Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إعادة الإعمار... السؤال الصعب بين ركام الحرب في غزة

تقديرات باستمرار عمليات البناء إلى القرن المقبل والحاجة إلى 80 مليار دولار والتحديات أمنية وسياسية ولوجيستية

أكثر من 150 ألف وحدة سكنية دُمرت كلياً في غزة (أ ف ب)

ملخص

معضلات إعادة إعمار غزة لا تنتهي عند وقف الحرب أو وجود جهة الإشراف أو توافر التمويل، إذ توجد تحديات أخرى عديدة أمنية وسياسية ولوجيستية، منها إزالة الركام، والقذائف غير المنفجرة بين الأنقاض، وأخيراً الأخطار الصحية بوجود مادة الأسبستوس.

عام من الحرب كان كفيلاً بأن يجعل الجانب الأكبر من مباني قطاع غزة أثراً بعد عين، ومع استمرار الحرب تزداد صعوبة الإجابة عن سؤال إعادة الإعمار، أحد أكبر الأسئلة المؤجلة في ما يسمى "اليوم التالي للحرب". وفي ظل اتساع رقعة الدمار يوماً بعد يوم تتباعد التقديرات في شأن الموعد المتوقع لعودة الحياة إلى طبيعتها في القطاع، التي يذهب بعضها إلى أن تشييد ما جرى تدميره قد يمتد إلى القرن المقبل، مما يعني أن معاناة الفلسطينيين لن تنتهي بانتهاء الحرب، وفق تعبير مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيم شتاينر.

حجم الدمار الناتج من الحرب بلغ أكثر من 150 ألف وحدة سكنية دمرت كلياً، فيما أصبحت 80 ألف وحدة سكنية غير قابلة للسكن، و200 ألف دمرت جزئياً، وفق تقدير أصدره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، صدر في منتصف سبتمبر (أيلول)، وتضمن الإشارة إلى تدمير 200 مقر حكومي، و125 مدرسة وجامعة دمرتها قذائف العدوان الإسرائيلي، فضلاً عن 336 آخرين بصورة جزئية. كما جرى على مدى 345 يوماً من الحرب تدمير 611 مسجداً وثلاث كنائس.

خلال تلك الفترة ألقت القوات الإسرائيلية على قطاع غزة 83 ألف طن متفجرات، وكان من بين آثارها خروج 34 مستشفى و80 مركزاً صحياً عن الخدمة. وقدرت حكومة غزة التي تسيطر عليها "حماس" حجم الخسائر الأولية المباشرة بـ33 مليار دولار.

8 عقود لإعادة بناء غزة

وذكرت منظمة "أوكسفام" في تقرير صدر أخيراً أن غزة فقدت تقريباً قدرتها على إنتاج المياه، إذ تعرضت 88 في المئة من آبار المياه بها، وكل محطات تحلية المياه لأضرار أو تدمير. إجمالاً، أفادت منظمات دولية وإغاثية بأن 70 في المئة من المباني السكنية والمدارس والمستشفيات في غزة تعرضت لأضرار.

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أصدر تقريراً في مايو (أيار) الماضي حول مستقبل القطاع المدمر بعد الحرب، وتوقع أن تستمر عملية تشييد مباني القطاع 80 عاماً إذا سارت بنفس وتيرة إعادة الإعمار بعد الحروب السابقة التي شهدها القطاع، مما يعني أن غزة لن تعود إلى سابق عهدها إلا في القرن الـ22. وفي أكثر السيناريوهات تفاؤلاً فإن عمليات إعادة الإعمار ستستمر حتى عام 2040، في حال تسليم مواد البناء بصورة أسرع خمس مرات مما كانت عليه الحال بعد حرب عام 2021.

لكن تلك التقديرات تبقى قابلة للتمديد مع استمرار الدمار غير المسبوق، الذي يشهده قطاع غزة يومياً، بفعل الغارات الجوية والعمليات البرية والقصف المدفعي الإسرائيلي، حتى إن أحد مسؤولي الأمم المتحدة وصف القطاع بأنه "يشبه سطح القمر"، في إشارة إلى الفجوات الكبيرة على الأرض نتيجة شدة القذائف.

 

القطاع المنكوب يعيش منذ اندلاع الحرب في متوالية لن يكسرها سوى اتفاق لوقف إطلاق النار، فاستمرار الحرب يعني تزايد الدمار، ومن ثم ارتفاع كلفة إعادة الإعمار، مما يجعل مؤشر الحاجات المالية لتشييد المباني المدمرة يرتفع يوماً بعد الآخر.

ومنذ الأسابيع الأولى للحرب، عملت الأمم المتحدة على إثارة ملف إعادة الإعمار، إذ عين الأمين العام للمنظمة الهولندية سيجريد كاغ في منصب كبيرة منسقي الشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، وذلك في ديسمبر (كانون الأول) 2023.

وفي أوائل مايو الماضي، قال الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، مدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عبدالله الدردري، إن تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الأولية لإعادة بناء ما دمر في غزة تصل حتى إلى 40 مليار دولار. واصفاً المهمة بأنها "غير مسبوقة أمام المجتمع الدولي منذ الحرب العالمية الثانية".

بعد تلك التصريحات بأيام سيطرت إسرائيل على منطقة رفح في أقصى جنوب قطاع غزة التي احتمى بها غالبية سكان القطاع، مما زاد بالتأكيد حجم الدمار وكلفة إعادة الإعمار، إذ أدلى الدردري بتصريحات أخرى في يوليو (تموز) أشار فيها إلى أن كلفة إعادة الإعمار تبلغ 50 مليار دولار.

وفي أغسطس (آب) الماضي، تضاعفت تقديرات كلفة إعادة الإعمار لتصل إلى 80 مليار دولار، حسب تصريحات المتخصص الاقتصادي في مؤسسة راند البحثية، دانييل إيجيل، لوكالة "بلومبيرغ".

من يدفع الكلفة؟

السؤال الصعب الذي يترافق مع تقديرات الكلفة هو من يتكفل بدفعها؟ في الحروب السابقة كانت تطلق دعوات دولية للمساهمة في الإعمار، وقد عقد أكثر من مؤتمر لإعمار غزة، مثل مؤتمر القاهرة في عام 2014، بمشاركة 50 دولة و20 منظمة، الذي خرج بتعهدات دولية بقيمة 5.3 مليار دولار. لكن تقارير لاحقة انتقدت تأخر المانحين في تنفيذ تعهداتهم.

مدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قال إنه بحث تمويل إعادة الإعمار مع دول عربية. مشيراً إلى أن هناك "إشارات إيجابية للغاية"، إلا أن ذلك الدعم بدا مشروطاً في بعض التصريحات، إذ قال وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد آل نهيان، عبر حسابه على منصة "إكس"، في سبتمبر، إن بلاده "غير مستعدة لدعم اليوم التالي من الحرب في غزة من دون قيام دولة فلسطينية".

ويتسق ذلك مع تصريحات لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يناير (كانون الثاني) الماضي، حول رفض الدول العربية المشاركة في إعادة إعمار غزة إذا كان القطاع الفلسطيني "سيسوى بالأرض" مجدداً في بضعة أعوام، في إشارة إلى ضرورة التوصل إلى حل سياسي مستدام وإقامة الدولة الفلسطينية.

وكانت قطر لسنوات أحد المانحين الرئيسين لغزة، كما أنشأت مصر ثلاث مدن سكنية، وطورت منطقة الكورنيش، بعدما تعهدت القاهرة بمنحة قيمتها 500 مليون دولار لإعادة إعمار القطاع بعد حرب عام 2021.

 

الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في حربها على غزة امتد أيضاً للامتناع عن أي مشاركة محتملة في تمويل إعادة إعمار القطاع، إذ وافق مجلس النواب الأميركي، في يونيو (حزيران) الماضي، على مشروع قانون يمنع الحكومة الفيدرالية من المشاركة في ذلك. باعتبار أن "حماس" في حالة حرب مع أفضل حلفاء الولايات المتحدة، وفق تعبير النائب الجمهوري بريان ماست، وهو متطوع سابق في الجيش الإسرائيلي.

تكفل إسرائيل باعتبارها قوة الاحتلال بإعادة بناء المنشآت المدمرة يبدو خياراً غير مطروح حالياً، لكنه حدث سابقاً عام 2010، حين دفعت تل أبيب 10.5 مليون دولار لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" تعويضاً عن مباني الوكالة المدمرة إثر الغارات الإسرائيلية. وبحسب المتحدث باسم "الأونروا" جوناثان فاولر، فقد تعرض 170 مبنى تابعاً للوكالة للقصف منذ بداية الحرب. واصفاً الدمار في القطاع بأنه "يتخطى ما نتج من الحرب العالمية الثانية".

وبدأت السلطة الفلسطينية منذ أشهر تواصلها مع شركاء دوليين، لبحث المساعدة في إعادة الإعمار، وقال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، في أغسطس، إن حكومته تعمل على إعداد "خطة شاملة" لإعادة إعمار القطاع والإنعاش الاقتصادي، بالتعاون مع البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وذكر مصطفى، في مقال نشره بصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، أنه سيجري إنشاء وكالة مستقلة لقيادة وتنسيق وإدارة كل جهود إعادة الإعمار والإنعاش على المدى الطويل في غزة، وإنشاء صندوق لإعادة إعمار غزة في البنك الدولي.

وعلى رغم عدم حكم السلطة الفلسطينية قطاع غزة فعلياً منذ عام 2007، فإنه من المتوقع أن تكون حاضرة في مرحلة إعادة الإعمار، مثلما حدث بعد عملية "الجرف الصامد" العسكرية الإسرائيلية عام 2014، حين عقدت اتفاقات بين الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، تحت اسم "آلية إعادة إعمار قطاع غزة"، بهدف نقل مواد البناء إلى قطاع غزة من أجل إعادة البناء والتطوير وتنفيذ مشروعات عامة. لكن معضلات إعادة الإعمار لا تنتهي عند وقف الحرب أو وجود جهة الإشراف أو توفر التمويل، إذ توجد تحديات أخرى عديدة أمنية وسياسية ولوجيستية.

إزالة الركام

أول التحديات هي إزالة الركام الناتج من القصف الإسرائيلي، الذي تقول الأمم المتحدة إنه يقدر بأكثر من 42 مليون طن. وحسب وكالة "بلومبيرغ" فإن هذا الحجم من الركام يكفي لملء شاحنات نفايات تمتد من نيويورك إلى سنغافورة. وتشير الأمم المتحدة إلى أن إزالة 40 مليون طن من الركام قد تستغرق 15 عاماً، وتكلف ما بين 500 و600 مليون دولار.

بدورها، بدأت السلطة الفلسطينية اجتماعات للتواصل مع الشركاء الدوليين في شأن التعامل مع الركام، إذ عقد وزير الأشغال الفلسطيني عاهد بسيسو اجتماعاً مع ممثلي 32 دولة ومنظمة دولية في الـ12 من أغسطس الماضي. ونقل بيان للوزارة في ختام الاجتماع عن بسيسو قوله إن ما يراوح ما بين 4 و5 آلاف صاروخ سقطت على غزة، بعضها وصل إلى عمق 20 متراً تحت المبنى الذي استهدفه، "وتستدعي إزالة هذه الصواريخ خبرات دولية وإمكانات مالية ووقتاً أطول".

كذلك أشار الوزير إلى وجود جثث للضحايا تحت الأنقاض تقدر بنحو 20 ألفاً، مما "يستدعي آلية عمل تختلف عن الأوضاع الطبيعية تكون أكثر حرصاً وأكثر بطئاً".

مخلفات الحرب

وتبرز المخاوف من خطورة القذائف غير المنفجرة بين الأنقاض، إذ تشير دراسة بعنوان "حدائق الشيطان: مخلفات الحرب تهدد إعادة إعمار غزة" نشرها المركز المصري للفكر والدراسات، إلى أن هناك احتمالاً بعدم انفجار نسبة من المقذوفات في الحروب تراوح ما بين اثنين و40 في المئة، ومع الوقت تتحول مخلفات الحرب إلى قنابل موقوتة وألغام قد تنفجر في أي لحظة.

وقالت الدراسة إن هناك نحو 6 آلاف طن من الذخائر غير المنفجرة في غزة حتى نهاية مايو الماضي، وهو ما يشكل خطورة على عودة النازحين لمنازلهم المدمرة، وكذلك على العاملين في إعادة الإعمار، ويعقد من جهود البناء بسبب الحاجة إلى التأكد من خلو المنطقة من مخلفات الحرب.

 

وتشير الدراسة إلى تحد آخر، وهو صعوبة نقل السكان إلى مناطق آمنة للقيام بعمليات البناء، نظراً إلى ضيق مساحة القطاع والاكتظاظ بالسكان (2.3 مليون نسمة)، مما يجعل من الصعب إيجاد أماكن تستوعب ذلك العدد الكبير من السكان.

وهناك أخطار أخرى على الصعيد الصحي، إذ تعد الأنقاض بيئة مثالية لذباب الرمل، الذي يمكن أن ينشر داء الليشمانيات، وهو مرض جلدي طفيلي قد يؤدي إلى الموت. كما توجد العقارب الصفراء والأفاعي في الشقوق الصخرية.

أخطار صحية

وتتزايد المخاوف من وجود مادة الأسبستوس العازل، المحظورة في عديد من البلدان، باعتبارها قد تسبب أنواعاً متعددة من السرطان. وحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة يوجد نحو 2.3 مليون طن من الأنقاض في غزة تحوي هذه المادة، إذ يمكن أن تطلق جزيئات محمولة بالهواء تسبب أنواعاً متعددة من السرطان. فضلاً عن المواد الخطرة التي خلفتها المستشفيات المتضررة من الحرب. ومن بين العوائق الصحية أيضاً التلوث الخطر المتحول نتيجة استخدام الفسفور الأبيض وغيره من المقذوفات، إضافة إلى أخطار تحلل الجثث.

التحديات الأمنية لإعادة الإعمار لا تقل خطورة عن الأمور اللوجيستية والصحية، فإسرائيل لا تبدو عازمة على وقف اعتداءاتها على القطاع، بينما لم تحقق هدفها الأساس من الحرب، وهو القضاء على "حماس"، إذ لا تزال الحركة تثبت وجودها بضربات بين الحين والآخر، مما يفتح احتمالات إعادة تدمير القطاع إذا بدأ إعماره، بزعم استمرار التهديد الوجودي لإسرائيل، كما أن رفض إسرائيل أي صورة من صور وجود "حماس" في إدارة القطاع بعد الحرب يعقد مشهد إعادة الإعمار.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير