ملخص
نشأ الفنان السوداني محمود السراج في كنف أسرة فنية، فوالده ميسرة أحد مؤسسي المسرح السوداني إن لم يكن الأهم بينهم، ويذكر أنه أول من أسس فرقة تمثيلية في البلاد عام 1946.
مر الفنان السوداني المتعدد محمود ميسرة السراج بتحولات قد تبدو حادة للبعض، إذ تروي سيرته تحوله من مجال علمي حاد ودقيق "الصيدلة" إلى احتراف الفن بضروب عدة، مواجهاً سؤال الاختيار الصعب في واقع مهني مضطرب يحيط بأرباب الفنون في السودان. وعلى رغم ذلك اتسعت آفاق الإبداع لديه فتنوعت بين الموسيقى والدراما والسينما والشعر.
يعيش محمود السراج وهو سليل أسرة رائدة في مجالات الإبداع والثقافة في السودان بين مكانين أو ذاكرتين ربما، وتجربة إبداعية كاملة ومتنوعة في الوطن الأم السودان وأخرى ما زالت تتشكل رويداً رويداً على شاشة الدراما المصرية بكل ما فيها من زخم دعائي وتقاليد عتيدة.
نشأ السراج في كنف أسرة فنية، فوالده ميسرة أحد مؤسسي المسرح السوداني إن لم يكن الأهم بينهم، ويذكر أنه أول من أسس فرقة تمثيلية في السودان عام 1946. ويصف محمود نشأته في حي الكبجاب الأمدرماني في حديث إلى "اندبندنت عربية" بقوله "فتحت عيني في هذا العالم وأنا أرى أمامي والدي يمثل وإخوتي الكبار يمثلون، والتقطت أذناي منذ الطفولة الباكرة تلك الموسيقى signature tune)) والتي كانت تمثل شعاراً لفرقة السودان للتمثيل والموسيقى، متبوعاً بتلك العبارة من راديو أم درمان (تأليف وإخراج ميسرة السراج)".
وتخرج محمود السراج في كلية الصيدلة جامعة الخرطوم عام 1987، ثم درس التأليف الموسيقي في القسم الإضافي بمعهد الموسيقى والمسرح بالسودان. وتلقى دراسات في علوم الصوت والمقامات العربية وموسيقى الجاز في كل من السودان ومصر وسوريا والولايات المتحدة، وشارك في بطولة الفيلم السوداني "ستموت في العشرين"، كما شارك في فيلم "الرضي" الحائز برونزية أيام قرطاج السينمائية. ونال جوائز أفضل موسيقى في مهرجان السودان الوطني عام 2018، وأفضل ممثل بمهرجان البقعة الدولي المسرحي لمشاركته في مسرحية "الرقص على الجمر" وأسهم في التأليف الموسيقي والتمثيل بعديد من المسلسلات الدرامية الشهيرة والمسرحيات في السودان.
وانتقل محمود السراج قبل أعوام إلى مصر مقتحماً عالم الدراما المصرية. ولفت الأنظار إليه أداؤه دور حافظ الجاكي في مسلسل "بطن الحوت"، ومن ثم شارك في عدد من المسلسلات المصرية مثل "شماريخ" و"قلع الحجر" و"الغرفة 207" و"ورق التوت".
هكذا أصبحت شاعراً
كانت السمة الغالبة للحديث في منزل النشأة هي الشعر العامي أو الشعبي، وكان والده ينظم الشعر عن كل واحد من أبنائه وبناته وأبناء وبنات إخوانه وعن كل ما يمر أمامه، إنساناً كان أم حدثاً أم حيواناً. ويقول محمود "هكذا أصبحت شاعراً" حتى ظن أن قدره هو أن يكون شاعراً فحسب.
وكانت تلك هي المسألة الوحيدة في نظره التي تحتاج إلى القراءة والمطالعة لتطوير مهاراته الشعرية أما التمثيل فقد كانوا يقومون به في طفولتهم على السليقة، وبدا الأمر كما لو أنه من الطبيعي أن يكون المرء ممثلاً في تلك البيئة. لذا لم يكن التحول من مجال الصيدلة إلى مضارب الفنون حاداً، فكان من الطبيعي في تلك البيئة التي نشأ فيها أن يكون الشخص درامياً وموسيقاراً وفي الوقت ذاته طبيباً أو صيدلياً أو مدرس لغة عربية أو أياً كان.
ويجد محمود نفسه متأرجحاً بين عوالم متداخلة ويصف الأمر بما يشبه الخديعة فالشاعر يجد نفسه يترنم بسهولة بأبيات قصيدته، وفي السودان أمثلة عديدة لشعراء عظماء تحولوا إلى ملحنين عظماء كالشاعر والملحن السوداني عبدالرحمن الريح لكن بالنسبة لمحمود فالشعر هو الأصعب، لأنه يحتاج لأن يكون الشاعر دائماً في قلب المعمعة وفي بحث لا ينتهي عن المفردة الطازجة التي لا تكف عن الفرار، لكن "الجمع بين الموسيقى والدراما والسينما والشعر مسألة خطرة قد تؤدي في النهاية إلى نسف كل ما سبق جملة واحدة".
وعلى رغم ما يدره الانخراط في مجالات الفنون في السودان من أجر قليل، حل محمود السراج التعارض بين تخصصه صيدلياً وعمله ممثلاً باختيار التمثيل بلا تردد، لكنه ما زال يحس بأنه خان شغفه القديم "الشعر".
ويقول محمود "في هذا العمر بأشعر أن جميع الأشياء صعبة... وكلها تحتاج إلى مذاكرة شديدة... وبنفس هرولة مايكل أنجلو وهو في الـ70 من عمره عندما سأله أحد الشباب لماذا تسرع الخطى يا مايكل؟ رد عليه بأن هناك شيئاً لا بد أن أتعلمه". ويضيف "هذه هي المسألة إذاً... فإذا لم تعد قادراً على التعلم لن تكون قادراً لا على التمثيل ولا على الشعر ولا على الموسيقى".
بين تجربتين
القاعدة التي حملها محمود السراج وهو يقتحم عالم الدراما المصرية هي أن "أدوات الممثل ترافقه أينما ذهب"، ومع ذلك يرى أن تجربة التمثيل في مصر مختلفة تماماً عن التجربة السودانية، فهنالك تحديات وأيضاً هنالك مزايا.
أول تلك التحديات كان التمثيل باللهجة المصرية، فاللغة تشكل تحدياً دائماً أمام الممثل، والتمثيل بلهجة المسيرية – لهجة محلية لقبيلة سودانية - في الأعمال السودانية ليس أمراً سهلاً وكذا التمثيل باللهجة المصرية، لكن الميزة في مصر توفير مصحح اللهجات سواء كانت تلك اللهجات صعيدية أو سيناوية أو غيرهما، ولكنهم لا يوفرون مصحح لهجات للهجة القاهرية أو ما يسمى العامية المصرية مما يضاعف مسؤولية ممثل قادم من السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووجد السراج نفسه وسط منافسة حامية ومحاطاً بعدد كبير من الممثلين الجيدين في مصر عليه أن يثبت قدراته وسطهم، لكن لم يكن ذلك الحاجز الوحيد الذي ينبغي عليه تخطيه. ويقول "بالنسبة إلى من هم في أعمارنا - ويطلق علينا هنا اسم الجراندات - فإن فرص العمل تضيق أكثر، فكثير من الجراندات المصريين يشكون قلة فرص العمل نتيجة قلة الأدوار الجيدة المكتوبة لمن تعدوا سن الشباب، ففي الغالب تكون أدواراً مساندة أو بسيطة أو يكونون ضيوف شرف، ومن النادر أن تتاح لهم فرص أدوار البطولة... بالطبع يحدث هذا ولكنه قليل".
أما أهم الميزات التي أتاحتها له الدراما المصرية فتمثلت في الإمكانات الإنتاجية والحصول على أجر يناسب العمل، "فموازنة إنتاج يوم تصوير واحد في مصر قد تعادل موازنة إنتاج مسلسل سوداني كامل من سبع حلقات، أما من حيث أجر الفنان بمصر فلا يمكن مقارنته مطلقاً بالأجور في الدراما السودانية".
ولكن المسألة لا تتعلق بأكل العيش فحسب أو إيجاد فرصة عمل بل يذهب محمود السراج بعيداً إلى تفحص هموم الفنان السوداني، لذا تضحى المشكلات والدراما السودانية ورفعتها وتطويرها هي الهدف النهائي بالنسبة له.
ويأسى محمود لحال الفنانين السودانيين وهم يعانون البطالة قائلاً "في السودان لا شيء يتحرك... والحضور للغياب فحسب... لا سينما ولا مسلسلات تلفزيونية، ومسرحيات خجولة تنتظر مهرجاني البقعة ومركز عبدالكريم ميرغني كل عام لتعرض للجمهور".
ويخشى محمود من تكرار تجارب فناني الدراما السودانيين الذين درسوا في الخارج واكتسبوا خبرات ثم عادوا للعمل في السودان، لكن واجههم واقع ضعف الإنتاج السوداني سواء كان في الدراما أو المسرح أو السينما. ويتساءل متحيراً "لا أعرف ما الذي سأضيفه بعد تجربتي في الدراما المصرية، إذا مد الله في الآجال وعدت إلى السودان... ربما سأنضم إلى زملائي تحت شجرة الزهاجة قرب مقر التلفزيون والإذاعة بأم درمان في انتظار جودو".
الحرب أم الشرور
يرى محمود السراج أن الفن باستطاعته التوثيق لفجائع الحرب لكنه لن يعيد ترميم ما تهشم، فربما بعد أعوام حين تسمع الأجيال اللاحقة المناحات التي ينتجها الفنانون الآن، ربما سيتعظون، وربما سيبكون كثيراً ويصممون على عدم إنتاج الفجيعة مرة أخرى.
وفي واقع الحرب المتمدد في السودان يتوقع محمود أن تنتج عشرات الأغنيات الحزينة التي تحكي عن الخرطوم وشارع النيل، وعشرات الأفلام التي تروي مآسي النزوح وعن مراكز الإيواء والغابات التي يحاصر فيها اللاجئون السودانيون في إثيوبيا، والموت في الصحراء الكبرى بين مصر والسودان وليبيا وعشرات اللوحات التشكيلية المصبوغة بلون الدم، أما نداءات إيقاف الحرب فستذهب أدراج الرياح "فهذا أقصى ما يمكن أن يصنعه الفن".
أما حول السينما السودانية فيرى أنها منذ 2019 تشهد نجاحات كبيرة، لكن جميعها بمبادرات فردية فـ"الحرب أوقفت كل هذا ونحن لسنا على ما يرام، لذا من الصعب أن نجيب عن أي شيء يتعلق بالمستقبل".
ويتساءل "هل يمكن أن أخطط الآن لنهضة الدراما السودانية وأنا غير متيقن مما ستخلفه الحرب، وغير متيقن من وحدة البلاد؟ غداً سيكون هناك سودان أو لا يكون". ويقول "قديماً وقبل الحرب قدمت عقول سودانية أوراق عمل وخططاً قابلة للتنفيذ تضمن تطور الدراما السودانية وذهبت جميعها أدراج الرياح، نحتاج إلى الرجوع 50 عاماً للوراء لنبدأ من حيث توقف الناس في السبعينيات، وكل ذلك لن يحدث إلا إذا توقفت الحرب".