Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ترتفع أصوات الشعر المتوسطي في مدينة سيت الفرنسية 

فلسطين حضرت في المهرجان وديوان "عادت قبورهم وحدها" الأكثر مبيعاً في سوق الكتب

مشهد من القراءات الشعرية في المهرجان المتوسطي (خدمة المهرجان)

ملخص

جمع مهرجان "أصوات حية: من المتوسط إلى المتوسط" الذي يقام كل صيف في مدينة سيت الفرنسية الجنوبية 80 شاعراً من دول المتوسط، فالتقوا وقرأوا قصائدهم باللغة الأم والترجمة الفرنسية، وحضرت هذه السنة فلسطين شعراً وقضية.

لا يكاد الشاعر المشارك في مهرجان "أصوات حية: من المتوسط إلى المتوسط" الذي يقام كل صيف في مدينة سيت في جنوب فرنسا، يشعر بمرور أيام المهرجان التسعة بنهاراتها ولياليها، فهي سرعان ما تمضي على رغم كثافة برنامجها بين قراءات وأمسيات موسيقية وغنائية وندوات ومحترفات شعرية. وخلال هذه الأيام تبدو مدينة سيت كأنها تعيش (19-26  يوليو / تموز) ما بات يسمى عيد الشعر المتوسطي الذي كرسه مهرجان "أصوات حية".

بدءاً من العاشرة صباحاً حتى ما بعد منتصف الليل تختلط الصباحيات الشعرية والأمسيات، وبينهما قيلولة الشعر والغروب. ويتوزع الشعراء بين الحدائق والساحات وعلى شواطئ هذه المدينة البحرية وعلى متن المراكب الشراعية الصغيرة التي تتمايل مع الموج، فلا تبقى زاوية في المدينة هادئة، حتى الأزقة الصغيرة تنصب فيها الخيام ليلتقي الشعراء تحتها بجمهور يأتي من الجنوب الفرنسي ليستمع إلى شعراء يعرف بعضاً منهم ويجهل الآخرين الآتين من البلدان التي تحيط بالبحر المتوسط العظيم الذي صنع حقبات مهمة من تاريخ العالم، سياسياً وحضارياً وعسكرياً.

لا تهدأ المدينة طول ساعات النهار والليل، حتى في أحايين القيلولة، يحلو التمدد على الكراسي المستطيلة بين الأشجار وعلى العشب في ظل الغصون الوارفة. يغمض هواة الشعر عيونهم قليلاً مستمعين إلى شعراء يلقون قصائدهم بهدوء، مقاومين نعاس ما بعد الظهيرة. حتى في لحظات القيلولة لا يغيب الشعر، وإن بدا الاستماع إليه في حال من الإغفاء الخفيف والسرنمة الحلمية. ولعل هذا الجمهور الذي لا يمل الاستماع إلى الشعراء الذين يرافقهم بدءاً من الصباح الباكر حتى الـ12 ليلاً، مع ما يسمى "فطور" الشعر والظهيرة الشعرية والغروب والسهر الطويل، يمثل ظاهرة لافتة وفريدة في المهرجان.

ظاهرة الجمهور

جمهور شغوف بالشعر والشعراء، يتألف من أجيال عدة، وإن طغى عليه عمر الـ40 وصعوداً، ولا يغيب عنه العمر المتقدم حتى الثمانين أحياناً. جمهور من مدينة سيت ومن سائر المدن الجنوبية وحتى من باريس، وبعض المشاركين يسعون إلى ما يسمى "سياحة" شعرية. ومعظمهم يستمعون جيداً ويطرحون الأسئلة في ختام الأمسيات على الشعراء، ويناقشونهم في قضايا شعرية مهمة، ويطالبونهم في توقيع كتبهم. وبعضهم يعيش حالاً من الفضول الشعري والفني، يأتون ليشاركوا في هذا العيد الذي لا يمكن إلا أن يوصف بالشعبي على رغم مزاجه النخبوي.

وما يدعو إلى الاستغراب أن الجمهور قادر على الاستماع إلى كل أنواع الشعر وكل ضروب القصائد، هو لا ينحاز إلى شعر دون آخر ولا إلى نوع شعري دون آخر. ليس يعنيه أن يقرأ الشاعر قصيدة نثر أو قصيدة موزونة حرة أو كلاسيكية، المهم هو الشعر نفسه. إنها ثقافة الشعر في العالم اليوم، ما زلنا نحن العرب نشهد بقايا صراع بين ثقافة شعرية تقليدية ومحافظة، وثقافة أخرى حديثة ومنفتحة على ثورة قصيدة النثر والشعر التجريبي. هنا في مدينة الشعر المتوسطي تتآلف القصائد والأنواع الشعرية كل التآلف، تماماً مثلما تتآلف الأصوات واللغات واللهجات الآتية من بلدان المتوسط.

وقد تكمن هنا إحدى ميزات هذا المهرجان، إذ يستمع الزائر إلى قصائد تلقى في لغات المتوسط كافة، لكنه لا يشعر بأنه غريب عنها، ليس فقط لأنها تقرأ في الوقت نفسه بترجمتها الفرنسية التي تؤدي هنا دور الوسيط، بل لأن إلقاء القصائد بلغاتها الأم يخلق حالاً من التناغم الصوتي والإيقاعي الجميل، ولغات المتوسط عادة هي غنية بإيقاعاتها ونبراتها ومقاطعها الصوتية. "أصوات حية"، فرنسية وإيطالية وكاتالانية وتركية ويونانية وبرتغالية وبلقانية ومالطية وإسبانية وإيرانية وعربية. إنها أصوات آتية من 38 بلداً متوسطياً، من المتوسط الأوروبي والشرقي والأفريقي والبلقاني، ناهيك بما يسمى المتوسط "المنتشر" في العالم، مثل أميركا اللاتينية وأفريقيا الغربية والبلدان الفرنكوفونية.

أكثر من 80 شاعراً من فرنسا والعالم المتوسطي وفي رفقتهم فنانون وموسيقيون ومغنون وممثلون يحيون ما يقارب من 300 لقاء بين قراءات شعرية، تصاحبها الموسيقى في أحيان، ليمتزج الشعر بإيقاعات تذوب في قلبه أو يذوب هو في ثناياها، وحفلات غناء شعري ومسرحيات يختلط الشعر فيها مع الأداء على اختلاف ألوانه، مع الإيماء والارتجال ولغة الإشارة، عطفاً على الرواة أو "الحكواتية" الذين يسردون القصائد والقصص الشعرية بطريقة مبتدعة تجمع بين الفنون الحكائية كافة.

لا يخفي إذاً مهرجان "أصوات حية" نزعته السياحية الشعرية والثقافية، وهذا ربما أجمل ما يمكن أن يحققه مهرجان شعري. أن يصبح الشعر حافزاً على إحياء السياحة الثقافية، فهذا كسب للشعر والشعراء في زمن يعاني الشعر أزمة عالمية غالباً ما تفسر بانحسار القراء وتراجع الإقبال على شراء الدواوين وعزلة الشعر عن الحياة العامة التي باتت تسيطر عليها ثقافة الاستهلاك، في إحدى ساحات المدينة يقيم المهرجان سوقاً للشعر تعرض فيه دور نشر فرنسية وفرنكوفونية كتباً ودواوين جديدة وقديمة، من ضمنها كتب ومختارات مترجمة إلى الفرنسية من شتى اللغات، وفي هذه السوق يوقع شعراء فرنسيون وأجانب كتبهم للجمهور. والجميل أن المستمعين إذا أحبوا شاعراً أصغوا إلى قصائده، يؤمون السوق بحثاً عن أعمال له كي يقرأوه لاحقاً.

ديوان فلسطيني

المفاجئ هذه السنة هو تبوؤ ديوان الشاعر والناشر الفلسطيني خالد الناصري، الصادر بالعربية والفرنسية بترجمة الكاتب أنطوان جوكي، عن دار "المنار" الفرنسية بعنوان "عادت قبورهم وحدها"، المرتبة الأولى في المبيع، وبلغت النسخ المبيعة 300 بحسب الدار ونفدت كلها. وهذه ظاهرة نادراً ما تشهدها سوق الشعر في المهرجان. ولعل هوية الشاعر الفلسطينية أسهمت في هذا الرواج، عطفاً على بروزه ممثلاً للشعر الفلسطيني في المهرجان وإقبال الجمهور على قراءاته. ومن الكتب الشعرية العربية المترجمة إلى الفرنسية التي لقيت رواجاً كتاب كاتب هذه السطور وعنوانه "لا وجه في المرآة" الصادر في المهرجان عن دار لانسكين الباريسية. وأسهم في الإقبال عليه إلقاء قصيدتين، بالعربية والفرنسية، واحدة بعنوان "تحت سماء غزة"، وأخرى بعنوان "كأنهم نائمون" المهداة إلى أطفال فلسطين وسوريا. وحضرت الشاعرة اللبنانية الفرنكوفونية ريتا بدورة، التي تعد من أبرز الأصوات الشعرية الفرنكوفونية الجديدة، وشاركت في المهرجان قارئة من دواوينها، بإطلالة لطيفة وصوت دافئ، وأحدث ما صدر لها هو ديوان "ارتواء"(دار لاربر أبارول). اما الشاعر السوري المقيم في السويد جبران سعد، الذي شارك أيضاً في المهرجان، فعرض كتابه "ضفاف منسية" الصادر أصلاً بالعربية والسويدية ثم بالفرنسية عن دار لانسكين، والقصائد من ترجمة أنطوان جوكي المولج بترجمة معظم القصائد العربية في المهرجان. وفي السوق أيضاً عرض كتاب الشاعر الفلسطيني رائد وحش بالعربية والفرنسية وعنوانه "الشتاء زمن العلامة وقصائد أخرى"، الصادر عن دار "كالبان" وقد حضر شخصيا مثله مثل الشاعر سامر أبو هواش.

 الشاعر اللبناني الفرنكوفوني ميشال قصير حضر مع ديوانه الجديد بالفرنسية "توكبار" (دار لارماتان)، وحضرت أيضاً في دار برونو دوسي كتب مترجمة للشاعرتين السوريتين هالا محمد التي تنتمي إلى هيئة المهرجان ومرام المصري، التي كانت دعيت سابقاً إلى المهرجان. ومن الشعراء والشاعرات العرب المدعوين: الجزائرية أسماء جزيري (لم تتمكن من الحضور)، والمغربي حسن وهبي (قرأ بالفرنسية)، والتونسية نوال بن كريم، والمصرية آلاء حسينين، وهي شابة غير معروفة كثيراً في مصر. وحضرت الاشعرة اللبنانية الفرنسية آمنة ناصر الدين التي صدر لها ديوان جديد بعنوان "إنني الإنسان أيضاً" (دار لا بوستروف)، والشاعرة الفرنسية السورية نور قدور(خضور) مع ديوانها الجديد "دموع قمر" (دار لا بوستروف). وتم تكريم الشاعر التونسي الراحل محمد الغزي بصفته واحداً من الضيوف السابقين في المهرجان.

مدينة بول فاليري

لا بد لزائر مدينة سيت من أن يتذكر الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري (1871 - 1945)، فهذه المدينة المتوسطية هي مدينته، فيها ولد وعاش فترة من حياته وفيها يرقد في مقبرة تسمى "المقبرة البحرية" تيمناً بقصيدته الشهيرة "المقبرة البحرية" التي كتبها مستوحياً المشهد من مرتفع المدينة، وهو مشهد يجمع بين المقابر والبحر. وبالقرب من هذه المقبرة يقع متحف بول فاليري الذي يضم آثار الشاعر وصالات تقام فيها معارض دائمة. وهذه القصيدة التي كتبها عام 1920 كان لها صدى وأثر كبيران في فرنسا والعالم، وترجمت إلى لغات عدة منها العربية، ونشرها فاليري بعد عامين في ديوانه الشهير "قصائد فاتنة" أو "فواتن" (1922). وفي مطلع القصيدة المصوغة بمتانة وسحر، التي تتطلب ترجمتها لا سيما إلى العربية جهداً كبيراً، يقول الشاعر وفق ترجمتي الخاصة: "هذا السقف المتهادي حيثما تتنقل يمائم / بين أشجار الصنوبر يخفق، بين المقابر / بنيران تمزجه الظهيرة العادلة / إنه البحر، البحر مستعاداً دوماً / يا لها من مجازاة بعيد خاطرة / نظرة تمتد وسع هدأة الآلهة".

لا يستطيع قارئ بول فاليري إلا أن يستعيد هذه القصيدة المتوسطية تماماً، في قلب مدينة سيت. فهذه القصيدة تمثل إحدى ذرى فاليري الشعرية، وهي تجعل من الطبيعة التي ارتقى الشاعر بها روحياً وميتافيزيقياً، ما يشبه الإطار الفني والجمالي، ويتجلى فيها أثر الفلاسفة ما قبل السقراطيين في فلسفة فاليري وشعريته. كان فاليري في الـ50 عندما انكب على كتابة هذه القصيدة التي ظل يعتبرها حتى بعد صدورها في ديوان غير مكتملة، وعدم الاكتمال هو أحد الهواجس التي كثيراً ما ألحت على فاليري. فالشعر في نظره لا يكف عن التجدد، ويظل مشدوداً إلى مثال جمالي هو غاية الشعر التي لا تتحقق. الشعر مثال الرغبة التي تكتمل في عدم اكتمالها، إذ يقول فاليري عن "المقبرة البحرية" إنها "لم تكن في البدء سوى صورة إيقاعية خاوية أو مفعمة بمقاطع لفظية عقيمة، وقد تملكتني بعض الوقت. والقصيدة الممكنة كانت مونولوغاً لـ’الأنا‘ وفيه استعيدت، محبوكة ومتقابلة، الموضوعات السهلة والدائمة في حياتي العاطفية والفكرية، مثلما طرحت علي في مراهقتي، متماشية مع البحر والضوء في مكان متوسطي ما".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل القصيدة هذه هي الأكثر "انفتاحاً" بين قصائد فاليري، فهي تحوي كثيراً من سيرته الذاتية، ومن فلسفته الشخصية. ويظهر في هذه القصيدة "هاجس" البحر، البحر المتوسط تحديداً، هاجس فتنة وحب وجمال، فالشاعر يتماهى في البحر، هذا البحر الذي "يبدأ دوماً" أو "يستعاد" كما يقول في مستهل القصيدة، مثلما يتماهى في تأمل الموت الذي يثيره مشهد المقبرة المطلة على البحر، وكذلك حركة الموج المستمرة. البحر هو الرعشة والرعدة، وهو الوعي أيضاً، الوعي الدفين بالوجود. أما "الظهيرة" التي يتحدث الشاعر عنها فهي السكون والأزل.

هكذا تبدو "المقبرة البحرية" لا سيما إذا قرئت في مدينة سيت ذات الطبيعة البحرية والحرجية، قصيدة تأمل في شرط الكينونة الإنسانية. الإنسان في القصيدة يتنزه بين المدافن ويرمق البحر في الحين عينه، إنه البحر يجذبه صوب الحياة، البحر المتحرك قبالة الموت الثابت (المدافن). على أن السماء التي تظهر هي "السكون النسبي" والشمس هي "المطلق"، والصوت الذي يتكلم هو "الأنا" أي الصوت - الأنا المتنامي والمرتبط بالتحول الداخلي، الصوفي والحلمي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة