Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب مستمرة لكن "جيوش المحللين" تغني لـ"منتصر"

المعارك مشتعلة بينما مراهنات الفوز والخسارة وسيناريوهات المستقبل "المؤكدة" تسير على قدم وساق

باتت المعلومات وكيفية استخدامها من أدوات حروب العصر (مواقع التواصل)

ملخص

جيوش المحللين والمنظرين والمفسرين لما يجري على ساحات الصراع وجحافل المنجمين العسكريين والاستراتيجيين ممن يطلون عبر الشاشات على مدى اليوم مؤكدين أن سيناريوهات بعينها ستسود وخرائط من دون غيرها سترسم ومصائر واضحة المعالم تنتج من المعارك ستفرض نفسها على المنطقة والعالم، هي سمة من سمات حرب القطاع المتمددة عبر الحدود.

"حماس" تنتصر! فكيف حققت الانتصار؟ إسرائيل تتفوق! فكيف تحافظ على تفوقها؟ متخصص استراتيجي أميركي يشرح أسباب انتصار "حماس" الكاسح. متخصص استراتيجي أميركي يوضح عوامل تفوق الضربات الإسرائيلية في غزة ولبنان وتوقعات بنجاح ساحق للضربات التي ستوجه لإيران.

قادة "حماس" يؤكدون "النصر قاب قوسين أو أدنى". قادة إسرائيل يعلنون "النصر حليفنا منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 2023". قائد عسكري إسرائيلي يقول "لن نتوقف إلا بعد ضمان سلامة إسرائيل وأمن شعبها". قائد عسكري إسرائيلي سابق يتحسر "خسرنا الحرب في غزة، وفي طريقنا إلى خسارتها في لبنان".

الحرب مستمرة

حرب غزة وكذلك لبنان وربما إيران ما زالت مستمرة، وما زالت رقعتها آخذة في الاتساع، إلا أن مراهنات النصر والهزيمة وتأكيدات الفوز والخسارة وسيناريوهات المستقبل "المؤكدة" تسير على قدم وساق.

واقعان موازيان يهيمنان على خطاب النصر والهزيمة. يتطابقان في الحجم والثقل والأثر، ويتفقان في الاستناد إلى آراء المراقبين وتحليلات المتخصصين وتصريحات الساسة والقادة والمسؤولين. الفارق الوحيد أن كليهما يقف على طرف نقيض من الآخر، لكنهما في نهاية الأمر واقعان افتراضيان.

رقعة الصراع لا تتمدد على الأرض فحسب. تمددها عبر الأثير أكبر وأسرع وأكثر تناقضاً، وهو ما يلقي بظلال ويتسبب في آثار ويحدث شقاقاً في التوجهات، وذلك على أثير الواقع الافتراضي بأنواعه.

أكبر ميزات الواقع الافتراضي قدرته على تحويل الحلم إلى حقيقة، والأمنية إلى إنجاز، والهزيمة إلى انتصار. كل من لديه شاشة متصلة بشبكة الإنترنت يمكنه أن يعلن نتيجة الصراع واسم المنتصر ومآل المنطقة. وفي الحرب الدائرة رحاها حالياً، ينضم إلى واقع الـ"سوشيال ميديا" والإنترنت الافتراضي، واقع الشاشات التلفزيونية انضماماً ملموساً وربما غير مسبوق في تغطية الحروب وتحليل الصراعات والتأثير – أو محاولة التأثير - في الرأي العام المحلي والإقليمي والعالمي، وذلك عبر رسم واقع لا يمت بالضرورة إلى ما يجري على الأرض.

المنتصر والمنهزم

بين "في حرب غزة، إيران المنتصر الوحيد" و"في ’طوفان الأقصى‘ ’حماس‘ تسطر انتصاراً بحروف من جهاد ومقاومة" و"نتنياهو يعلن انتصاره" و"هنية يشهد فوزه بعد وفاته" و"المنتصر في غزة هم الأطفال والنساء" و"المنتصر في لبنان هو المقاومة و’حزب الله‘" و"المنتصر في جبهة لبنان اليمين الإسرائيلي والغرب المتواطئ" و"الهزيمة تلاحق المعتدي" و"الانتصار رفيق أصحاب الحق" تدور الشاشات بأنواعها في دوائر النصر والهزيمة المفرغة. ويدور معها الملايين من المتلقين والمشاهدين، وكذلك صناع المحتوى ممن صاروا هم أيضاً أصحاب قول وشأن ورأي في ما يجري، محددين اسم المنتصر قبل أن ينتصر، وربما بينما ينهزم، ومشهرين هوية المنهزم بينما الحرب في أوجها، والصراع في مراحل تكونه وتشكله.

تروج مواقع وقنوات تلفزيونية لاستطلاعات رأي لا حصر لها، منها ما يشير إلى أن "ثلث الإسرائيليين يؤمن أن ’حماس‘ كسبت المعركة" وذلك من دون الإشارة إلى أن هذا يعني أن الثلثين يرون عكس ذلك، أو أن إسرائيل كسبت المواجهة في غزة لكن مصير الحرب الأكبر غير معروف، أو أن غالب الفلسطينيين يؤيدون "حماس" و"حزب الله" في طريقهم إلى النصر، أو أن معظمهم يعارض "حماس" و"حزب الله" خشية مآل الحرب، أو أن المنطقة في طريقها إلى حل شامل وسلام دائم، أو في طريقها إلى صراع مفتوح ودمار كامل.

مشهد غير مسبوق

مشهد إشهار الانتصار وإعلان الهزيمة الحالي غير مسبوق، لماذا؟ لأن الجهات المتكالبة على التحليل والتفنيد والإعلان والتأكيد تراوح ما بين خبير حركات مسلحة عصامي، ومتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية لم يسمع عنه أحد قبل اندلاع الحرب، وباحث في الحروب الحديثة وكاتب في الحروب القديمة، ومدون على "فيسبوك" دائم، ومغرد على "إكس" أو صانع محتوى على "إنستغرام" أو "تيليغرام"، أو صانع "بودكاست" يحظى بمليون أو مليوني أو 3 ملايين مشترك ومتابع، ومتحدث عسكري حاذق وعميد ركن متقاعد وغيرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللافت أن هذه الفئة الأخيرة من عمداء الركن المتقاعدين ولواءات الجيوش السابقين والمتخصصين العسكريين المحللين الاستراتيجيين والمعللين التكتيكيين من الواقفين على أطراف الحرب المختلفة والمتضادة أحكموا قبضتهم، أو تم الدفع بهم لإحكام قبضة تحليلاتهم على صياغة وصناعة الرأي العام في عديد من القنوات التلفزيونية، ومنها إلى ساحات الـ"سوشيال ميديا".

الأثير المفتوح

في زمن السماوات المفتوحة الذي شهد هيمنة القنوات الفضائية والشاشات التلفزيونية الإقليمية والدولية الموجهة، ثم في زمن التمكين الرقمي وسيطرة الـ"سوشيال ميديا" والتطبيقات والمنصات على عقول وقلوب وتوجهات مليارات البشر، أصبح المحتوى عاملاً من عوامل الحروب والصراعات، تارة لإذكاء الصراع، وأخرى لتثبيطه، ودائماً طرفاً ولاعباً في تحديد المنتصر وتسمية المهزوم، سواء كان ذلك مطابقاً لما يجري على أرض الواقع وما سيسطره التاريخ أو منافياً له.

في حرب غزة التي أطفأت شمعتها الأولى، وفي القلب من اتساع رقعة الصراع لتشمل جبهات إضافية في لبنان وأيضاً سوريا والعراق، وبالطبع إيران واليمن على الهامش وأحياناً في المتن، خرجت جيوش المحللين من كل فج عميق. خرجوا خروجاً غير مسبوق، لا من جهة الدور، ولكن من جهة العدد وتضارب التوجهات وتصارع الأجندات وتناقض النتائج، وعلى رأسها إعلان المنتصر والخاسر.

جيوش المحللين

جيوش المحللين والمنظرين والمفسرين لما يجري على ساحات الصراع، وجحافل المنجمين العسكريين والاستراتيجيين ممن يطلون عبر الشاشات على مدى اليوم مؤكدين أن سيناريوهات بعينها ستسود وخرائط من دون غيرها سترسم ومصائر واضحة المعالم ستكون نتاج المعارك ستفرض نفسها على المنطقة والعالم، هي سمة من سمات حرب القطاع العابرة للحدود.

صار المحللون العسكريون والاستراتيجيون، ومعهم متخصصو سياسات الشرق الأوسط، والباحثون في شؤون الإسلام السياسي والجماعات المسلحة وإسرائيل وإيران و"حزب الله" والحوثيين وحروب الوكالة، وبالطبع الاقتصاد والطاقة والذكاء الاصطناعي وغيرها، نجوم الحرب على الشاشات بأنواعها.

وكما هي الحال في أوقات الحروب والصراعات الكبرى، لا سيما ذات المحتوى الأيديولوجي والمكون الديني يجد البعض في هذه الجيوش نفسه مضطراً أو موافقاً أو راغباً في التحليل المسيس والتفسير المؤدلج، وبالطبع تقييم الحرب والتنبؤ باسم المنتصر في ضوء مصالح دول من دون شرط التقيد بمجريات الواقع.

حرب عصابات

الواقع في حرب غزة المتمددة يميل إلى أن يكون ترجمة فعلية لما كتبه الفيلسوف وعراب الإعلام والسياسة الكندي مارشال ماكلوهان في عام 1970 في كتابه الشهير "الثقافة هي عملنا". قال إن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرب عصابات، لكن على صعيد المعلومات، ولن تفصل بين المشاركة المدنية والعسكرية.

على غالب الشاشات - التلفزيونية المملوكة لمؤسسات والمستقلة متباينة الأحجام ومختلفة المرجعيات بين فردية ومؤسسية - يختلط حابل التحليل والتوقع العسكري والاستراتيجي والسياسي بناءً على معطيات من الواقع وقياسات علمية وخبرات مهنية، بنابل الآراء والتوجهات والانتماءات التي ترتدي ملابس التحليل العسكري والتفسير الاستراتيجي.

وهذا أيضاً يشبه ما أشار إليه المؤلفان الأميركيان المتخصصان في حروب المعلومات والجرائم جون أركويلا وديفيد رونفيلد في كتابهما "الشبكات والحروب الشبكية: مستقبل الإرهاب والجريمة والقتال" (2001)، إذ أشارا إلى أن مجريات ونتائج الصراعات تعتمد بصورة متزايدة على المعلومات والاتصال، وأن أعداداً متزايدة من الصراعات باتت تعتمد على المعرفة واستخدام القوة الناعمة والقدرة على "بث" المعلومات.

وذكرا كذلك أن الخصوم أصبحوا يركزون على عمليات المعلومات وإدارة التصورات، وذلك بهدف جذب الرأي العام وإرباكه ربما، بدلاً من عمليات الإكراه أو المباشرة. وسلطا الضوء على غاية تحقيق الاضطراب النفسي لدى المتلقي، لا سيما من الجبهة المضادة، وهي الغاية التي لا تقل أهمية عن إلحاق التدمير المادي أو الجسدي به.

انتصار ساحق

خروج ممثلين ومتحدثين وقادة ومسؤولي الأطراف المتناحرة منذ اليوم التالي للعملية التي قامت بها "حماس" السابع من أكتوبر 2023 ليعلنوا ويؤكدوا ويحسموا اسم المنتصر مثل ظاهرة غريبة ضاعت في خضم الأحداث الجسام.

بعد أيام معدودة، وربما ساعات من عملية "طوفان الأقصى"، تسابق متخصصون ومحللون ومعلقون، معظمهم على شاشات عربية وإيرانية وتركية وروسية وعدد من الدول الإسلامية، إضافة إلى من يتيسر ظهورهم على شاشات غربية، لتأكيد "الانتصار الساحق للمقاومة" و"امتلاء شوارع غزة بجثث الجنود الإسرائيليين" و"آلام غزة تتحول آمالاً بالانتصار" و"الرعب والخوف يسيطران على جنود جيش الاحتلال" و"رجال المقاومة لعبوا بجنود الاحتلال" و"’حماس‘ تحقق انتصاراً مبهراً".

البروباغندا للجميع

في الوقت نفسه، وعلى رغم أن شاشات غربية وكذلك إسرائيلية لم تنخرط في تحديد المنتصر والمنهزم مبكراً، فإن عديداً منها انخرط في "صناعة" واقع خبري وأجواء تحليلية تؤدي إلى محصلة مشابهة تتنبأ بالنصر والهزيمة، لكن مع تبديل الاسمين.

 

اليوم، وبعد مرور عام على الحرب وتوسع رقعة الصراع ودخول الوكلاء على خط القتال وتمدد الجبهات لخارج غزة، وبمتابعة المحتوى الإعلامي بجناحيه التقليدي المؤسسي بمنصاته المختلفة، والجديد المستقل بتطبيقاته المتعددة، يمكن القول إن حروب البروباغندا وصراعات المعلومات والمعلومات المضادة التي كانت في السابق حكراً واختصاصاً يقتصر على الدول والجيوش وأجهزة الاستخبارات أصبحت اليوم متاحة ومستخدمة من قبل الأفراد، وكذلك مؤسسات، منها إعلامية تشارك في صناعة البروباغندا والترويج لها وبثها ونشرها.

عمليات البث والانتشار لا تقف عند حدود أخبار الحرب، وعدادات القتلى والمصابين وقياسات مقدار تخريب البنى التحتية وعدد الكيلومترات التي قطعتها الصواريخ وحجم الأنفاق التي تم اكتشافها وغيرها، لكنها تمتد لتشمل بث وانتشار التحليلات والتفسيرات والتنبؤات، ومنها ما يصنعه "متخصصون"، ثم يؤدي مهمتي النشر والتأكيد والتهليل، أو النشر والنفي والتنديد مستخدمون "متخصصون" أو متبرعون على منصات الـ"سوشيال ميديا".

الأسئلة لا تتوقف

اللافت في هذه الحرب هو حجم الأسئلة التي يطرحها الناس في شتى أرجاء الأرض على أثير مواقع وفي إطار التعليق على موضوعات ومقالات رأي، إضافة إلى مجموعات الدردشة والنقاش العنكبوتية، وذلك للاستفسار عن الجهة التي يتوقع لها الانتصار. والغريب أن "الجهات" المتحاربة التي يجري السؤال عنها لم تعد فقط ثنائي "حماس" وإسرائيل، بل تحوي إيران والحوثيين و"حزب الله"، والقائمة تتسع.

 "من ينتصر في هذه الحرب؟ إسرائيل أم ’حماس‘؟"، "إسرائيل أم ’حزب الله‘؟" "إسرائيل أم الحوثيون؟" "إسرائيل أم الفصائل المسلحة؟"، "لماذا تبدو انتصارات إسرائيل منقوصة دائماً؟"، "هل يمكن لـ’حماس‘ حقاً أن تنتصر؟"، "هل يمكن للجيش الإسرائيلي أن يحقق انتصارات عسكرية تكتيكية لكن يقف عاجزاً أمام إلحاق هزيمة استراتيجية بـ’حماس‘؟"، "هل يمكن لـ’حماس‘ أن تنتصر عبر إيران ووكلائها؟"، "هل يمكن أن تدخل إسرائيل في مواجهة مباشرة مع إيران بدلاً من ’حماس‘؟" والأسئلة لا تنتهي.

كلاهما منتصر

لكن ما ينتهي إليه المشهد المعلوماتي والتحليلي السائد حالياً على أنواع الأثير المختلفة هو أن كلا الطرفين، وكذلك الوكلاء والمندوبون، يعتقد أو يقول أو يروج بأنه المنتصر.

على مدى أشهر القتال، وبصورة متزايدة في الأسابيع القليلة الماضية، قادة "حماس" والمتحدثون باسمها وكذلك "حزب الله" و"الحوثيون" وغيرهم يؤكدون عبر الشاشات أن "حماس" تنتصر، سواء بالتأكيد الصريح "حماس تنتصر" أو التحليل الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى ترجيح انتصارها. كذلك تفعل إسرائيل ووكلاؤها وداعموها والمتحدثون باسمها.

"إسرائيل و’حماس‘ تخدعان نفسيهما"، "يعتقد كلاهما أنه يفوز، لكن كليهما موعود بصحوة قاسية" تحت هذين العنوانين كتب الباحث في معهد دول الخليج العربي في واشنطن حسين أبيش في "ذو أتلانتيك" (2024) أنه "بعد مرور عام على هجوم ’حماس‘ على جنوب إسرائيل، يعتقد الجانبان أنهما ينتصران"، مشيراً إلى أن "الحرب في غزة مهيأة للاستمرار إلى أجل غير مسمى وربما تتوسع، مما يبعث على السرور الواضح لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزعيم ’حماس‘ يحيى السنوار".

ودعا أبيش كلاً منهما إلى عمل مسح وحساب للخراب والدمار في المنطقة، ثم توقع ما تحمله الأيام المظلمة المقبلة، مرجحاً أن كلاً منهما يظن أنه يلعب لعبة طويلة معقدة، وأن الآخر سيخسرها حتماً.

ويقول إن "حماس" تحملت الضربات في غزة، ويبدو أنها واثقة من أنها ستتولى في نهاية المطاف القيادة الوطنية الفلسطينية. وبناء على المعلومات والحقائق ذاتها، تعتقد إسرائيل أنها ردت بصورة حاسمة على مهندسي هجمات أكتوبر 2023، وأفقدت "حماس" أهميتها تماماً، وليس فقط مجرد كونها مصدر إزعاج بين الحين والآخر في غزة.

ويرى أبيش أنه "عاجلاً وليس آجلاً، سيشعر الفلسطينيون بالاستياء من تهور ’حماس‘ الوحشي، الذي أدى إلى إراقة مزيد من الدماء الفلسطينية حتى مقارنة بكارثة عام 1948"، وذلك في إشارة إلى الأضرار الكبيرة التي نجمت عن الحرب في غزة.

أضرار للطرفين

وعلى عكس كثير من المعلقين والمحللين، يرى أبيش أن عملية السابع من أكتوبر 2023 ألحقت أضراراً جمة بالطرفين: ألحقت أضراراً لا تحصى بالحركة الوطنية الفلسطينية واحتمالات إقامة دولة فلسطينية. كما أن إسرائيل ستستيقظ على الأرجح على وقع حقائق موجعة، منها مثلاً احتمال هرولة إيران صوب التسليح النووي، في إطار الرد على ما لحق بـ"حزب الله".

ويخلص أبيش إلى أنه بعد مرور عام على عملية السابع من أكتوبر 2023 تعتقد كل من "حماس" وإسرائيل أن الأحداث تسير في اتجاه مصلحتها. ويضيف أن ما تبقى من فهم لمقولة "كن حذراً في ما ترغب فيه" (أي فكر ملياً في ما تعتقد أنك تريده بشدة وأنه خير لك لأنه ربما يكون وبالاً عليك) هو أكبر ضحايا عملية السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها.

 

غالب الظن أن المعلومة الموثقة والخبر الموضوعي والتحليل بناءً على علم وواقع ومنطق، لا حلم وافتراض وخيال، هي أكبر ضحايا الصراع الحالي.

خبراء عصاميون

عمداء الركن ورجال جيوش ومتخصصون عسكريون - إما عصاميون صنعوا خبراتهم بأنفسهم وقدموا أنفسهم لمنصات إعلامية باعتبارهم خيرة المتخصصين وأعتى الاختصاصيين أو اعتبرتهم قنوات فضائية كذلك - أصبحوا على مدى عام من حرب القطاع أشهر من قادة جيوش حاليين، ووجبة يومية ينهل منها الرأي العام مآلات الحرب ومسارات الصراع.

وبين متخصص في الشأن العسكري يدمج شرح تكتيكات الهجمات وضربات الصواريخ مع تحليل لكلمة أبو عبيدة معتبراً إياها أعظم ما قيل في تاريخ الحروب، وآخر يشرح عمل المسيرات ويتكهن بمستقبل الضربات، النووي منها والجوي وكذلك الدفاعي والاستباقي مع دمج مفصل لـ"نبوءة أشعياء" وحتمية إقامة إسرائيل الكبرى بحسب "سفر التكوين"، وثالث تحول على هامش الحرب من لاعب كرة قدم معتزل إلى محلل استراتيجي حيناً وعراف عسكري حيناً، وأمام تعجب البعض من هذه الخلطة الفريدة يقول على شاشة تلفزيونية: "إحنا مش بتوع كرة بس. إحنا بتوع كله. دورنا ليس فقط نخبرك أن الكرة دخلت الشبكة، وأن الكرة خرجت من الشبكة. هناك قضايا أهم. الكرة ليست كرة فقط الآن. الكرة أشياء أخرى. واللي زعلان (غاضب)، إطفي (أغلق)!"، لم تعد فوضى التحليل حكراً على عالم الـ"سوشيال ميديا" ومتخصصيه الذين صنعوا علمهم بأنفسهم وبنوا خبراتهم بمعزل عن الدراسة والتأهل والتدريب، واعتمدوا على "الترند" والمتابعين والمشتركين ومفعلي الجرس، بل اقتحمت بعض الشاشات وغزت جانباً من المواقع الصحافية، وأصبح في مقدور الجميع الإعلان عن المنتصرين والتنويه عن المنهزمين، بينما الحرب تدور والصراع يحتدم ورقعته تتمدد، وفي القلب منها تنظير الخبراء وتحليل العارفين ببواطن الأمور، أو من يقولون عن أنفسهم إنهم عارفون.

حرب التأثير

معلومات دعم العمليات العسكرية، جهود الإعلام والاتصال في الحروب والصراعات، عمليات معلوماتية وتحليلية، جيل جديد من الحروب، بروباغندا وطنية، حرب التأثير وغيرها كثير من تسميات الحرب الإعلامية - سواء التقليدية التابعة لمؤسسات أو الجديدة التي يشارك فيها أفراد – تشكل جزءاً كبيراً من وعي الجماهير في الصراع الدائر في المنطقة.

لم يعد الأمر نشر أخبار كاذبة، أو فبركة صور وفيديوهات لم تحدث، أو تهويلاً لأداء طرف وتهوين الطرف الآخر فحسب، بل تطور الأمر إلى تعريف الانتصار وتحديد المنتصر، وهي المهام التي يتم تدريسها في كليات الحرب وفنون القتال، ويسطرها مؤرخون وعلماء في كتب التاريخ، وتحتفي بها الأمم المنتصرة بعد إعلانها ويحمل أوزارها المنهزمون.

اللافت أن بعضهم يقوم بهذه المهام، لا للتأثير سلباً في الروح المعنوية للعدو، أو للتأثير إيجاباً في الأحوال المعنوية في الداخل، لكن على اعتبار أن النصر مسألة جدلية يكسبها الأكثر قدرة على النقاش أو أمر يتحقق بالإيحاء.

تحت عنوان "الحرب السياسية والبروباغندا"، يشير المؤلف أستاذ علم الجريمة والعدالة جيمس فورست في ورقة منشورة على موقع جامعة سلاح البحرية الأميركية (فرجينيا) (2021) إلى أن تحديد تعريف وهوية العدوان والمهاجمين والأهداف والمدافعين والتكتيكات والاستراتيجيات والأهداف والفائزين والخاسرين والضحايا الأبرياء، مهمة لم تعد الدول فقط التي تقوم بها، إذ تنخرط جهات أخرى غير حكومية فيها بصورة متزايدة.

يسميها فورست "حرب التأثير" وهي الحرب التي لا يكون التركيز فيها على المعلومات، لكن على الغرض من هذه المعلومات.

الصراع يتمدد على الأرض، لكن تمدد الأثير يسبقه بمراحل، فيغذي الواقع تارة ويعزز الخيال تارة أخرى، ويحدد المنتصر قبل أن تنتهي المعركة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات