Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لا يستعجل بوتين تحرير كورسك رغم اعتباره "واجبا مقدسا"؟

يقول مراقبون إن كلفة احتفاظ القوات الأوكرانية للشهر الثالث على التوالي بالأراضي الروسية التي توغلت فيها عالية جداً

بوتين خلال ترؤسه اجتماعاً لمتابعة الوضع في كورسك، بمقر إقامته في نوفو-أوغاريوفو خارج موسكوـ في 12 أغسطس الماضي (أ ف ب)

ملخص

ضرب الهجوم الأوكراني الرواية الروسية القائلة إن القوات المسلحة الأوكرانية على وشك الانهيار. كما أن حقيقة أن الدبابات الألمانية (الفهود) تعجن تربة كورسك السوداء مرة أخرى، تركت انطباعاً قوياً لدى الجمهور الروسي وكذلك لدى الجيوش الأجنبية وفي أوكرانيا.

مر أكثر من شهرين على توغل الجيش الأوكراني في مقاطعة كورسك الروسية الحدودية، وما زالت القيادة العسكرية السياسية الروسية تتوعد بطرد الغزاة وتحرير هذه الأراضي التي لها رمزية كبيرة في الذاكرة الشعبية، نظراً إلى المعارك الحاسمة التي دارت فيها مع الجيش الألماني الغازي في الحرب العالمية الثانية، لكن حتى الآن لم تكرس روسيا كل قواتها المتاحة لـ"إطفاء الحريق" في منطقة كورسك، كما كان مأمولاً لأسباب نحاول استكشافها والإضاءة عليها.

بعدما أرسل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في السادس من أغسطس (آب) الماضي، كل احتياطاته الجاهزة لاقتحام منطقة كورسك في الاتحاد الروسي، طرح كثير من الخبراء روايات مختلفة في ما يتعلق بأهداف هذه العملية. فذكر بعضهم أن الجيش الأوكراني كان يعتزم الاستيلاء على محطة كورسك للطاقة النووية، ووصف آخرون الغزو بأنه "مغامرة إعلامية" أو محاولة لإرغام موسكو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتخلي عن شروطها لإنهاء الحرب.
في الوقت نفسه، تم الحديث عن أن هذا التوغل جاء بإيعاز غربي-أطلسي يلاقي رغبة قيادة القوات المسلحة الأوكرانية في سحب جزء من وحدات القوات المسلحة الروسية إلى اتجاه كورسك للدفاع عنها، من أجل تخفيف ضغط القوات الروسية وتقدمها في منطقة دونباس الأوكرانية، حيث تراجعت قوات كييف بصورة منهجية في الآونة الأخيرة وتكبدت خسائر كارثية.
وسرت إشاعات في روسيا أن الرئيس فلاديمير بوتين كلّف الجيش مهمة تحرير منطقة كورسك بحلول عيد ميلاده في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، لكن وزير الدفاع أندريه بيلوسوف شكك على الفور في جدوى تحقيق هذا الهدف وتبين أنه كان على حق، وتكتب عن ذلك قناة "الكرملين سنوف بوكس" الروسية على "تيليغرام نقلاً عن مصادر في وزارة الدفاع والإدارة الرئاسية الروسية.
وتتابع "الرئيس بالطبع منزعج. على الأرجح لن تكون هناك تحركات مفاجئة في الوقت الحالي. لكنه سأل بالفعل، بما أنه لم يكُن من الممكن تقديم هدية له في عيد ميلاده، فهل سيحصل على هدية على شكل منطقة كورسك للعام الجديد في الأقل؟". وقال مصدر عام مقرب من الرئيس الروسي إنه "يأمل في أن ينجح كل شيء خلال هذا الإطار الزمني".

لماذا "لا تستعجل" السلطات الروسية شن هجوم مضاد شامل لتحرير منطقة كورسك؟ وماذا تنتظر؟ وما الهدف الذي يصبو إليه بوتين من وراء ذلك؟، على رغم اعتباره أن تحرير الأجزاء المحتلة من مقاطعة كورسك مسألة شرف عسكري وكرامة وطنية.

رؤية الكرملين

وفقاً لما أبلغه مصدر رفيع في الكرملين لـ"اندبندنت عربية"، فإن الهدف الاستراتيجي للقيادة الروسية اليوم هو فرض سيطرة كاملة على أراضي منطقة دونيتسك التي يطلق عليها الكرملين تسمية "جمهورية دونيتسك الديمقراطية الشعبية"، مما  سيؤدي في النهاية إلى انهيار الحكومة والقوة الأوكرانية، ويجبر كييف على التفاوض وفق شروط موسكو، وليس وفقاً للإملاءات الغربية والأطلسية.
ونتيجة لذلك، سيتعين على القوات المسلحة الأوكرانية مغادرة الأراضي المحتلة في منطقة كورسك من دون قتال، مما سيسمح للسلطات الروسية بتجنب سيناريو الدمار واسع النطاق والمعارك الحضرية.
وبحسب هذا المصدر، لا يوجد ذعر خاص في موسكو حيال الوضع في منطقة كورسك، ولا يعتقد بوتين بأن الهجوم الأوكراني له تأثير كبير في حساباته الاستراتيجية الأوسع.
وعما إذا كانت روسيا تمتلك ما يكفي من القوات لاحتواء القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة كورسك، يجيب مصدر الكرملين أن موسكو لن تنجر إلى الضغط الممارس وتسحب قواتها من الجبهة الأوكرانية، من أجل شن هجوم شامل وكاسح على القوات الأوكرانية التي توغلت في مقاطعة كورسك، كما أنها لن تلجأ إلى عملية تعبئة ثانية في البلاد من أجل حشد القوة التي تؤهل الجيش لإخراج الأوكرانيين من الأراضي الروسية في القريب العاجل، وهي لا تستعجل تدمير البلدات والقرى التي يحتلها الجيش الأوكراني لأن عليها أن تعيد إعمارها بعد انتهاء الحرب.
ويؤكد هذا المصدر أن الكرملين كلف الجيش الروسي مهمة طرد القوات الأوكرانية من منطقة كورسك الروسية من دون أن يحدد مهلة زمنية له لتنفيذ ذلك، شرط ألا تؤثر هذه العملية في التقدم المطّرد الذي تحرزه القوات الروسية على جبهة دونباس، لا سيما في مقاطعة دونيتسك الحيوية.
وبحسب مصادر غير رسمية، كُلفت القوات الروسية طرد الجيش الأوكراني من منطقة كورسك بحلول نهاية العام الحالي، أي خلال شهرين ونصف الشهر.
وكذلك وجهت الأوامر إلى الجيش بإنشاء "منطقة عازلة" في المناطق الحدودية الأوكرانية في شمال شرقي أوكرانيا بحلول نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل.

التوقعات الغربية

ما مدى جدوى هذا؟، وفقاً للمعهد الأميركي لدراسة الحرب (ISW)، فمن غير المرجح أن يحقق الجيش الروسي هذه النتيجة التي وصفها المعهد بأنها "مهمة كبيرة" لمثل هذه الفترة القصيرة من الزمن.
وشنت القوات الروسية هجوماً مضاداً داخل الجزء الأوكراني البارز، وهو جزء من الأراضي الروسية استولت عليه القوات الأوكرانية منذ بدء المعارك والذي أصبح مسرحاً للعمليات العسكرية في المنطقة، بدءاً من العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي تقريباً.

وبعد أيام قليلة من بدء الهجوم الروسي المضاد، عبرت القوات الأوكرانية الحدود الروسية في منطقة أخرى، على بعد نحو 30 كيلومتراً غرب الموقع الرئيس.
واعتبرت هذه العملية بمثابة تكرار للاجتياح عبر الحدود في السادس من أغسطس (آب) الماضي، وعلى رغم صغر حجمها، إلا أنه يمكن أن تكون لها تأثيرات كبيرة.
وتظهر لقطات تحديد الموقع الجغرافي أن القوات الأوكرانية تقدمت أخيراً قليلاً شرق بلدة فيسيلي، غرب النتوء الرئيس. وإذا واصلوا محاولتهم تجاوز فيسيلوي وضرب غلوشكوفو على الفور، فقد يسمح لهم ذلك بتثبيت مجموعة الجيش الروسي أمام حاجز طبيعي هو نهر سيم.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال التوجه شرقاً وإلى الشمال الشرقي نحو النتوء الرئيس ومحاولة الارتباط بالقوات الأوكرانية هناك، وفي هذه الحالة ستكون القوات الأوكرانية قادرة على محاصرة وعزل آلاف الجنود الروس.


ماذا تريد أوكرانيا وروسيا في كورسك؟

وقال المعهد الأميركي إنه منذ أن شنت القوات الروسية هجمات مضادة داخل منطقة التوغل الأوكراني الرئيسة، فإنها لم تشن بعد أعمالاً عدائية واسعة النطاق من شأنها أن تشير إلى هجوم مضاد منسق يهدف إلى طرد القوات الأوكرانية بالكامل من المنطقة.
وأوضح المركز البحثي أنه للقيام بعمليات هجوم مضاد متواصل في منطقة كورسك، ستحتاج القوات الروسية إلى نقل قوات إضافية من أوكرانيا وإرسال قوات جديدة من روسيا إلى المنطقة بدلاً من الخطوط الأمامية في أوكرانيا، وقد تحتاج القوات الأوكرانية أيضاً إلى قوات إضافية إذا واصلت التقدم في منطقة كورسك.
وفي حين أن القوات الأوكرانية لم تسيطر بعد على جميع المناطق الواقعة في المنطقة، فإنها وفقاً لتقديرات معهد دراسة الحرب، أعدت بلا شك مواقع في بعض المناطق من شأنها أن تسبب مشكلات لأي هجوم روسي مضاد.
ولا شك في أن روسيا تتمتع بالقوة الكافية، وهناك تقارير تفيد بأنه قد يتم إرسال المجندين الذين يتم استدعاؤهم للخدمة الإلزامية إلى هناك، وهذا لا يتعارض مع الوعد بعدم مشاركة هؤلاء المجندين الأغرار في عمليات القوات على الجبهة الأوكرانية، إذ نتحدث هنا بالفعل عن الدفاع عن الوطن الأم بالمعنى الحرفي للكلمة، وسيتعين عليهم تنفيذ المهمات القتالية التي كانوا مستعدين لها طوال هذا الوقت.

وبالطبع لن يدفعهم بوتين إلى الخطوط الأمامية، بل  سيؤدون بعض وظائف الإمداد والأمن ويقفون ويفحصون المستندات عند نقاط التفتيش ويصدون هجمات الدرونات ويزرعون الألغام ويطهرون المنطقة... أي إنهم يفعلون الشيء نفسه الذي فعلوه من قبل في مناطق بيلغورود وبريانسك ومناطق كورسك ذاتها.

هل تستطيع أوكرانيا الصمود في كورسك؟

تسيطر القوات المسلحة الأوكرانية على رأس جسر واسع النطاق في منطقة كورسك منذ قرابة ثلاثة أشهر، وأفادت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية نقلاً عن مصادر أميركية مطلعة أن الجيش الأوكراني قادر على الاحتفاظ بالأراضي المحتلة في منطقة كورسك لأشهر أخرى عدة في الأقل، ووفقاً لتقييمهم، فإن القوات المسلحة الأوكرانية لم تواجه بعد مشكلات لوجستية خطرة هناك في ما يتعلق بإمداد وحداتها.
وتخضع منطقة كورسك لسيطرة القوات المسلحة الأوكرانية منذ أكثر من شهرين، وهناك قليل جداً من الأخبار الواردة من هناك، ففي الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري، أعلنت وزارة الدفاع الروسية للمرة الأولى منذ فترة طويلة تحرير بلدتين في المنطقة.
ووفقاً للسلطات الأوكرانية، احتلت القوات الأوكرانية نحو مئة بلدة وقرية في منطقة كورسك منذ بداية الهجوم (السادس من أغسطس)، تمكن الجيش الروسي من "استعادة" نحو 40 منها، والآن تجري في المنطقة معارك موضعية بصورة رئيسة. وتتجاوز المساحة الإجمالية للمناطق التي لا تسيطر عليها روسيا ألف كيلومتر مربع، تضم نحو 44 بلدة ومدينة. ومن بين المستوطنات التي استولت عليها القوات المسلحة الأوكرانية المركز الإقليمي لسودجا، حيث توجد محطة توزيع الغاز التي يمر عبرها الغاز إلى أوكرانيا وبعدها إلى الدول الأوروبية.

وقال الممثل الرسمي لوزارة الخارجية الأوكرانية جورجي تيخي في مؤتمر صحافي إن "أوكرانيا ليست مهتمة بالاستيلاء على أراضي منطقة كورسك... هذه التصرفات التي تقوم بها أوكرانيا مشروعة تماماً"، ووفقاً لمعهد دراسة الحرب، تسيطر أوكرانيا على ما لا يقل عن 800 كيلومتر مربع من منطقة كورسك.
لكن وفقاً للقائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية ألكسندر سيرسكي، فإن قوات بلاده تسيطر على ما يقارب ألف كيلومتر مربع، وهو ما أعلنه في اجتماع مع زيلينسكي.
وفي خطاب إلى مواطنيه، قال زيلينسكي إن الهجوم عبر الحدود ليس سوى "مسألة أمنية" و"تحرير المنطقة الحدودية" التي شن منها الجيش الروسي هجماته على منطقة سومي في أوكرانيا.
وبغض النظر عما يحدث لاحقاً لهذه المناطق، فإن عملية القوات المسلحة الأوكرانية يمكن أن تصبح إحدى اللحظات الرئيسة في مفاوضات السلام الافتراضية، بحسب ما كتبت مجلة "فورين بوليسي"، وإضافة إلى ذلك، يشير المنشور إلى أن تصرفات الجيش الأوكراني أظهرت مرة أخرى عدم اتساق "الخطوط الحمراء" التي رسمها الكرملين والتهديدات الصادرة عنه في ما يتعلق بانتهاك هذه الخطوط.
واعتبر كاتبو المقالة في مجلة "فورين بوليسي" أن الهجوم على منطقة كورسك سمح لكييف بالحصول على ورقة مساومة قوية في مفاوضات السلام المستقبلية مع موسكو حول شروط إنهاء الحرب، وصحيح أن الرئيس زيلينسكي ينفي أن القيادة الأوكرانية سعت إلى تحقيق هذا الهدف عند التخطيط لعملية قواته داخل الأراضي الروسية.
ووصف بوتين بدوره في المنتدى الاقتصادي الشرقي، تحرير منطقة كورسك بأنه "واجب مقدس" على القوات المسلحة للبلاد تنفيذه، ومع ذلك كما يظهر الوضع الحقيقي في ساحة المعركة، فإن أولوية الجيش الروسي تظل الهجوم في دونباس حيث اعترفت المجموعة العملياتية الاستراتيجية للقوات المسلحة الأوكرانية بانسحاب الجيش الأوكراني من أوغليدار في الثاني من أكتوبر الجاري. وبحسب ممثلي الوحدة فإن القيادة العليا للجيش الأوكراني أعطت الإذن بسحب العسكريين من المدينة للحفاظ على الأفراد والمعدات العسكرية.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية الاستيلاء على أوغليدار في الثالث من أكتوبر الجاري.
إذا أخذنا في الاعتبار المزايا الاستراتيجية التي يمكن أن يمنحها نجاح عملية القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة كورسك لكييف، فهي واضحة، لكن بحسب تقدير الخبراء فإن أصابع اليد الواحدة تكفي لإحصاء النجاحات العسكرية الأوكرانية. نعم، تمكنت قوات أوكرانية مطعّمة بمتطوعين أجانب من الاستيلاء على جزء كبير من أراضي منطقة كورسك والاحتفاظ بها حتى الآن (باستثناء عدد قليل من البلدات)، وهزيمة تلك الوحدات الروسية التي غطت الحدود، واعتقال عدد كبير من الأسرى العسكريين والمدنيين. وفي الواقع، هذا هو المكان الذي تنتهي فيه النتائج العسكرية، لكن لسوء حظ كييف لم ترَ موسكو أنه من الضروري اللجوء إلى سحب موارد كبيرة من الجيش الروسي وتخفيف الضغط على دونباس لمواجهة الهجوم الأوكراني.

آراء الخبراء

عالم السياسة في المركز الأوكراني للأبحاث الاقتصادية والسياسية الذي يحمل اسم "ألكسندر رازومكوف" يعتبر أن تواني روسيا عن تحرير أراضيها يرجع إلى عدم قدرة القيادة العسكرية والسياسية العليا في روسيا على الاستجابة بصورة صحيحة لموقف حرج، ووفقاً له، حتى الآن لم يقدم الكرملين تقييماً كافياً لما يحدث.
ويضيف أنه "على رغم مرور أشهر بالفعل على بدء العملية التي قامت بها القوات المسلحة الأوكرانية، إلا أن هذا وقت أكثر من كافٍ" لاسترجاعها، لذلك يواصل بوتين محاولة التقليل من أهمية العملية الأوكرانية. فهو يسمي ذلك "استفزازاً ووضعاً" لا شيء آخر، ولا يعتبره حتى اجتياحاً للقوات الأجنبية واحتلالاً للأراضي الروسية".

وصرح الخبير العسكري الأوكراني أليكسي ميلنيك بأنه "لا يوجد تقييم مناسب ولا حلول واضحة، ومن أين سيأتي؟، وفي اليوم الثالث للعملية، أُعلنت حال الطوارئ في منطقة كورسك. على رغم أنني أذكّركم بأن هذه عمليات عسكرية وليست فيضانات أو كوارث طبيعية أخرى. والخطوة التالية هي إدخال نظام سي تي أو CTO (عملية مكافحة الإرهاب). بداية، أدى ذلك إلى توسيع حقوق القوات الأمنية وتقييد حقوق المواطنين. كان هذا رد فعل الحكومة الروسية على التهديد العسكري المباشر. وهذا مثال واضح على استخدام أداة غير كافية لحل المشكلات. ففي الواقع، لم يكن بعض الإرهابيين أو مجموعات التخريب والاستطلاع هم الذين عبروا الحدود، ولكن تم تنفيذ عملية أسلحة مشتركة. ومن هنا تأتي فاعلية الإجراءات التي نلاحظها الآن. كل شيء طبيعي".

وأظهر التقرير الذي قدمه رئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف إلى بوتين عند بدء التوغل الأوكراني، أن ليست لديه سيطرة على الإطلاق على الوضع، أو أنه معتاد على الكذب الصريح. ويمضغ القائد الأعلى بوتين شفتيه في حال من الاستياء، لكنه يومئ برأسه بالموافقة. وكان الاجتماع الأخير مختلفاً تماماً، إذ بدأ القائم بأعمال حاكم منطقة كورسك بإبلاغ الرئيس بالوضع الحقيقي، وعندما بدأ المسؤول يتحدث عن تقدم القوات المسلحة الأوكرانية والبلدات التي احتلتها، قام على الفور بمقاطعته. بوتين لا يريد سماع أخبار سيئة. حسناً، إذا كنت لا تريد معرفة الحقيقة، مهما كانت، فلا تتوقع الحلول المناسبة.
الخبير العسكري ديفيد شارب أشار إلى أن الجيش الروسي الآن إما ليست لديه احتياطات تشغيلية في الاحتياط يمكن أخذها على الفور ومن دون ألم ونقلها إلى كورسك، أو يتم الاحتفاظ بهذه الاحتياطات "ليوم ممطر"، وقال "لم نتمكن من سحب (من الأمام) سوى وحدات على مستوى الكتيبة. إنه خليط، من دون هيكل قيادة مناسب، وهو يتصرف وفقاً لذلك. ولهذا السبب يوجد هذا العدد من الأسرى والخسائر وحالات إطلاق النار الصديقة عندما يطلق شعبنا النار على شعبنا".
إن الأسباب التي جعلت القوات المسلحة الروسية غير قادرة على دفع القوات المسلحة الأوكرانية إلى ما وراء حدود الدولة بعد أشهر هي أسباب موضوعية بدورها. وفي تقييمه، لم يكن الجانب الروسي مستعداً تماماً للهجوم الأوكراني، مما لا يزال ينعكس حتى اليوم.
علاوة على ذلك، فإن هذا لا يعني فقط عدم استعداد أولئك الذين وقفوا في خطوط الدفاع الأولى للمقاومة، بل لعدم قدرتهم على ذلك. ولم يكُن لدى الجيش الروسي أي احتياطات قابلة للمناورة يمكنها الدخول بسرعة في المعركة. وإلى جانب ذلك، استعد الأوكرانيون بعناية فائقة للعملية التي كان أحد أهم مكوناتها المفاجأة العملياتية التكتيكية، فحدث كل شيء بصورة غير متوقعة تماماً بالنسبة إلى الجيش الروسي، ولم تكن لدى قيادته أية فكرة عن أي شيء حتى النهاية. وبناء على ذلك، عملت الخطة الأوكرانية كالساعة ويبدو أنها تواصل العمل بالروح نفسها.
وساعدت كذلك في نجاح القوات المسلحة الأوكرانية حقيقة أن القيادة الأوكرانية ظلت صامتة في شأن العملية لفترة طويلة، وأكد ديفيد شارب أنه "لذلك كان هناك ذعر وسوء تقدير وفهم في المعسكر الروسي لما كان يحدث. لكن العامل الرئيس هو نقص الاحتياطات. وتنتشر جميع القوات الرئيسة في الجبهة. ليس من قبيل الصدفة أن يقوموا اليوم بتجنيد أي شخص تقريباً في الجيش الروسي، بما في ذلك المجرمون والمتهمون والمواطنون من آسيا الوسطى. هناك نقص كارثي في البشر، وهذا لا يمكن إخفاؤه. يتم إلقاء كل شيء في أتون الحرب من أجل تحقيق النجاح في الاتجاهات الرئيسة، وتتم حراسة حدود الدولة على أساس مجندين ومتطوعين غير مدربين بصورة جيدة".
الوضع على جبهة كورسك يستقر تدريجاً. ولم تعُد الوتيرة السابقة لتقدم القوات المسلحة الأوكرانية مرئية. صحيح أننا ما زلنا لا نعرف بالضبط خطط كييف، ماذا وأين وكيف؟، لأن المعلومات غالباً ما تكون مجتزأة للغاية. وليس من الواضح تماماً خط المواجهة هناك، ومن ناحية أخرى، يتم نقل التعزيزات الروسية تدريجاً إلى منطقة كورسك. ولا يزال من السابق لأوانه التكهن بكيفية تطور الوضع. ولكن من يملك المبادرة بين يديه يملك الأفضلية.

تعليقات خبراء أميركيين

الباحث الكبير في مؤسسة "راند كوربوريشين" الفكرية وسفير الولايات المتحدة السابق لدى جورجيا وكازاخستان ويليام كورتني يعتبر أن "عملية توغل القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية حققت نجاحاً مذهلاً، تماماً مثل تحرير أوكرانيا لمعظم منطقة خاركيف في سبتمبر 2022". ويضيف أن "أساس هذه العملية أولاً هو خدعة عسكرية واسعة النطاق، كانت عبارة عن تمويه شامل لحشد قوات التدخل السريع الأوكرانية قرب الحدود، وثانياً استهانة روسيا بإمكانات أوكرانيا الهجومية". وأوضح السفير الأميركي السابق أن كييف استفادت من الانطباع الخاطئ الذي تركته موسكو بعد الهجوم المضاد الأوكراني الفاشل عام 2023.

مايكل بيترسون، عالم الأبحاث الرئيس في الدراسات العسكرية الروسية في "أس أن أ"، وهي منظمة أبحاث وتحليلات غير ربحية مقرها واشنطن، يعتقد بأن أحد العوامل التي تؤثر في نجاح أوكرانيا أن روسيا "اتخذت خطوات هجومية كبيرة للغاية" وخطوات قليلة خلال العامين الماضيين للدفاع عن أراضيها من اجتياح كبير، فكان الجيش الروسي أكثر استعداداً للدفاع عن الأراضي التي استولى عليها في أوكرانيا.

وأضاف أن "الأمر ليس واضحاً، إما أن موسكو لم تتوقع ذلك، أو أنها رأت إعادة انتشار القوات الأوكرانية وتوصلت إلى استنتاج مفاده بأنها لا تشكل تهديداً خطراً"، موضحاً أنه "إضافة إلى ذلك، يبدو أن الجيش الأوكراني قاتل في البداية حرس الحدود الروس ومجندين سيئي التدريب وعديمي الخبرة".
ويرى الدكتور بول بي ستارز، والجنرال جون دبليو فيسي، زميل أول لمنع الصراعات ومدير مركز العمل الوقائي في مجلس العلاقات الخارجية أن موسكو كانت واثقة من أن "القوات الأوكرانية التي كانت منتشرة للغاية على طول خط الجبهة غير قادرة على تنفيذ مثل هذه العملية الهجومية الكبيرة في روسيا"، وأضافا أنه "للسبب نفسه، كان عدد ونوعية القوات الروسية التي تدافع عن الحدود في كورسك منخفضاً نسبياً".
وأشاد مايكل بيترسون بالقوات المسلحة الأوكرانية لاستخدامها الماهر للحرب الإلكترونية والطائرات من دون طيار لقطع اتصالات العدو، وكذلك "للضربات الدقيقة التي دمر بها الجيش الأوكراني أصول الاستطلاع والمراقبة البرية والجوية للقوات المسلحة الروسية".
ووفقاً لبول ستارز، فإن اختراق القوات المسلحة الأوكرانية لروسيا يمكن أن تكون له مزايا إضافية أخرى، من بينها إيقاع خسائر أكبر في صفوف الجيش الروسي إذا حاولت روسيا استعادة الأراضي المحتلة بالقوة العسكرية.
ومع ذلك، أشار المحلل السياسي العسكري من مؤسسة "راند" ويليام كورتني أيضاً إلى المشكلات المهمة التي قد تنشأ بالنسبة إلى القوات المسلحة الأوكرانية، وقال إن "قرار أوكرانيا بالاحتفاظ بالأراضي في منطقة كورسك إلى أجل غير مسمى يمكن أن يقيد قواتها العسكرية الكبيرة ويؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف الجنود الأوكرانيين مع تحريك روسيا لتعزيزات من أجل شن هجوم مضاد. وفي مرحلة ما أيضاً، قد يرغب الجيش الأوكراني في إجراء ’فك الارتباط تحت النار‘ من أجل إنقاذ حياة الجنود وأقصى قدر من المعدات". وأوضح كورتني، وهو مشارك سابق في مفاوضات نزع السلاح السوفياتية- الأميركية أن "الانسحاب تحت النار يمكن أن يكون مناورة عسكرية معقدة للغاية".

ويعتقد مايكل بيترسون من المركز الأميركي للتحليل البحري بأن القوات المسلحة الأوكرانية قد تواجه "مشكلات لوجستية نموذجية لمثل هذه العمليات"، قائلاً "إذا لم تكُن أوكرانيا قادرة بعد على الحفاظ على خطوط المواجهة، فإن درجة اختراقها ستكون محدودة وربما تنخفض. إضافة إلى ذلك، إذا واصلت القوات الروسية هجومها في دونباس، فقد يجبر ذلك أوكرانيا على إعادة توزيع الموارد".

 ويتابع أنه "يبدو من المشكوك فيه أن تكون أوكرانيا قادرة على الصمود في وجه هذه العملية، بالنظر إلى الحاجات الأخرى للقوات المسلحة الأوكرانية في الشرق والجنوب، حيث تواصل القوات الروسية هجومها".
قد يكون نجاح عملية كورسك عابراً، لكنه ربما أدى إلى تحسين الحال المزاجية للشعب الأوكراني، ومع ذلك من المشكوك فيه أن تخفف العملية من الضغط العسكري الذي تشعر به أوكرانيا في مناطق أخرى. ويقول بول ستارز إن "أمام روسيا فرصاً عدة لصد تقدم القوات الأوكرانية من دون تحويل كثير من الموارد من جبهات أخرى".

"لسوء الحظ، لن يكون لهذا الغزو كثير من الآفاق العسكرية إذا أرسلت روسيا تعزيزات كافية"، بحسب كورتني من مؤسسة "راند" الذي أضاف أنه "من وجهة نظر سياسية، تم تحقيق النتيجة بالفعل، إن الهجوم الأوكراني على كورسك أذلّ بوتين ونظامه، وقد يضعف الدعم لسياساته العسكرية".
وإن الرواية التي اعتمد عليها بوتين منذ بدء الحرب هي أن "القوات الأوكرانية ضعيفة وغير فاعلة وعلى وشك الانهيار"، لكن قتالها في الميدان وهجومها على مقاطعة كورسك أثبتا عقم هذه المقولة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الكلمة الفصل للميدان

ربما تم تنفيذ الاختراق الأوكراني للآراضي الروسية بمساعدة أحد أجهزة الاستخبارات الغربية، إذ كان الدفاع الروسي أقل استعداداً لصد هجوم ميكانيكي قوي نسبياً. ويبدو أنه، انطلاقاً من المناوشات على الحدود، أرادوا أيضاً دخول منطقة بيلغورود، لكن الأمر لم ينجح هناك على الإطلاق، لذلك تحولت القوات المسلحة الأوكرانية تماماً إلى كورسك.
من الواضح الآن أن التعزيزات الروسية التي يتم حشدها قرب  كورسك، تم نقلها من قطاعات أخرى من الجبهة، حيث كانت شدة العمليات العسكرية أقل. لكن هذا لم يؤثر بعد بصورة جذرية واستراتيجية في توازن الحرب، لكن الهجوم الأوكراني ضرب بالتأكيد الرواية الروسية القائلة إن القوات المسلحة الأوكرانية على وشك الانهيار. كما أن حقيقة أن الدبابات الألمانية (الفهود) تعجن تربة كورسك السوداء مرة أخرى قد تركت انطباعاً قوياً لدى الجمهور الروسي وكذلك لدى الجيوش الأجنبية وفي أوكرانيا. لكن كلفة احتفاظ القوات المسلحة الأوكرانية للشهر الثالث على التوالي بالأراضي الروسية التي توغلت فيها عالية جداً لأنها اضطرت إلى إهدار احتياطاتها العسكرية من عديد وعتاد، بينما الوضع في دونباس قريب حقاً من الحرج.

عدا عن ذلك، فإن الوقت بدأ يعمل ضد أوكرانيا هناك، حيث تفقد كييف المدن، واحدة تلو الأخرى في دونيتسك، إذ استولى الجيش الروسي على مناطق كبيرة في فترة قصيرة من الزمن، وفكرة استخدام العملية كورقة مساومة في محادثات السلام تبدو إشكالية. ويمكن لبوتين، من خلال الاستيلاء على الضفة اليسرى لأوكرانيا، أن يستمر في غض الطرف عن حقيقة أن جزءاً من أراضي منطقة كورسك يقع تحت السيطرة الأوكرانية.

والنتيجة هي تبادل غير متكافئ للغاية، ففقدت أوكرانيا كثيراً من مدنها ذات الأهمية الاستراتيجية في دونباس للحفاظ على خط المواجهة في كورسك، بما في ذلك أوغليدار، وهناك خطر فقدان آخر مصادر فحم الكوك، مما يعني أن صناعة المعادن الأوكرانية ستتوقف ببساطة. وإذا قمت بوزن عشرات القرى الروسية التي تم الاستيلاء عليها قرب كورسك والخسائر المتكبدة في دونباس، فإن الإجابة في ما يتعلق بفاعلية هجوم القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة كورسك واضحة، وهناك مخاوف من أن تنتقل نجاحات الجيش الروسي في اتجاه بوكروفسكي من التكتيكية إلى العملياتية، والجيش الأوكراني يفهم جيداً ما يتهدده من جراء هذا.

وفي الوقت ذاته، لا يستبعد المحللون أن تستمر العملية في منطقة كورسك حتى الشتاء، فقريباً ستبدأ الأمطار الغزيرة وستكون العمليات الهجومية النشطة من قبل أي من الجانبين صعبة، بادئ ذي بدء بسبب العوائق اللوجستية لأن كل شيء هنا مرتبط بالطرق المعبدة، ولذلك فإن مثل هذا السيناريو محتمل جداً، مما سيجعل بوتين متوتراً لأنه وعد بتحرير الأراضي المحتلة بحلول الخريف، لكنه لن يؤدي إلى أي تقدم سياسي داخلي في روسيا، أو إلى تغيير في مسار الكرملين.

نعم، من خلال هذه العملية قام الأوكرانيون بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعتهم وروحهم المعنوية التي كانت على شفا الانهيار، لكن هذه العملية لم تصبح نقطة تحول بعد، فجزء كبير من الوحدات الروسية التي يتم حشدها في منطقة كورسك هي ألوية من قوات الاحتياط، أو من جبهتي خاركوف وزابوروجي، كما يقول الخبير العسكري يان ماتفييف، ويضيف أن "الجيش الروسي تمكن من الحفاظ على قوته في الاتجاهات الرئيسة، بما في ذلك بوكروفسكي. بالتالي فإن هدف تخفيف الضغط هناك لم يتحقق"، وعلاوة على ذلك، يعتقد كثير من الخبراء بأن الوحدات الأوكرانية المرسلة إلى منطقة كورسك كان من الممكن أن توقف الهجمات الروسية في منطقة دونيتسك، ولكن بدلاً من ذلك استولت قوات بوتين على جزء كبير من أراضي أوكرانيا، أكثر من 1500 كيلومتر مربع.

ويؤكد ماتفييف أن "أوكرانيا لديها ورقة رابحة قوية في شكل الأراضي الروسية التي تم الاستيلاء عليها والتي يمكن أن تصبح موضوع مساومة إذا جرت المفاوضات. ومع ذلك، لا تنبغي المبالغة في أهميتها بالنسبة إلى بوتين. ومن المرجح أن تستمر جبهة كورسك لفترة طويلة، لكن لا يعتقد أحد بأن القوات المسلحة الأوكرانية ستكون قادرة على استبدال هذه الأراضي بشيء مهم".
وفي الوقت نفسه، أضرّ الاستيلاء على الأراضي الروسية بالتأكيد بكبرياء بوتين على نحو كبير، ولقد خصصت السلطات الروسية بالفعل قوات كبيرة لتحرير منطقة كورسك. إنهم يفهمون جيداً أنه في الحرب لا شيء يحدث من تلقاء نفسه، لكن يبدو أنهم لا يعتبرونها أيضاً نوعاً من الأزمة. ويبدو أن بوتين يعتقد بأن قواته ستعمل تدريجاً على إخراج القوات المسلحة الأوكرانية من منطقة كورسك، ويبدو أنه بصورة عامة لا يحاول تسريع إنهاء الحرب.
وقال السياسي الروسي المعارض فلاديمير كارا مورزا الذي أُطلق سراحه أخيراً من السجن نتيجة لعملية تبادل السجناء، إن الوضع في منطقة كورسك "إهانة علنية لبوتين ونظامه". ووفقاً لمورزا أيضاً، من المهم تذكير الروس بأن المعتدي الذي بدأ حرباً ضد دولة مجاورة هو المسؤول عنها بطريقة أو بأخرى.


العاصفة!

في الوقت الراهن، من الواضح أن الهدوء المريب على حدود منطقة كورسك الذي ساد خلال الأشهر الأخيرة، سيتحول قريباً إلى عاصفة، ومن الواضح لماذا لم يفكر أحد من القيادة العسكرية السياسية الأوكرانية أن الهدف الأساسي لبوتين هو استكمال السيطرة على منطقة دونباس قبل الارتداد لتصفية الحساب في مقاطعة كورسك.
لم تلجأ روسيا إلى سحب وحدات جيشها من دونباس ونقلها لطرد العدو في منطقة كورسك، وقد يبدو هذا جميلاً، كما هي الحال في لعبة كمبيوتر استراتيجية، لكن أي رجل عسكري سيؤكد أنه لن يوقف أحد جيشاً شن هجومه على جبهة واسعة وحقق النجاح في نفس اتجاه بوكروفسك وينقله إلى كورسك، حتى لو أن الأمر بدا حزيناً بالنسبة إلى سكان منطقة كورسك. لذلك، فإن التوقعات الأوكرانية بأن توقف روسيا هجومها في دونباس لصد التوغل في كورسك هي توقعات غير صحيحة ولا يعتمد عليها غير الهواة.

تتصرف هيئة الأركان العامة الروسية الآن بهدوء شديد، من دون ذعر، وفي رأيي، أنها صحيحة تماماً. الوضع، كما يقولون، صعب، ولكن يمكن التحكم فيه لأننا لم نشهد خلال الأيام الأخيرة أي تطور ملحوظ في هجوم القوات الأوكرانية في كورسك.

ووفقاً لخريطة النيران، أصبح من الواضح أن هدف القوات الأوكرانية الرئيس لا يزال المركزين الإقليميين في كورينيفو وريلسك، ويكشف لنا هذان الاتجاهان عن الخطة الأولية للقوات المسلحة الأوكرانية، السيطرة الكاملة على سودجا واحتلال كورينيفو وريلسك الذي بدوره سيمكنها من الوصول إلى كورتشاتوف، فحتى الآن يتم تنفيذ هذه الخطة الخاصة بعناد شديد ويتم إلقاء الاحتياطات باستمرار في أتون الهجوم.
والأسبوع الماضي قامت القوات المسلحة الأوكرانية بعملية تبديل واسعة، فسحبت قوات العمليات الخاصة من سودجا التي كانت هناك منذ بداية التوغل، وأدخلت مجموعات كتائب جديدة هناك، بما في ذلك مشاة البحرية من رأس الجسر الأوكراني السابق في كرينكي على الضفة اليسرى لنهر الدنيبر.
أما بالنسبة إلى الجيش الروسي، فهناك تركيز واضح على التحول من الوضع الدفاعي إلى وضع هجومي. في الواقع، يتم تنفيذ السيناريو نفسه الذي شهدناه خلال الهجوم المضاد للقوات المسلحة الأوكرانية في منطقة زابوروجي. إنهم يتخذون مواقع مريحة قدر الإمكان ويبدأون بتدمير معدات القوات المهاجمة في محاولة لتحييدها بمساعدة المدفعية والطيران وقطع إمداد القوات الأوكرانية الجديدة بالذخيرة والسلاح.

وستكون هناك معارك مماثلة لتلك التي دارت قرب بيرديتشي في منطقة بوكروفسكي في مقاطعة دونيتسك في دونباس، عندما كسب الجيش الروسي الوقت، بالتالي فقده الأوكراني الذي دافع عن هذه المدينة لأشهر عدة.
ومن الواضح أن الأوكرانيين يشهدون دفعة نفسية من القتال على الأراضي الروسية، هناك نشوة حقيقية تبرز على الأرض، حيث يتجول ضباط الجيش الأوكراني حول سودجا ويقوم جنودهم بهدم نصب تذكاري للينين، وما إلى ذلك.

ومع ذلك، وراء كل هذا الضجيج المعلوماتي، هناك محاولات لإنشاء مركز دفاع في سودجا، وتظهر الخرائط بناء الخنادق في سفيردليكوفو بمنطقة سودجتنسكي التابعة للمركز الإقليمي ذاته، ويشير هذا بوضوح إلى أنه إذا لم يشن الجيش الروسي هجومه خلال شهرين، فسيحتفظون ببساطة بسودجا حتى النهاية، كما فعلوا في حالة كرينكي على الضفة اليسرى لنهر الدنيبر.
سيكون الجيش الأوكراني قادراً على الحفاظ على الدفاع في منطقة كورسك لفترة معينة، إذ منحهم الاستيلاء على سودجا الوقت للحصول على موطئ قدم هناك، لكن القوات المسلحة الأوكرانية ليست لديها أية نقاط أخرى من هذا القبيل هناك. والآن المهمة الأكثر أهمية بالنسبة إلى روسيا هي الاحتفاظ بكورينيفو، حتى لا تمنح الأوكرانيين رأس جسر آخر من هذا القبيل.
وليست لدى القوات المسلحة الأوكرانية احتياطات أخرى غير تلك التي تقاتل حالياً في منطقة كورسك. ربما جلس سيرسكي وغيره من الضباط ذوي الأكتاف العريضة وقدّروا تقريباً، لدينا هناك في كورسك من 11 إلى 20 ألف مقاتل. وكان يمكن إرسالهم إلى بوكروفسك لكسر ضغط القوات الروسية المتقدمة، ووقف الاختراق قرب أوشيريتينو ونيويورك. ولكن إلى متى ستكون كافية؟.
نعم، هذا العدد من المقاتلين كان كافياً لوقف التقدم السريع للجيش الروسي وفرض معارك تالية، وكان من الممكن أن يستمر هذا الوضع طوال شهرين، لكنه كان سينتهي في آخر العام، مما يعني أنهم سيكسبون الوقت وسيكونون قادرين على الحفاظ على الجبهة في الاتجاه التشغيلي بدونيتسك لمدة تزيد على ثلاثة أو أربعة أشهر.

ومن وجهة نظر عسكرية، كان هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله، لكن الموقف النفسي السلبي الذي نشأ بين الشركاء الغربيين وداخل أوكرانيا لم يكُن من الممكن عكسه. كيف يمكن تبرير الحاجة إلى الحصول على أسلحة جديدة، وكيف يمكن تبرير تعبئة الناس في الحافلات ومن ثم نقلهم إلى الجبهة؟.

من الواضح أن زيلينسكي كان وما زال على استعداد لمقايضة مدينة كبرى مقابل دفعة عابرة في المعنويات وأسلحة غربية جديدة وتمويل.

الحرب والسلام

إن ما يحدث الآن ينفي تماماً كل الجهود الهادفة إلى إنهاء الصراع، بغض النظر عن الشروط، ولقد ضاع وقت وجهود الشركاء الغربيين، وكذلك جهود بيلاروس والصين والإمارات.

كتبت صحيفة "واشنطن بوست" عن اتفاق بين أوكرانيا وروسيا كان يعتزم وفداهما بموجبه الاجتماع في الدوحة في أغسطس الماضي والتفاوض على إنهاء الهجمات على منشآت البنية التحتية للطاقة في الأقل من الجانبين، وستكون هذه خطوة كبيرة نحو السلام والاستقرار، في الأقل ستتوقف معاناة السكان المدنيين، والآن تم إحباط هذه المبادرة.

الانتقام طبق يُفضَل أن يقدَم بارداً، ولم تهاجم روسيا نظام الطاقة الأوكراني في الآونة الأخيرة، لكن لكي يحدث الانهيار فيها يكفي تعطيل عدد معين من المحطات الفرعية بقدرة 750 كيلووات، وهذا كل شيء. الوضع يتغير بصورة كبيرة. إن هذه الورقة الرابحة بين يدي بوتين سيستخدمها حين يبدأ الهجوم لتحرير كورسك، مما يدل على كثير، وقبل كل شيء على الرغبة في الانتقام.
تكتب وسائل الإعلام الأجنبية، نقلاً عن مصادرها، أن الجيش الروسي بدأ نقل تعزيزات كبيرة إلى كورسك.
وقال الخبير العسكري العقيد الاحتياطي بيوتر تشيرنيك إن روسيا يجب أن تجمع مجموعة تضم ما لا يقل عن 30 إلى 40 ألف عسكري من أجل الفوز في منطقة كورسك، وفي الواقع، يمثل هذا 10 في المئة من مجموعة الجيش الروسي بأكملها في أوكرانيا.

ويوضح تشيرنيك أن عدد الأفراد العسكريين الروس في منطقة كورسك يجب أن يكون أكبر بثلاث إلى أربع مرات من عدد المجموعة الأوكرانية، ويرجع ذلك إلى حقيقة أنه من المرجح أن يضطر الروس إلى مهاجمة الخطوط الدفاعية المجهزة من قبل الأوكرانيين.

وبحسب تشيرنيك، فإن الكرملين سيكون قادراً على جذب مزيد من الاحتياطات من مجموعة قوات الشمال التي تقاتل حالياً في منطقة خاركوف، وقد يصل تعدادها إلى 75 ألف فرد، وبدأ بالفعل نقل كتائب منها لأن هذا القسم من الجبهة هو الأقرب جغرافياً إلى منطقة كورسك.
وبالنظر إلى حقيقة أن وحدات من مجموعة واحدة من القوات الروسية، وهي "الشمال"، تعمل في منطقتي كورسك وخاركوف، فمن المنطقي أن يتم نقل احتياطاتها في المقام الأول إلى كورسك.
وبالتزامن تكتب وسائل الإعلام الغربية، نقلاً عن مصادر، أن الكرملين لا يمكنه حل معضلة التوغل الأوكراني في كورسك في نفس الوقت الذي يدفع قواته إلى التقدم في دونباس، إلا من خلال الإعلان عن موجة جديدة من التعبئة، وتشير "بلومبيرغ" إلى أن بوتين قد يتخذ هذا القرار قبل نهاية العام الحالي.

ولم يعلق الكرملين رسمياً بعد على هذه المعلومات، وتنفي لجنة الدفاع في مجلس النواب (الدوما) هذه الخطط.
وفي الوقت ذاته، فإن الجيش الروسي غير متأكد من أنه سيتم تحرير منطقة كورسك قبل نهاية العام، ويقول إن هناك توقعات مختلفة للغاية، وبصورة عامة "سيكون لدينا الوقت لتسوية الأمور مع منطقة كورسك".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات