Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

مسلسل "بالدم" لبناني صرف بقوة ممثليه المسرحيين الكبار

يطرح قضايا الإتجار بالاطفال والهوية الضائعة والحب والخيانة في خريف العمر

مشهد من المسلسل اللبناني "بالدم" (ملف المسلسل)

ملخص

لا تكمن أهمية مسلسل "بالدم" في أنه مسلسل لبناني صرف، كما رُوّج له قبل عرضه، في فترة تطغى عليها المسلسلات المشتركة، سورياً ولبنانياً وخليجياً وتركياً والتي لم تستطع أن تنجو بمعظمها، من التركيب الدرامي والتغريب والاصطناع، ما خلا بضعة مسلسلات منها مسلسل "النار بالنار".

تتمثل أهمية مسلسل "بالدم" في قوته وفرادته، نصاً وإخراجاً وتمثيلاً، خصوصاً تمثيلاً مع ممثلين كبار مثل رفيق علي أحمد وجوليا قصار وغبريال يمين وكارول عبود، وإلى جانبهم سينتيا كرم وسمارة نهرا، بلغوا في أداء أدوارهم، أفراداً وجماعة، ذورة فنية نادراً ما نشاهدها في مسلسل أو فيلم.

لا بد بدءاً من التوقف أمام النص الدرامي الذي كتبته نادين جابر وبدا نصاً متيناً ومتماسكاً ومبنياً بقوة، وغنياً بمواقفه وموضوعاته، وشخصياته التي نجحت الكاتبة في حبكها جميعها، انطلاقاً من فكرة رئيسة تكاد تهيمن على المسلسل، يمكن اختصارها في "البحث" عن الجذور القريبة، في ما تعني الأم والأب والابن، انطلاقاً من معاناة "بطلة" المسلسل بحسب إرادة المنتج والمخرج، غالية (ماغي بو غصن) التي تكتشف، بعد أكثرمن أربعين عاماً، أن والديها ليسا والديها الحقيقيين، فتبدأ رحلة البحث عن الأم اولاً ثم الأب.

ومع هذه الرحلة ينطلق المسلسل "أحداثياً" أو "وقائعياً"، فتتكشف عبر تصاعده علاقات خطرة وأسرار وبؤر، ومن بينها رأس الخيط الذي يتمثل في "القائدة" والقابلة نظيرة (جناح فاخوري) وابنتها أو "كلبتها" بالتبني القابلة أو "الساج فامّ" آسية (كارول عبود) اللتين تديران "عصابة" تهريب المواليد الجدد وعمليات توليد الفتيات الحاملات سفاحاً او اغتصاباً، اللواتي يردن ستر فضيحتهن.

العيادة السرية

ويبدو بيت آسية الذي تقوم فيه عيادة التوليد السرية وغير الشرعية، أشبه بـ"بيت عمومي" ولكن بلا رجال ولا موبقات، فالفتيات الحاملات يعشن معاً تحت إمرة آسية وتحت تهديدها، ولما يلدن يرحلن وينتزع منهن أطفالهن الذين تجري المتاجرة بهم. لكن نظيرة أو "القائدة" والرأس المدبر والضليعة في المتاجرة هذه منذ أعوام، تحمل قناعاً آخر هو قناع "القاتلة" والمجرمة التي تملك علاقات سرية والتي قد تقوم بنفسها بإطلاق النار على من تحكم عليهم بالإعدام، مستخدمة مسدسها مباشرة. وعطفاً على تدبيرها أعمال قتل تحت إشرافها، ومن بينها قتل المختار الذي تتعاون معه وابنتها لتزوير شهادات الولادة. ولا يغيب الاتجار بالمخدرات الذي تديره أيضاً، نظيرة المقعدة التي تتنقل على كرسي متحرك.

قد يمثل هذا الجو التشويقي والإجرامي نقطة ضعف المسلسل، (لا سيما المسدسات التتي تحملها النسوة)، ويتيح الفرصة لوصمه بـ"التتريك" (الطريقة التركية) أو "المكسكة"( الطريقة المكسيكية)، عطفاً على التغريب والاستلاب، وافتعال وقائع تتخطى عالم المتاجرة بالمواليد. ومن يرجع إلى أرشيف هذه المتاجرة غير الشرعية التي راجت بقوة خلال الحرب الأهلية، والملف الشائك الذي ما برحت تمثله، يكتشف أن الأمور تختلف، وكذلك عصابات المتاجرة وأدواتها، ولا تصل بتاتاً إلى هذا المستوى من الإجرام والعنف النفسي والجسدي. طبعاً هذا خيار الكاتبة (وربما المنتج) التي يحق لها أن تتخيل وتفتعل من الأحداث والوقائع ما تشاء، وأن تمضي في التشويق المبالغ فيه، ولو تخطت حدود الممكن والمعقول، بل الواقعي والتاريخي.

لكن المسلسل يحافظ على قوته وأهميته وعمقه على رغم هذه الهنات، وينم عن فنية إخراجية عالية يقف وراءها المخرج المتفرد والمقتدر وصاحب "البصمة" الدرامية الخاصة فيليب أسمر الذي يدرك معنى شبك العلاقات المتوترة وصوغ المواقف المتناقضة وما ينم عنها من أبعاد تعبيرية، إضافة إلى تركيزه على الجماليات المشهدية بدءاً بعمله على المكان والبيئة والتفاصيل الأخرى، ولا سيما توظيفه البيئة الشعبية كالحي البحري، والحارة بشرفاتها وشبابيكها التي تطل منها الشخصيات، وميله الدائم إلى خلق حال احتفالية، عبر الرقص (مشهد الراقصات في "حانة شمس") أو الحفلات الشعبية في الحي البحري التي كانت لولبها "عدلا" خلال مناسبات الزواج أو ميلاد ابنها الذي جعلته لعبة وسمته "غدي"، وكادت أن تجعل منه شخصية من لحم ودم.

التريو الرائع

لعل خير مدخل إلى مقاربة مسلسل "بالدم" هو الوقوف عند "التريو" الذي يتألف من الممثلين الكبار رفيق علي أحمد وجوليا قصار وغبريال يمين، والأدوار التي أدوها في سياقها التراجيدي الشكسبيري، بصفتهم يجسدون المثلث الدرامي الزوج روميو والحبيبة جانيت والعاشق (ليس العشيق) ريمون. وقد تكون هذه "اللعبة" التي حبك الثلاثة خيوطها أداء وتعبيراً وعيشاً داخلياً هي التي تمثل الثقل الدرامي في المسلسل، بل تضيف إليه عمقاً يتخطى حدود الدراما التلفزيونية.  وإن كان هذا "التريو" الذي يمثل مرجعية في المسرح والسينما، فهو في هذا المسلسل بلغ ذروة إدائية، نادراً ما نألفها في المسلسات وحتى في السينما والمسرح. والثلاثة هم أبناء المسرح أصلاً وفي طليعة رواده الجدد، وهم يضعون في أدائهم وحضورهم خبرتهم الأكاديمية والشخصية، مانحين الشخصيات وعلاقاتها، أبعاداً تراجيدية عميقة ومتفجرة داخلياً.

رفيق علي أحمد أطل في "لوك" مختلف عن إطلالاته السابقة، هو شكسبيري هنا بامتياز، سواء في شهامته أو في انكساره العاطفي واضطرابه الوجداني، زوج وأب عاشق ومشكك، قاسٍ وعذب، فيه كثير من رباطة الجأش والطفولة، يغضب وينهار وتدمع عيناه تأثراً. وأمامه الممثلة الكبيرة الساحرة جوليا قصار، في أحد أدوارها التلفزيونية البديعة، هي الأم والزوجة العاشقة جانيت التي تعيش مواقفها بعمق ووعي شفيف، مستخدمة وجهها المشرق على رغم الأمومة التي تسكنه. وكم بدت قديرة فعلاً في المزج بين الأم الرؤوفة والقوية، والعاشقة الرقيقة والشرسة التي عانت مأساة حب سابق لم يشأ القدر (إخفاء الرسالة) أن يستمر، وظروف حب راهن هو حب الزوج الذي لن يتوانى عن الشك بها، فيجرحها بالصميم فتمسي كاللبوة المنتفضة . أما غبريال يمين، الممثل الكبير، المتعدد الأبجديات والتقينات، والمتقلب من دور إلى آخر ببراعة وسلاسة، فهو يؤدي هنا دور العاشق الخاسر ريمون الذي فقد حبيبته جانيت نتيجة لعبة لعبها غريمه في الحب "روميو"، مخفياً الرسالة الغرامية التي كان أئتمنه عليها روميو، ولو قرأتها جانيت لتغير القدر، ففيها يطلب منها أن تنتظره كي يتزوجا.

يعود ريمون بعد أعوام طويلة إلى الحي الذي يقطنه الجميع، ليكتشف أن جانيت لم تقرأ رسالته تلك. وبعودة ريمون، يسترجع الثلاثة أو "التريو" ماضيهم، المفعم بالحب والغيرة والكراهية، والصراع بين الصديقين الغريمين روميو وريمون على حب جانيت. أما جانيت التي تحب ريمون فتقرر الزواج بروميو الذي تدبر لعبة الفصل بينهما. تنبثق العلاقة الثلاثية من رماد العمر المتقدم في مطلع خريف العمر، ويسترجع "التريو" الحب و"الخيانة" والكراهية، مجسدين أبعاد الحب والصراع على الحب في خريف العمر. ومما سيزيد الصراع بين روميو وجانيت اتهامه إياها بخيانته مع ريمون وانجاب ابنتهما غالية. وهنا تنفتح نافذة يطل منها المسلسل على قضية الاتجار بالاطفال، ولا سيما عندما يكتشف روميو وجانيت "المتعاديان" بعد اتهمامه إياها بالخيانة، أن غالية ليست ابنتهما كليهما.

لقد أحسنت الكاتبة والمخرج في شبك بعض العلاقات في سياق متعدد بين "التريو" و"الديو"، إضافة إلى بعض المونولوغات. فالشخصيات هذه، تعيش العلاقات الثنائية والثلاثية، روميو مع جانيت، ثم روميو مع ريمون، ثم روميو مع جانيت، ثم الثلاثة معاً. وبعد وفاة روميو يزور ريمون صديقه في المقبرة ويحكيه بل يحكي إليه، شاكياً ومكسوراً. ثم يقرر السفر من جديد بعدما خسر كل شيء.

المحامية والهوية

هذه اللعبة، بين "الديو" و"التريو" استخدمتها الكاتبة والمخرج في علاقات أخرى، وفي مقدمتها العلاقة بين المحامية غالية (ماغي بو غصن التي قدّر لها ان تكون النجمة) والمحامي طارق (بديع أبو شقرا)، زوجها وطليقها، ثم زوجها الذي تكتشف أنه خانها ويخونها مع امرأة. وثمة العلاقة أيضاً بين تمارا (جيسي عبدو) وصديقتها ليان (رلى بقسماتي) والحبيب المشترك وليد، زوج ليان (باسم مغنية). ويعمد الثلاثة في حال من التوافق أن يتزوجوا في ما يشبه "لعبة" الزوجة والضرة، فالزوجة الأولى ليان عاقر، مما يجعلها هدفاً ضعيفاً أمام والدة وليد فدوى (نوال كامل) التي تصر على ابنها أن ينجب ولداً تريد أن يحمل اسم أبيه، زوجها الراحل، وإن تزوج ضرة منجبة. وبعد فشل لعبة التظاهر بالحمل التي قامت بها الزوجة العاقر، بانتظار أن تتبنى وزوجها طفلاً، يبرز الحل السحري وغير الواقعي، ومفاده بأن تحمل الصديقة الضرة حملاً اصطناعياً ("إن فيترو) من مني الزوج، من دون أن يقيما أي علاقة جنسية، على أن تهجره بعد الولادة من غير طلاق، فيكون الطفل الوليد ربيب الثلاثة.

تطل هذه الممثلة التي تنتمي إلى جيل من الممثلات الرائدات، في لوك جديد، يليق بدورها القاسي والحنون، مانحة شخصيتها الصعبة والمعقدة، عواطفها وتعابيرها وقوة الصراع الذي تعيشه، داخلياً وخارجياً. وما دمت أتكلم عن الممثلات فلا بد من توجيه تحية إلى الممثلة القديرة سمارة نهرا التي بدت كأنها مفاجأة المسلسل في أدائها البديع والمرهف، وقد وظفت وجهها درامياً بحذاقة، جاعلة منه مرآتها الداخلية. تؤدي سمارة دور الأم إكرام، المغلوب على أمرها بعد وفاة ابنها ودخول زوجها السجن ومرض ابنتها حنين (ماريلين نعمان)، وتنكشف مأساتها الراقدة في قلبها، عندما تعلم أن المحامية غالية هي ابنتها بالدم، وقد حملت بها سفاحاً أيضاً واختفت من دون أن تعلم عنها أمراً.

سمارة نهرا تثبت في هذا المسلسل أنها ممثلة كبيرة، ويمكنها أن تؤدي الأدوار التراجيدية ببراعة، بعدما عرفت بأدوارها الكوميدية. أما الوجه الآخر، فهو الممثلة والمغنية الشابة ماريلين نعمان في دور حنين، ابنة إكرام، التي تقع في حب الطبيب الذي تعمل معه، وكانت عانت من تآمر أخيها مروان، المتهور والنصاب، ليبيعها زوجة للمختار (فيصل أسطواني) المتآمر واللص، مقابل المال وإيفاء الديون. وشخصياً كنت محتاراً أمام ماريلين كممثلة، قوية في صمتها جداً، وعميقة في نظرات عينيها، وخجولة في تعبيرها وبطيئة في كلامها ورد فعلها أحياناً، ودافئة مثل صوتها، خصوصاً في أغنية "الجنريك" التي تؤديها. لكنها حتماً سيكون لها حضور لافت، نظراً إلى موهبتها. 

اقرأ المزيد

المسلسل متفرد بقضاياه التي عالجها بعمق والأسئلة الإنسانية والاجتماعية التي طرحها، ومسألة التبني والبحث عن الأهل الأصليين وعن الهوية الشخصية، عطفاً على مقاربته المعاناة الناجمة عن الحب في عمر متقدم والخيانة وعدم الإنجاب والصراع العائلي... مسلسل غني و"مزدحم" بالشخصيات والأحداث والوقائع والعلاقات والمبالغات التي لم تزد من قوة المسلسل، ومن بينها مثلاً قضية شمس صاحبة الملهى الليلي التي بدا هدفها إطالة الوقت وتوريط الممثلة الكبيرة إلسي فرنيني في دورعادي ومكرر. وكذلك قضية تهريب والد مروان أبو بشير (علي الزين) من السجن وإدخال عصابة أخرى في اللعبة...

يظل المسلسل فعلاً وقفاً على التمثيل والممثلات والممثلين القديرين الذين أدوا أدوراهم بنجاح وثقة، ومن بينهم باسم مغنية وبديع أبو شقرا، وماغي بو غصن التي أُريد لها أن تكون "أيقونة" المسلسل رغم عدم تطويرها فنها التمثيلي وادائها الذي بات هو نفسه، بما يحمل من كليشهات خصوصاً، إضافة إلى نوال كامل وجيسي عبدو ورولا بقسماتي.

المزيد من فنون