ملخص
منذ أشهر تشهد العلاقات الروسية–التشادية انتعاشة كبيرة تجسدت في زيارات متواترة للمسؤولين بين البلدين، لكن أبرز هذه الزيارات تلك التي قادت الرئيس محمد إدريس ديبي إلى موسكو يناير الماضي.
شهدت العاصمة التشادية إنجامينا، أخيراً تشدين "البيت الروسي الثقافي" في خطوة جديدة تخطوها موسكو من أجل تعزيز موقعها في منطقة الساحل الأفريقي التي تعاني اضطرابات ازدادت حدة في أعقاب الانقلابات العسكرية التي عرفتها دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر في الأعوام الماضية.
إثر تلك الانقلابات العسكرية، نجحت روسيا في إقامة تحالفات وطيدة مع الحكام الجدد في الدول الثلاث ما فسح المجال أمامها للإحلال محل فرنسا التي تراجع نفوذها بصورة كبيرة في القارة السمراء بعد أعوام من العمليات العسكرية التي قادتها فيها ضد الجماعات المسلحة من دون أن تحقق نتائج ملموسة على أرض المعركة.
ومنذ أشهر تشهد العلاقات الروسية–التشادية انتعاشة كبيرة تجسدت في زيارات متواترة للمسؤولين بين البلدين، لكن أبرز هذه الزيارات تلك التي قادت الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إنتو إلى موسكو في يناير (كانون الثاني) الماضي.
نشاط دعائي
وتحاول روسيا الترويج لثقافتها في تشاد كما في دول الساحل الأفريقي في سيناريو بدا أقرب لاستنساخ النموذج الذي حاولت فرنسا تكريسه منذ عقود عندما رسخت الثقافة الفرانكفونية في القارة وضخت أموالاً طائلة على تظاهرات ومراكز ثقافية لتعزيز اللغة الفرنسية.
ويضم البيت الثقافي في تشاد أكبر مكتبة للأعمال باللغة الروسية حيث تحوي 200 كتاب، وسينتقي مديروه عروضاً سينمائية لبثها في هذا المركز الذي يأتي افتتاحه تزامناً مع استعدادات حثيثة للاحتفال بمرور 60 عاماً على العلاقات الروسية– التشادية.
وقال الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية، محمد حامد جمعة نوار، إن "الاتجاه الروسي للعمل عبر الواجهات الثقافية بالمنطقة مسلك غير جديد فلروسيا مثلاً مركز ثقافي في جمهورية أفريقيا الوسطى الذي أدار عبر ما عرف ببيت روسيا أنشطة وحملات وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ضد المصالح الغربية".
وأكد نوار في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن "الأمر بلغ حد السيطرة على الإذاعات المحلية في أفريقيا الوسطى والعاصمة بانغي لمصلحة الدعاية الروسية، والمراكز الثقافية موجودة بكثرة حتى في الدول العربية وهي في نموذجها بتلك الدول أوجدت تواصلاً ثقافياً وأنشطة قريبة من اختصاصها عكس النسخة الأفريقية منها حيث عادة تتجه للنشاط السياسي والدعائي لمصلحة موسكو لذا فهي على الأرجح واجهات أقرب إلى العمل العسكري والأمني منها إلى مشروع عون ثقافي".
وشدد على أن "بالفرضية الأخيرة أعتقد أن افتتاح مركز في تشاد سيكون أقرب إلى نموذج المركز الروسي في أفريقيا الوسطى ولا أتوقع أن يكون له تأثير في منافسة الثقافة والسمت الفرنسي المتجذر في تشاد وغالب دول الساحل وهو بكل حال استمرار لصراع باريس وموسكو على آخر معاقل ونفوذ فرنسا في هذا البلد بعدما خسرت مالي وبوركينا فاسو ودول أخرى لمصلحة روسيا".
واستنتج نوار أن "حالياً لا توجد موانع أمام التغلغل الروسي خصوصاً مع حالة التراجع والحيرة الفرنسية وتسارع التمدد الروسي الذي يغازل السودان إلى الشرق من تشاد لذا حال نجاحه في ذلك يكون قد أكمل مخططه للسيطرة في المنطقة وساعده على ذلك بالضرورة إضافة للعجز الفرنسي في الاستدراك الغياب الأميركي الواضح عن ملفات المنطقة".
قوة ناعمة
ويأتي هذا التطور في وقت تراهن فيه روسيا على الأدوات العسكرية بصورة رئيسة في ترسيخ موطئ قدم لها في الساحل الأفريقي، حيث نشرت عناصر من (فاغنر سابقاً) في مالي لمؤازرة القوات الحكومية لبسط الأمن، فيما نشرت قوات أخرى تابعة للواء الدببة وكتائب روسية أخرى لإرساء الاستقرار في بوركينا فاسو.
وفي النيجر، نشرت روسيا مدربين ومستشارين عسكريين من أجل تدريب ومساعدة الجيش الذي يكافح هناك للتصدي إلى الجماعات المسلحة والمتمردة التي تطمح إلى استغلال الانقلاب العسكري الذي حدث في الـ26 من يوليو (تموز) 2023 وظروف أخرى لتعزيز مواقعها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الباحث السياسي، حسين آغ عيسى، إن "افتتاح روسيا البيت الثقافي في تشاد يأتي في سياق إستراتيجيتها المتنامية لتعزيز نفوذها في أفريقيا، وخصوصاً في منطقة الساحل، التي أصبحت ساحة منافسة جيوسياسية بين قوى دولية مختلفة، بما في ذلك فرنسا والصين وتركيا".
وأوضح آغ عيسى في تصريح خاص أن "هذه الخطوة تمثل إحدى أدوات القوة الناعمة التي تسعى روسيا من خلالها إلى تعزيز صورتها وكسب التأييد بين شعوب المنطقة، على غرار ما قامت به فرنسا عبر الفرانكفونية لتعزيز حضورها الثقافي واللغوي". وأضاف، "أما بالنسبة إلى مدى قدرة الثقافة الروسية على إثبات حضورها في أفريقيا، فإن ذلك يعتمد على مدى تقبل المجتمعات الأفريقية لهذا النوع من التفاعل الثقافي".
ولفت إلى أنه "في حين أن الثقافة الفرنسية استفادت من الإرث الاستعماري والارتباط التاريخي العميق بالمنطقة، فإن روسيا تحتاج إلى بناء علاقات جديدة وتوسيع نطاق تأثيرها الثقافي بصورة تدرجية، وذلك يحتاج أعواماً وأعواماً حتى ترى ثماره".
مصالح روسية
وفي حين أن فرنسا عملت على تعزيز لغتها وثقافتها في أفريقيا عبر عقود من خلال منظمات مثل منظمة الفرانكفونية وهيئات أخرى فإن الغموض يكتنف الأدوات التي ستراهن عليها روسيا في سياق عملها على نشر ثقافتها في القارة السمراء.
واعتبر الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية، محمد تورشين، أن "بلا شك روسيا أصبحت لديها علاقات جيدة مع تشاد منذ فترة طويلة، ويبدو أنها بدأت الآن تفعل أدوات القوة الناعمة من خلال المراكز الثقافية والبيت الثقافي في إنجامينا، وسيكون ذلك مدخلاً لتعزيز نفوذها ووجودها لا سيما أن النظام في تشاد يعاني اضطرابات سياسية بسبب بعض الجماعات المتمردة عليها وغير ذلك".
وأفاد تورشين بأن "النظام في تشاد الآن في حاجة إلى تسليح وأسلحة وأعتقد أن الجانب الفرنسي والغربي يضع بعض الشروط من أجل بيع الأسلحة وهي شروط غير قادر النظام في إنجامينا على الإيفاء بها، لذا سعي الحصول على أسلحة من الغرب مسألة معقدة لذلك سيكون هناك تطور متسارع من قبل الجانب الروسي لتحقيق بعض المصالح".
وخلص إلى أن "المصالح الروسية ستكون حكراً في القضايا الأمنية والعسكرية، بينما الثقافة ستكون ثانوية ولن تكون قادرة على تعويض الثقافة الفرنسية التي تهيمن على الفضاء في تشاد كما بقية أقطار الساحل الأفريقي".
وفي ظل احتدام التنافس بين روسيا والصين والقوى الغربية على مواقع النفوذ فإن من المرتقب أن يطاول التزاحم على أفريقيا مجالات أخرى وليس وحسب الثقافة والاقتصاد والأمن.