ملخص
كان ينظر إلى بيلوسي على أنها واحدة من النبلاء الذين يعملون خلف الستار لإطاحة بايدن، بينما كان أقرب حلفائها النائب آدم شيف، أحد أبرز الديمقراطيين الذين دعوا بايدن إلى الانسحاب وسط مخاوف متصاعدة من الديمقراطيين في مجلس النواب في شأن قدرة بايدن على الفوز ولهذا طلبوا من بيلوسي توجيه الضربة القاضية لحملة إعادة انتخاب الرئيس المتعثرة بعد أدائه الكارثي في المناظرة ضد ترمب.
قبل دقائق من تسليم الرئيس الأميركي جو بايدن الشعلة رسمياً إلى نائبته كامالا هاريس في اليوم الأول للمؤتمر الوطني الديمقراطي، اغرورقت عيناه بالدموع، فقبل شهر واحد، كان من المفترض أن يكون هو الشخص الذي يقبل ترشيح حزبه للرئاسة في شيكاغو، لكن ضغوط الديمقراطيين التي قادتها رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي، أجبرته على التنحي ضد إرادته، ثم بعد ذلك كانت بيلوسي أيضاً وراء الدفع بحاكم مينيسوتا تيم وولز ليكون على بطاقة هاريس للانتخابات الرئاسية كنائب لها، فهل أصبحت بيلوسي سيدة الدمى للحزب الديمقراطي، وإلى أي مدى يمكن أن تواصل تأثيرها في البيت الأبيض إذا فازت هاريس بالانتخابات؟
الحقيقة الساطعة
على رغم نفي بايدن غضبه ممن طالبوه بالتنحي زاعماً أنه فضل مصلحة بلده أكثر من مصلحته الشخصية، فإن دخول الرئيس إلى المسرح وهو يمسح عينيه بعد أن قدمته ابنته آشلي، مع تصفيق الحشود مرددين الشكر له بمن فيهم بيلوسي، كانت لحظة عاطفية لم تتمكن من إخفاء الحقيقة الساطعة بأن انسحابه من السباق الرئاسي ضد خصمه القديم الرئيس السابق دونالد ترمب، كان على عكس رغبته الصادقة في إبقائه أربعة أعوام أخرى على قمة القوة العالمية.
وإذا كان إصرار بايدن على الترشح لإعادة انتخابه، صور من قبل كثيرين في حزبه على أنه غطرسة، فإن قراره بالتنحي احتفى به المؤتمر الديمقراطي باعتباره عملاً من أعمال التواضع لرجل يقترب من 82 سنة، قضى معظم حياته في ملاحقة المنصب الرئاسي الذي اعترف بأنه يحبه، لكن بايدن الذي كان قبل أربعة أعوام الرجل المناسب في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، تعلم احترام القدر عبر حياته الطويلة المليئة بالانتصارات والمأساة، كما أدرك أيضاً وهو يرى التفاف الحزب حول مرشح جديد، أنه ليس قادراً وحده على توجيه دفة الحزب إلى الوجهة التي يريدها، بعد أن تبين للجميع أن نانسي بيلوسي (84 سنة) كانت أقوى منه في لحظة فارقة حسمت صراع السلطة لغير ما يشتهي.
سيدة الدمى
لم تنبع قوة نانسي بيلوسي من فراغ، إذ تتردد مقولة شهيرة في أروقة الكونغرس تقول "عندما تخسر بيلوسي، فمن الأفضل أن تفرغ مكتبك"، ووسط كل الفوضى والاضطرابات التي شهدتها السياسة الأميركية على مدى الأسابيع القليلة الماضية، ظل قانون واحد ثابتاً وهو أن بيلوسي مؤثرة بشكل فريد ولديها القدرة على صنع أو تدمير المناصب السياسية حتى تلك الخاصة بالرؤساء الأميركيين، بينما وصفتها صحيفة "واشنطن إكزامينر" بأنها لعبت دور "سيدة الدمى" في إقصاء بايدن ودفع هاريس إلى صدارة المشهد، ضمن ما اعتبرته الصحيفة اليمينية جهداً منظماً من "مافيا كاليفورنيا" في إشارة إلى الديمقراطيين من ولاية كاليفورنيا الذين وجهوا أقسى ضربة للرئيس بايدن، وكانوا القوة الدافعة وراء قراره بالتخلي عن محاولة إعادة انتخابه، ومارسوا الضغط بلا هوادة لتسليم الشعلة لشخص يعتقدون أنه قادر على هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
كان ينظر إلى بيلوسي على أنها واحدة من النبلاء الذين يعملون خلف الستار لإطاحة بايدن، بينما كان أقرب حلفائها النائب آدم شيف، أحد أبرز الديمقراطيين الذين دعوا بايدن إلى الانسحاب وسط مخاوف متصاعدة من الديمقراطيين في مجلس النواب في شأن قدرة بايدن على الفوز ولهذا طلبوا من بيلوسي توجيه الضربة القاضية لحملة إعادة انتخاب الرئيس المتعثرة بعد أدائه الكارثي في المناظرة ضد ترمب.
بصماتها على السكين
على رغم نفي بيلوسي ممارستها ضغوطاً على بايدن، فإن الاعتقاد السائد، هو أن موقفها الصلب والجاد كان بمثابة الصدمة التي اعتقد البعض أن بايدن يحتاج إليها للانسحاب من السباق، إذ نقل موقع "أكسيوس" عن أحد أعضاء مجلس النواب قوله، "إنها وسيطة السلطة اللعينة، إنها الفأس"، كما اعتبر موقع "بوليتيكو" أن بصمات أصابع بيلوسي موجودة على السكين، ونقلت عن عضو كونغرس ديمقراطي قوله، إن بيلوسي أوضحت أنه يمكن للديمقراطيين القيام بذلك بالطريقة السهلة أو بالطريقة الصعبة، وأعطت لبايدن والبيت الأبيض ثلاثة أسابيع من الطريق السهل وهو الانسحاب، بينما كان الطريق الصعب يلوح في الأفق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستبعدت سوزان بيج، مؤلفة كتاب "نانسي بيلوسي ودروس القوة" أن الرئيس بايدن ما كان ليتراجع لولا تأثير نانسي بيلوسي، خصوصاً أنه أوضح عدم رغبته في التنحي وأعلن في الواقع أنه سيبقى في السباق، ومع ذلك، عندما ظهرت بيلوسي في برنامج "مورننغ شو" الصباحي على شبكة "أم أس أن بي سي" الذي يشاهده بايدن بانتظام، أشارت إلى أن الأمر لم يغلق بعد، بل متروك للرئيس ليقرر ما إذا كان سيترشح، وجميعنا نشجعه على اتخاذ هذا القرار لأن الوقت ينفد.
ليست وحدها
وفي حين فعلت رئيسة مجلس النواب السابقة أكثر من أي شخص آخر لإعادة هندسة السباق إلى البيت الأبيض، ونفخ حياة جديدة في حزبها الديمقراطي ونقل الفوضى إلى الجمهوريين ودونالد ترمب، فإنها كانت جزءاً من مجموعة أصدقاء ديمقراطيين تتألف من زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وزعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز، ورئيسة مجلس الشيوخ الموقتة باتي موراي، وصديق بايدن المقرب النائب جيم كليبيرن، الذين كان هدفهم إقناع من يستطيعون في البيت الأبيض بأن بايدن في حاجة إلى التنحي، كما تركوا الباب مفتوحاً بصورة علنية أمام بايدن للانسحاب وجلبوا مخاوفهم الخاصة إلى بايدن سراً.
ولم تدفع المجموعة من أجل خروج بايدن فحسب، بل أرادت أيضاً إنهاء التصور بأن الحزب الديمقراطي منقسم قبل الانتخابات ذات الأخطار العالية في نوفمبر، عندما تكون السيطرة على الكونغرس أيضاً على المحك.
نفوذ غير مطلق
ومع ذلك، يحذر البعض من المبالغة في تقدير نفوذ بيلوسي، إذ تشير إيلين كامارك، العضو القديم في اللجنة الوطنية الديمقراطية والمسؤولة السابقة في البيت الأبيض إلى أن بيلوسي قوية جداً، لكنها لا تعتقد أن الأمر كله يتعلق بها بل يتعلق برؤساء الحزب في 50 ولاية في الولايات المتحدة، ونحو 4 آلاف مندوب توصلوا جميعاً إلى النتيجة نفسها، وبعبارة أخرى توصل الحزب بأكمله إلى هذا الاستنتاج بعد أن نفد الوقت ببساطة.
وتتفق بيج في ضرورة عدم تضخيم نفوذ بيلوسي قائلة إنها تستمع أكثر مما تتحدث وهي بالفعل استمعت إلى أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين كانت لديهم مخاوف في شأن بايدن، ولم تحاول حشدهم، بل كانت بمثابة مركز يعرفون أنهم يستطيعون الاتصال به والتحدث معه حول هذا الأمر. وأشارت إلى أن بيلوسي لا تعاني نقاط ضعف عديد السياسيين فهي "شجاعة تماماً ولا تهتم إذا كنت تحبها ولا تهتم بما تريد أن تعرفه، إنها تعرف ما تهتم به، وما تريد قوله".
وفي اليوم التالي لانسحاب بايدن، قال عضو مجلس النواب الديمقراطي جيمي راسكين، إنه لم يكن على علم بأي استراتيجية منسقة بأي صورة من الصور من قبل كبار قادة الحزب، كما أوضح النائب دون باير أنه لم يكن على علم بعقد بيلوسي أي اجتماعات مع مجموعات رئيسة معينة. وأوضح عضو آخر في مجلس النواب لشبكة "أن بي سي نيوز" أن بيلوسي تستحق "50 في المئة" من الفضل في تنحي بايدن، ووصف النائب مارك بوكان تمرد الحزب ضد بايدن بأنه نوع من الجهد الشعبي من القاعدة إلى القمة وليس توجيهاً من أعلى إلى أسفل.
هدف بيلوسي
ومع ذلك، بذلت بيلوسي قصارى جهدها خلال مائدة مستديرة مع مراسلي الكابيتول هيل المخضرمين، لتوضيح أنها لم تسع إلى التواصل مع الكتلة الديمقراطية، بل اتصل بها المشرعون الغاضبون وبخاصة المعرضين لخطر الخسارة في انتخابات مجلس النواب بسبب وجود بايدن على رأس القائمة الانتخابية، وخشيتهم من عدم قدرة الديمقراطيين على استعادة سيطرتهم على مجلس النواب.
ووفقاً لموقع "بنشباول نيوز" المحافظ، فإن هدف بيلوسي الذي أعلنت عنه هو عدم السماح لدونالد ترمب باتخاذ خطوة واحدة نحو تولي المنصب الرئاسي مرة أخرى.
انتصار آخر
غير أن رئيسة مجلس النواب السابقة مارست نفوذاً آخر بعد أيام قليلة، فبمجرد انسحاب بايدن من السباق وتأييدها لكامالا هاريس، حققت بيلوسي انتصاراً آخر عندما تمت تسمية عضو الكونغرس السابق وحاكم ولاية مينيسوتا تيم وولز مرشحاً لمنصب نائب الرئيس، وعلى رغم تصريحها بأن أياً من المتنافسين سيكون خياراً قوياً، فإنها لم تخف حماسها لأعضاء مجلس النواب السابقين لمواجهة الطريقة التي يميل بها الرؤساء باختيارهم نواباً لهم من مجلس الشيوخ، ولأن وولز كان عضواً في مجلس النواب من عام 2007 إلى 2019، استجابت بيلوسي لتوسلات الدوائر التقدمية على الإنترنت لدعم وولز، الذي كان الرجل الوحيد في المنافسة ممثلاً لمجلس النواب.
وبحسب بيج، فإن بيلوسي معروفة بولائها للأشخاص الذين خدموا في مجلس النواب لأن هذا كان دائماً مكانها، ولديها احترام كبير له مقابل تجاهل لمجلس الشيوخ، وعندما كان وولز في مجلس النواب، كان أحد صناع الغالبية لديها، إذ خدم في منطقة لا يتوقع أن يفوز بها الديمقراطيون، وهذا جعله مهماً خصوصاً بالنسبة إليها.
وعندما أعلنت هاريس عن اختيارها وولز، تمت الإشادة مرة أخرى ببيلوسي على نطاق واسع بوضع إصبعها على الميزان بالتالي ترجيح كفة وولز ضد أقرب منافسيه وهو جوش شابيرو الحاكم الشعبي لولاية بنسلفانيا الأكثر أهمية في الانتخابات.
أقوى امرأة في تاريخ أميركا
عندما انتخبت بيلوسي لعضوية مجلس النواب لأول مرة في عام 1987، كانت واحدة من 23 امرأة فقط من بين أعضائه البالغ عددهم 435، حينها رفضها معظم الأعضاء الذكور الأكبر سناً في الكابيتول هيل باعتبارها ربة منزل ثرية من سان فرانسيسكو، لكن من خلال عملها الجاد وقوة الشخصية الهائلة، ارتقت إلى القيادة العليا للديمقراطيين في مجلس النواب، الذي كان حكراً على الذكور، وأصبحت أول امرأة تترأس مجلس النواب في تاريخ الولايات المتحدة.
وإذا كانت بيلوسي تعد الآن رئيسة مجلس النواب الفخرية، فإنها تسعى في انتخابات نوفمبر المقبل إلى استمرار عضويتها في المجلس عبر فترة أخرى، خصوصاً بعد أن أكدت أحداث هذا الصيف المضطرب مكانتها كأقوى امرأة في التاريخ الأميركي، وهو التكريم الذي قد ينتقل قريباً إلى كامالا هاريس إذا فازت بالانتخابات.
وحتى إذا فازت هاريس، فإن هذا لا يعني أن نفوذ بيلوسي سيختفي، فهي لا تزال تثبت المرة تلو الأخرى قدرتها الفائقة على التأثير من خلف الكواليس في اللحظات الحاسمة التي تحدد مصير الديمقراطيين وربما مصير الأمة الأميركية، كما أن هاريس ستظل تدين بصعودها على حساب بايدن إلى بيلوسي حتى ولو بصورة جزئية.