السماء البعيدة والبئر العميقة، والبيوت المتهدمة والجثث والعمال العراة تجسيداً للتخبط السياسي والفقر والبطالة والتفكك الأسري، والآثار السلبية للتصنيع والانحطاط الأخلاقي وغير ذلك من أوضاع متردية كان المجتمع الألماني يعيشها آنذاك، وتفسيراً لمخاوفه من مستقبل أسوأ.

 

وعزز الحلم نبرة التشاؤم التي هيمنت على النص وتجلت حتى في مصائر الشخوص التي تنوعت بين موت وهرب وسقوط وانتحار "ليدا رفضتني والجامعة رفضتني، من كل النواحي أحصل على درجة ضعيف. لقد أصبحت مدعاة للسخرية ومشروع إنسان راسب في مواد الحب والمهنة. دعني أقتل هذا الرجل" ص 236.  

صورة سلبية

واكب الفضاء الزمني للسرد كفاح المرأة الألمانية للحصول على حقوقها والذي أثمر 37 مقعداً حصلت عليها في أول برلمان في جمهورية فايمار. وعلى رغم ذلك منح الكاتب شخوصه النسائية سمات سلبية. وقرر أن تؤول محاولاتهن للتمرد على إرثهن من الأبوية والامتهان إلى الوقوع في فخاخ التخبط، ولم تنج المرأة –على رغم تلك المحاولات- من التسليع ولا من حصرها في نظرة لا تتجاوز حدود الجسد! فالتحرر قاد "إرينه مول" لإقامة علاقات جسدية متعددة ومحاولة استغلال الرجال وانتهى بها طريدة ومنبودة وهاربة. أما المحامية الشابة فانتهت بها محاولاتها للتحقق وإثبات الذات ببيع جسدها وخسارة الرجل الذي أحبته، في حين مارست النحاتة حريتها بالإحجام عن الرجال والهرب إلى المثلية. وحتى "ليدا" قابلت حب "لابودا" ووفاءه بالحجود والخيانة. وربما عبرت هذه السمات التي وسم بها الكاتب كل شخوصه النسائية عن نظرته السلبية لحرية المرأة. وربما كان شيوع هذه النظرة حتى بين النخبة الألمانية في ذلك الوقت مسؤولاً عن الردة التي حدثت في ألمانيا النازية، إذ عمد النازيون إلى تدمير ما حققته المرأة في جمهورية فايمار وأعادوا حصرها في دور الأم والزوجة المطيعة، ومنعوا النساء من التعليم الجامعي ومنعوا الأستاذات من التدريس فيها!

لقد نجح المترجم في الحفاظ على أصالة النص خصوصاً أنه استخدم بعض المفردات الألمانية مثل فراو "آنسة" وهير "سيد" لإضفاء الطابع المحلي على الرواية، وربطها بواقعها الأصلي. وإن كانت سلاسة الترجمة إضافة إلى تشابه ما طرحه الكاتب من قضايا مع ما يحدث الآن في أنحاء عديدة من العالم يدفع القارئ للتماهي مع النص، كما لو كان قد تسنى له تلقيه في لغته الأم ووعائه الأصلي.

...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة