ملخص
ليس أمام أكراد سوريا سوى الاختيار بين القرار الأميركي الذي جاء مفاجئاً لتوقعاتهم، وصندوق الاقتراع مصحوباً ببرميل البارود التركي.
على وقع اشتداد المنافسة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لم يغب عن الولايات المتحدة أن تراقب من جهتها ما يحدث على الأراضي السورية، وما يدور في الشمال السوري الذي يعيش بدوره توترات واضطرابات منذ اندلاع الصراع المسلح في البلاد، لكن تبقى عين واشنطن مفتوحة أكثر على الشمال الشرقي، والانتخابات البلدية التي رفضت إجراءها.
الشروط الأميركية
وذكرت وزارة الخارجية الأميركية في بيان لها عدم استيفاء الشروط اللازمة لإجراء انتخابات "حرة ونزيهة وشفافة وشاملة" في شمال سوريا وشرقها، وقال المتحدث باسم الوزارة، ماثيو ميلر إن بلاده لا تدعم الإعلان الأخير الصادر عن الإدارة الذاتية الديمقراطية، والذي دعا اللجنة العليا للانتخابات إلى بدء الاستعدادات للانتخابات البلدية في مناطق نفوذها.
وأضاف ميلر "أعربت الولايات المتحدة باستمرار عن ضرورة أن تتمتع أي انتخابات في سوريا بالحرية والنزاهة والشفافية، والشمولية بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254 ولا يتم حالياً استيفاء الشروط اللازمة لإجراء انتخابات مماثلة في سوريا بما في ذلك في شمال البلاد وشرقها".
وكانت الإدارة الذاتية الكردية قد أرجأت الانتخابات البلدية مرتين في يونيو (حزيران) إلى أغسطس (آب) الماضي لتشمل سبع مقاطعات خاضعة لها بعد ضغوط دولية، ومحلية إثر تهديدات تركية بعدم السماح بإجراء الانتخابات، ولوَّح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بحرب جديدة، مع عدم السماح بإقامة دولية كردية قرب حدود بلاده.
وقال أردوغان في تصريح له خلال مراقبة مناورات عسكرية في أزمير، غرب تركيا في أواخر مايو (أيار) الماضي في تعليق على خطوة الانتخابات إن "تركيا لن تسمح بإقامة دولة إرهابية خارج حدودها الجنوبية في شمال سوريا والعراق، ولن تتردد في شن هجوم جديد".
ويرد مراقبون الرفض التركي القاطع للانتخابات بأنه يتأتى من ترجيحات شبه قطعية يتداولها الساسة الأتراك عن تمهيد لإقامة دولة كردية، حيث تسيطر الإدارة الذاتية وهي ذات أغلبية كردية منذ عام 2017 على مناطق واسعة شمال شرقي سوريا، تشمل محافظتي الرقة والحسكة وأجزاء من ريف حلب ومحافظة دير الزور، وتمتاز هذه الأراضي بغناها بالثروات المعدنية والبترولية، كما تعد سلة غذائية للبلاد.
وتعتبر أنقرة الفصائل الكردية، التي تعرف باسم وحدات حماية الشعب الكردية "جماعة إرهابية" مرتبطة بجماعة كردية محظورة قادت في السابق تمرداً ضد تركيا منذ عام 1984 وأدى الصراع حين ذلك مع حزب "العمال الكردستاني" إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وبقيت العلاقة يشوبها كثير من التوتر.
غياب الحل السياسي
ويفسر الباحث السياسي، رئيس الشؤون الخارجية في شبكة "راصد" لحقوق الإنسان الكردية، جوان اليوسف في حديثه لـ"اندبندنت عربية" الرفض الأميركي لإجراء الانتخابات البلدية بـ"الواقعي"، فالأوضاع في سوريا لا تستوفي شروط انتخابات شفافة ونزيهة بما فيها منطقة شمال وشرق سوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف "هذا الكلام صحيح، ولا أعتقد أي أحد يختلف عليه، ولأسباب متعددة منها، أولاً إحصاء السكان، وهي الركيزة الأساسية لأي انتخابات شفافة، وثانياً الأجواء الآمنة والديمقراطية، وإذا ذهبنا الى التفسير الأميركي المتعلق بالقرار 2254 فإن ذلك غير ممكن في ظل غياب حل سياسي، وهنا يأتي شرط الشمولية غير المتوفر".
وكان مجلس الأمن أصدر القرار الأممي 2254 في 18 ديسمبر (كانون الأول) عام 2015 الذي يفضي إلى وقف إطلاق النار في سوريا والتوصل إلى تسوية سياسية توقف معها معاناة الشعب السوري، وجاء في نص القرار "دعم الأمم المتحدة لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة في غضون فترة مدتها ستة أشهر، وذات صدقية، وتحدد جدولاً زمنياً، وعملية لصياغة دستور جديد في غضون 18 شهراً".
ويعتقد اليوسف بوجود فهم خاطئ أو ربما تحميل خاطئ أو مقصود بسبب الأجندة السياسية لأميركا في ما يتعلق بانتخابات شمال وشرق سوريا، لأنها انتخابات بلدية محلية تتعلق بإدارات محلية ضيقة لا تحتاج إلى كثير من التعقيدات والإحصاءات والدعايات، "فقط الشفافية والنزاهة مطلوبة".
وعن أسباب الرفض الأميركي يردف "أعتقد بأن الأمر إما يتعلق بعدم تمكن الإدارة الذاتية بتسويق الأمر جيداً، أو أن أميركا، وأنا أرجح ذلك، تأخذ الرفض التركي في الاعتبار وتخلط الحابل بالنابل لترضي تركيا".
في المقابل يفسر مراقبون التأجيل الأميركي للانتخابات البلدية مرات عدة إلى حرص الولايات المتحدة على عدم إعطاء ذريعة للجيش التركي بشن حرب رابعة بعد ثلاث عمليات عسكرية بمسميات (غصن الزيتون ـ درع الفرات ـ نبع السلام) منذ عام 2016 إلى عام 2019 تهدف فيها إلى إقامة منطقة أمنية عازلة بعمق بين 30 و40 كيلومتراً.
في المقابل تدور المخاوف التركية من توسع نفوذ المكون الكردي والاتجاه نحو تسليح جيش مقاتل ومدرب بدعم مطلق من واشنطن في محاربة تنظيم "داعش"، وتطور الدعم إلى وصول أسلحة حديثة ومتطورة بحسب تقارير عسكرية، وهذا القلق يزداد لدى إسطنبول من جهة أن الانتخابات هي البوابة لإنشاء دولة كردية على الأراضي السورية.
وتسعى أنقرة إلى وقف تهديدات فصائل حزب "العمال الكردستاني"، أو الأحزاب الكردية المقاتلة من إحداث أية اختراقات على حدود تركيا الجنوبية، في حين صنفتها ضمن لوائح الأحزاب الكردية وسعت إلى الوجود عسكرياً على الأرض السورية، وتحسين العلاقات الدبلوماسية مع العراق لشن هجمات على مواقع المقاتلين الأكراد في شمال العراق وسوريا معاً، مع الحديث عن تطبيع سوري ـ تركي برعاية روسية بعد قطيعة دامت منذ عام 2011.
العقد الاجتماعي
وكان المجلس العام للإدارة الذاتية قد صادق أواخر عام 2013 على اعتماد ما وصفه بـ"العقد الاجتماعي" الخاص بمنطقة شمال شرقي سوريا باعتبارها إقليماً أطلق عليه "جمهورية سوريا الديمقراطية" بدلاً من الجمهورية العربية السورية، وتمتد منطقة الإقليم في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور وحلب حيث تتعدد الأعراق من عرب وكرد وسريان وآشوريين ومسيحيين وإيزيديين سعياً إلى إقامة نظام ديمقراطي.
ويهيمن المكون الكردي منذ اندلاع الصراع المسلح في سوريا على تشكيل وقيادة جبهة قتالية بمسمى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومع اجتياح تنظيم "داعش" عام 2014 واتساعه وتمكن القوات الكردية مع التحالف الدولي من إسقاط التنظيم المتشدد في مارس (آذار) عام 2019 وبدأت تنظر العاصمة دمشق والأتراك وإلى جانبهما روسيا بريبة إلى نشاط الفصائل الكردية بخاصة من الانفصاليين، ومن وصولهم إلى إنشاء كيان كردي مستقل لا سيما أنه يأتي وسط دعم أميركي غير محدود.
وتجري عمليات تدريب للقوات الكردية في قواعد عسكرية أميركية، وبناء نقاط حراسة بمساعدة الأميركيين على طول مناطق نفوذ المناطق المواجهة لنهر الفرات منعاً لتسلل "الهجمات المعادية"، حيث تواجه "قسد" وقوات حماية الشعب الكردية حرباً جديدة مع قوات العشائر العربية التي ترفض من جهتها الهيمنة الكردية على أراضٍ ذات غالبية عربية، إضافة إلى حرب باردة مع فلول تنظيم "داعش".
"النزاهة" في الميزان الأميركي
في غضون ذلك ليس أمام أكراد سوريا سوى الاختيار بين القرار الأميركي الذي جاء مفاجئاً لتوقعاتهم، وصندوق الاقتراع مصحوباً ببرميل البارود التركي.
ومع الإصرار والتصميم على إجراء الانتخابات يمكن التنبؤ بمعركة ترغب بها تركيا وتنتظرها بفارغ الصبر، لشن حملة عسكرية برية، بينما الأمور تتخذ منحى تصعيدياً غير مسبوق، بخاصة أن الولايات المتحدة التي رفعت راية "الشفافية والنزاهة" في الانتخابات تضع في الحسبان حساب مصالحها وأمنها القومي، وترى أنها كلما اقتربت من الأكراد فإنها تبتعد عن تركيا، وتدفع بأنقرة نحو الكرملين الذي يفتح ذراعيه لإسطنبول ذات الموقع الاستراتيجي بين الشرق والغرب.
ويتوقع الباحث في شبكة "راصد" لحقوق الإنسان الكردية، اليوسف، أن تقام الانتخابات وفق ما أعلنت عنها الإدارة الذاتية بصورة محلية وحسب كل بلدية، بمعنى أنها تراجعت عن مشروعها بانتخابات بلدية عامة، متابعاً "أعتقد أنه مخرج جيد يرضي تركيا، ويناسب الموقف الأميركي، الذي للأسف حتى الآن يأتي انعكاساً للمصالح التركية".
ورداً على سؤال حول العلاقة الأميركية مع أكراد سوريا وإلى أي مدى يمكن أن يستمر الدعم الأميركي أجاب اليوسف "التجربة الكردية مع العالم تجربة مليئة بالخيبات والانكسارات، لها أسبابها وهي مفهومة، منذ أن بدأ التحرك الكردي من أجل الحصول على الاستقلال أو أي صورة من صور التحرر، خيباتهم كثيرة مع الإنجليز والفرنسيين والإيرانيين والسوريين والعراقيين، والسوفيات سابقاً، ولذلك هم على حجر الرحى من التعامل مع الأميركيين الآن وأعتقد هذا ضروري على رغم قلة الخيارات".
ومع كل ذلك ليس بوسع القوات الكردية إلا الذهاب بعيداً مع الحليف الأميركي، على رغم خوف داخلي يساور أكراد سوريا من مصير مشابه لمصير الأفغان، والتخلي عنهم في الأوقات الصعبة، بينما يشحذ التركي كل أسلحته للانقضاض على حرب رابعة، ولن يوفر أية ذريعة لنيل مبتغاه.