Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أصوات الحروب وروائحها وصدماتها: ماذا تفعل بنا؟

غضب عالمي صحب واحدة من أولى مجازر حرب غزة الأخيرة، لكن الاستهدافات التالية مرت من دون ضجة

أطل الناشطون الفلسطينيون بمناشدة كتبوها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "لا تعتادوا المشهد" (ا ف ب)

ملخص

اعتياد المشهد، مشهد الحرب، مهما بلغ من القسوة واللا منطق، ذلك الفخ المشاعري الغريب بات سائداً ومرعباً في جوهره. فأين تذهب كل مشاعر الخوف والتعاطف والقلق وأصوات القصف ورائحة الملاجئ وطعم المعلبات؟ كيف تهدئ روعها؟ أين تركن ذاتها؟ ومتى تنفجر؟ وماذا تفعل في الأجساد والأرواح؟

في قطار الحياة الذي لا يتوقف تتداخل كثير من الأحداث، نعيشها وتحياها حواسنا، تبدأ كمصائب كبرى يتوقف عندها الزمن قليلاً، تصغر وتضيع ملامحها وتصبح كتلة مختلفة ممتزجة بأحداث أخرى وانشغالات ونسيان. وتصبح مادة أخرى نتاج الوجع والدموع والخوف بنكهة هزيمة أو نصر أو لامبالاة. ربما هذه دورة حياة ذكريات الحروب. لكنها وعلى رغم ركونها في رفوف الدماغ المتعرجة تجد دربها للخروج في يوم ما وفي ظرف ما.

لا تعتادوا المشهد!

بدهشة وهلع لا مثيل لهما تابع اللبنانيون والعالم بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 قصف إسرائيل لمستشفى المعمداني في غزة. أكثر من 500 ضحية قضوا، ولملم الأهالي أشلاء أولادهم والأولاد أهاليهم.

استنكار وإدانة وغضب عالمي صحب واحدة من أولى مجازر حرب غزة الأخيرة. وسقطت المباني وهدمت البيوت وعائلات ختمت سجلها المدني تحت أنقاض مساكنها أو على أحد طرق النزوح أو في خيام أو مدارس أو مستشفيات، حتى صار العالم يحصي عداد الضحايا والخسائر، ويتوقف لوهلة صغيرة أمام مجزرة كبرى ويكمل حياته.

أطل الناشطون الفلسطينيون بمناشدة كتبوها على صفحات وسائل التواصل وصدحوا بها حيثما استطاعوا للإعلام العالمي والعربي. "لا تعتادوا المشهد". ولكن وعلى رغم كل الأسى اعتاد الناس المشهد وألفوه.

اعتياد المشهد، مشهد الحرب، مهما بلغ من القسوة واللا منطق، ذلك الفخ المشاعري الغريب بات سائداً ومرعباً في جوهره. فأين تذهب كل مشاعر الخوف والتعاطف والقلق وأصوات القصف ورائحة الملاجئ وطعم المعلبات؟ كيف تهدئ روعها؟ أين تركن ذاتها؟ ومتى تنفجر؟

قد يبدو هذا التحقيق متفككاً لكنه في الواقع الأكثر تماسكاً ويفهمه شعب خبر الحرب وظروفها. شعب جمعته ويلات المعارك اليومية ووجعها وعقمها وشقائها مهما تبدلت العقائد.

ذكرى الحرب الأهلية

لم يبلغ مواطن لبناني عمر الـ50 في وطنه إلا وعايش في الأقل خمسة حروب كحد أدنى، الأهلية منها والحزبية والوطنية والإقليمية.

وتقول السيدة الخمسينية سمية "بدا وأنا أحاول التخلص من بعض الضغوط الحياتية في علاجات مختلفة أن مسؤوليات الحياة هي التي تنغصها للوهلة الأولى. لكن مع العودة في التنويم الإيحائي إلى الطفولة فوجئت المعالجة أن الخوف يتملك غالب مراحل حياتي. وعندما أعادتني إلى عمر الثالثة فاحت رائحة عفونة الملجأ في أنفي وبدأت أرتجف. وطلبت أن أخبرها بماذا أشعر وكان صوت القصف يملأ أذني وأنا أتمسك بثوب أمي بحثاً عن لحظة أمان. تفاجأت أنا أيضاً إذ لم أكن أتذكر فعلياً هذه الفترة وأي حرب كانت".

ويقول عبدلله إنه توقف عن تناول أنواع معينة من المعلبات التي كان اللبنانيون يخزنونها لأوقات الحرب في محاولة منه لدرء هذه الذكريات البغيضة. ترك بيته بسبب رائحة تنبعث منه صيفاً تشبه رائحة الملجأ. وخضع لعلاج نفسي بسبب الأصوات العادية التي ظلت توقظ فيه ذكرى الحرب الأهلية التي شارك بها، كصوت الرعد وصوت صفق الباب والمفرقعات والألعاب النارية وكل أصوات إطلاق النار ابتهاجاً أو حزناً.

بيروتشيما

بعد حرب عام 2006 بين إسرائيل و"حزب الله" عاد اللبنانيون ليرصفوا حجارة دومينو حياتهم التي ما كانت تلبث أن تتهاوى بأزمة أو حادثة أو حرب. طمروا ركام الحرب في أرواحهم وزرعوا تراب من رحلوا، وأوصدوا مرة أخرى باب الذاكرة على ذعر الحروب الملعونة.

وبعد 14 عاماً عند الساعة السادسة وسبع دقائق خلال الرابع من شهر أغسطس (آب) عام 2020 انفجر مرفأ بيروت، وشبه بانفجار القنبلة النووية في هيروشيما واصطلح لاحقاً على تسميته بيروتشيما، والذي قتل فيه أكثر من 220 شخصاً وجرح نحو 6500 عدا عن الدمار الهائل في أحياء العاصمة القريبة، وخلع صندوق ذاكرة اللبنانيين الذي سمعوا صوته امتداداً إلى جبل لبنان والبقاع.

أكثر تعليقاتهم خلال تلك الفترة كانت بما معناه "ظننا أننا قد نسينا الحرب، ولكن هذا الحدث أيقظ مارد الرعب والأسى ورائحة البارود، بعد أن لملمنا أنفسنا وداريناها لسنوات".

وقد نشطت جمعيات عديدة في لبنان بعد هذا الحدث الدموي إضافة إلى المراكز الطبية، لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة.

دواء لأي ألم

يكشف الصيدلي خليل أنه يبيع أدوية الأعصاب أكثر مما يبيع أدوية الألم. فهذا الشعب تؤلمه روحه ونفسه أكثر من جسده.

وفي إحصاء أجري قبل عامين في قسم الطب النفسي بمستشفى أوتيل ديو الجامعي ظهر أن 25 في المئة من الشعب اللبناني يعانون اضطراباً نفسياً. ولكن هل تتطلب عوارض الحرب علاجاً؟ وأي علاج؟

العسكر وصدمات الحروب

مع حلول شتاء 1914-1915 ظهر لدى الجنود المشاركين في الحرب العالمية الأولى مشكلة صدمة القصف (shell shock) كمشكلة طبية عسكرية، تؤدي إلى الإرهاق والتشوش وفقدان التوازن والارتعاش وضعف السمع والبصر.

وقد استعان الجيش البريطاني حينها بعلماء نفس أمثال تشارلز مايرز وغيره للعمل كأطباء نفسيين اعتماداً على نظريات وأبحاث سيغموند فرويد في هذا المجال، وقام مايرز بتشخيص الحالات والأعراض ونظم دورات تدريبية لتخريج أطباء كمعالجين لمصابي الحرب نفسياً، واستمر في تطوير أبحاثه إلى ما بعد أحداث تلك الحرب.

وبعد عقود قليلة وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية تم تبني وجهة نظره بصورة واسعة لمعالجة المصابين بصدمة القصف في الميدان وقريباً من خطوط القتال. وعمد الأطباء النفسيون الذين شاركوا في الحرب إلى تشجيع ودعم جنود الجيش البريطاني بدلاً من الإهانة والتخويف.

وضمن الحروب الحديثة نشرت صحيفة يديعوت أحرنوت عام 1996 مقالاً تحدث فيه متخصص نفسي وكشف وجود طوابير طويلة من أفضل الشباب تصطف لدى ضابط الصحة النفسية، وتطلب التسريح لأسباب نفسية.

وبعد أحداث غزة الأخيرة صرح رئيس قسم الصحة النفسية في الجيش الإسرائيلي لوسيان ليئور بأن نحو 1700 جندي خضعوا للعلاج النفسي. واتصل نحو 30 ألف جندي بالخط الساخن للصحة النفسية، وسرح أكثر من 200 بسبب المشكلات النفسية التي سببتها الحرب.

أصوات وتخمينات

ليست أصوات المدافع والقصف والصراخ هي التي تحفر أظفارها في الروح، فحتى أصوات صفارات الإنذار تخلق ذعراً لا يستهان به. عام 2014 أعلنت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية في بيان على موقعها إجراء تعديل على عمل صفارات الإنذار لتخفيف الضغط النفسي والصدمة التي تتركها.

أما أصوات القذائف فحظيت في لبنان بحزازير وتخمينات. فأثناء الحروب تبدأ التخمينات من السكان ما إن تسقط قذيفة حول نوعها وتأثيرها، وكأن شعباً كاملاً خضع لدورات عسكرية والكل فيه خبير...

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا جدار صوت وهذه قنبلة فراغية وهذه 155 وهذا هاون، وهذا قازان... والآن باتوا يفندون المسيرات وصواريخ ياسين وبركان والمسيرة الانقضاضية.

في مسرحية "شقائق النعمان" عام 1987 أضاء الكاتب السوري محمد الماغوط على شخصية اللبناني الذي ما إن تهدر طائرة حتى يصعد إلى السطح ليرى أين ستقصف، وليخمن أنواع القذائف وأين سقطت.

يبدو المشهد سوريالياً لكنه قمة في الواقع، حتى إن عائلات كثيرة جمعت فراغات الذخائر والقذائف وما تبقى من عتاد الإسرائيليين عندما انسحبوا من لبنان وزينوا بها بيوتهم.

الصدمات وظلال الصحافيين

منذ أيام قليلة خسر الإعلام العربي وجهاً ألفته ميادين الحروب. رحلت الإعلامية اللبنانية بشرى عبدالصمد التي عملت أيضاً كمراسلة في الحروب، وكانت قبل رحيلها استضافت في بودكاست "ظلالنا" على منصة وترة عدداً من زملائها الذين عايشوا مثلها اضطرابات ما بعد الصدمة بسبب وجودها في الميدان.

وقد قالت بشرى في أول بث للبرنامج "أنا بشرى عبدالصمد مراسلة ميدانية سابقة وكانت لي تجربتي في التغطيات الميدانية والحروب، وعانيت مما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة" ثم تضيف أن البرنامج سيكون حول كيف حفرت التجارب آثارها لدى زملاء لها، محذرة من أن بعض الروايات قد تحرك المشاعر السلبية.

قدامى المحاربين

لا ترحم الحرب أبطالها ولا تمجدهم. حولنا في جميع الأحزاب أشخاص خدموا أيام الحرب ببسالة وشجاعة وأحياناً كثيرة بإجرام. وقفوا على المعابر وانتصروا لحزبهم في مرحلة وخسروا زملاءهم، وخسروا أحياناً بعض أعضائهم. قنصوا وقتلوا وأداروا الجبهات ووجهوا المدافع وأقفلوا الطرقات... هابهم الناس وتحولوا أبطالاً لقضاياهم.

لكن الحرب انتهت وقصت جوانحهم. وباتوا يعتاشون من أخبار و"بطولات" الماضي وتوقفت بهم الدنيا على مجد في ذاكرتهم.

مثلهم مثل قدامى المحاربين في أميركا عادوا إلى أوطانهم براية النصر لكنهم في الحقيقة يحملون فتات روحهم وكوابيسهم، حتى إن عدداً منهم أقدم على الانتحار. وصاروا عبئاً على وطن وهبوه كل أحلامهم ونبض شبابهم.

وفي مسرحيته الأخيرة "خيال صحرا" رسم جورج خباز الخط البياني التصاعدي والانحداري لقصة الحرب هذه، لقناصين على المعبر ينتهي بهما المطاف أن يموت أحدهما "عادل كرم" ويحيا الآخر "خباز" على فتات القصة مستجدياً حزبه رمق الحياة. فيعيشون على أمجاد الماضي بينما يمعن الحاضر في سحقهم، أو ربما بتجاهلهم.

اضطراب ما بعد الصدمة  

تقول المعالجة النفسية الدكتورة كارول سعادة لـ"اندبندنت عربية" إن الأشخاص الذين عايشوا الحروب والنزاعات يعاني معظمهم من اضطراب ما بعد الصدمة PTSD.

ومن عوارضه أن يعيد أي حدث بسيط كغلق الباب بقوة إلى الذاكرة الصدمة التي خاف أو عاناها، وتوقظ كل حواسه شعور الخوف. وأحياناً كثيرة يكبت الأشخاص المشاهد القاسية في لاوعيهم وقد تعود على صورة فلاش باك في أحلامهم وكوابيسهم، وأحياناً قد تعود فجأة من دون أن يتنبهوا أو يربطوا الأمور ببعضها بعضاً بمجرد سماع صوت ما أو تناول طعام معين أو شم رائحة أو في الذكرى السنوية لحدث ما، فيستذكرون ما حدث بطريقة غير إرادية توقظ الصدمة التي اختبأت داخلهم.

وتضيف أنه عندما يتعرض الشخص إلى أية صدمة تشعره بالخطر على حياته يحاول الجهاز العصبي والدماغ تهريبه وإيجاد حلول سريعة ليخلص نفسه، لذا لا تذهب الصدمة إلى مكان الذكريات الطويلة الأمد، بل تبقى كظرف قائم في حياة الإنسان لفترة ما يجعله يعيشها كأنها تحدث الآن. ومما لا شك فيه أن الآليات الدفاعية كالنكران وتسخيف الأمور وتسهيلها تستخدم للتخفيف من وطأة الصدمات والحقيقة الصعبة. لذا تكون الصدمة في البداية قوية لكن الآليات الدفاعية تعمل على تبهيتها.

ومن هذه الآليات الدفاعية الاعتياد والتعويض بنشاطات أخرى كتناول الطعام وممارسة الرياضة أكثر، وتصرفات تعويضية للتغطية على القلق والخوف المتصل بالواقع. وحدها مرونة الإنسان تجعله يحافظ على صحته النفسية في هذه الحالات. وتشير إلى أن هذا لا يعمم على كل الناس إذ تلعب الثقافة والحس الوطني والعقائد والاستثمار في قضية معينة دورها في تقوية الشخص ومرونته وإرادته في محاربة الموت.

وتؤكد أن هذا التعود غير صحي، لأن الأمور تعود لتظهر في اضطرابات النفس الجسدية وأوجاع الرأس والمعدة والأكزيما والشقيقة والدوخة وسواها من الأمراض، إضافة إلى السلوك المتهور والإدماني على المخدرات وعلى الإنترنت للهرب من مواجهة الواقع والمشاعر والتحكم بها، والسلوك العنيف والعصبية وردات الفعل التي تحمل كثيراً من العنف.

طائر فينيق بأجنحة وهمية!

في مقطع فيديو قصير نشرته المعالجة النفسية سهير هاشم تحت عنوان "كيف يعيش اللبناني بالحرب" تقول يظهر اللبناني كأنه يعيش بصورة طبيعية من حضور حفلات ومهرجانات وخروجات إلى المطاعم كأنه طائر الفينيق. وتتساءل إن كان هذا الأمر طبيعياً لتجيب "إنه ليس طبيعياً، ليس لأن لديه مرونة عالية أو قدرة استيعاب أكبر من باقي الشعوب، إنما لأن جهازه العصبي بات معتاداً على الصدمات والصعوبات المخزنة في ذاكرته الجماعية بسبب عدد الحروب والأزمات التي عايشها. وبسبب هذا بات مضطراً إلى خلق واقع وهمي يلجأ له هرباً من الواقع الذي يعيشه. وتختم بأن هذه المرونة الزائدة ليست جيدة دائماً لأنها تجعل الأشخاص ينفصلون عن أنفسهم ولا يعرفون ماذا يحدث لهم.

الذاكرة الحاضرة

اعتدنا؟ لم نعتد؟ هل يعكس التماسك الخارجي مما يتأجج في الداخل من مشاعر متضاربة بين أحقية العيش بسلام والحق في الدفاع عن الوطن، والخوف الرابض قيد أنملة على مشارف الذاكرة؟ هل تعكس السخرية وتأليف النكات على الوضع الصعب اختيار مخرج بأقل أضرار نفسية ممكنة؟ هل الضحك على الألم يضعنا في فقاعة الوهم اللذيذ؟

يبدو فعلاً هذا الاعتياد ممعناً في الغرابة على رغم أنه غير صحي البتة، وعلى رغم أنه يترك أشخاصاً إما تحت رحمة العلاج النفسي أو منتشرين في زوايا الحياة بكل ألمهم وصدماتهم، بعضهم قادر أن يقتل جاره بسبب الخلاف على موقف سيارة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير