Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أين تقع "إيثاكا" مدينة "يوليسيس" في إلياذة هوميروس؟

هل كان صاحب الملحمة الإغريقية الكبرى حقاً في الموقع الرئيس لحكاية بطله؟

"يوليسيس" في تمثال يعود إلى الفترة الرومانية (الموسوعة البريطانية)

ملخص

مدينة إيثاكا التي تحدث عنها هوميروس معروفة في العالم أجمع وكثر من الشعراء كتبوا عنها ومن أعظمهم شاعر القرن الـ20 باللغة اليونانية قسطنطين كفافيس، لكن اللغز أن إيثاكا التي يصف هوميروس تضاريسها بالتفاصيل لا وجود لها في المكان الذي يحدده، وبخاصة أنها يفترض أن تكون جزيرة

منذ الزمن الذي انتشرت فيه، ولا سيما منذ العصر الإغريقي، ملحمة هوميروس الكبرى المؤلفة من قسميها، الإلياذة والأوديسة، وثمة في تاريخ الأدب لغز يتعلق بالموقع الجغرافي الحقيقي لتلك المدينة الشهيرة في تاريخ هذا النوع من الأدب العميق والعريق، مدينة إيثاكا التي كان بطل الإلياذة يوليسيس ملكها، والذي بعد سنوات من غيبته للمشاركة في حروب طروادة عاد إليها ليجد امرأته بينيلوبي، وقد اعتقدت أنه قد مات تستعد مكرهة لاختيار بديل له في حياتها من بين عدد كبير من طالبي ودها. للوهلة الأولى لا يبدو واضحاً أين هو اللغز في ذلك كله. فالمدينة معروفة في العالم أجمع وكثر من الشعراء كتبوا عنها ومن أعظمهم شاعر القرن الـ20 باللغة اليونانية قسطنطين كفافيس الذي كرس لها قصيدة حاكاه واستطرده فيها شعراء آخرون بينهم عرب. كما سار على خطاه في ذكرها سينمائيون ورسامون. إذاً؟ ببساطة يكمن اللغز في أن إيثاكا التي يتحدث عنها هوميروس ويصف تضاريسها بالتفاصيل لا وجود لها في المكان الذي يحدده، وبخاصة أن إيثاكا الهوميرية يفترض أن تكون جزيرة.

غرب الجزر اليونانية

والحقيقة أنه لئن كان ثمة في غرب الجزر اليونانية موقع بحمل بالتحديد اسماً يبدو شديد القرب في لفظه من اسم إيثاكا فإن المشكل الأساس هنا يكمن في أن الموقع ليس شبه جزيرة كما يذكر هوميروس مرات عديدة في ملحمته، بل هو جزيرة تحيط بها المياه من كل جانب إلى درجة أن الموضوع كله يبدو عابقاً بالتناقض بالنظر إلى أن كون إيثاكا شبه جزيرة يلعب دوراً أساساً في الملحمة، وهو دور لا يمكن لخلو المدينة من أي ارتباط بري أن يلعبه. ونعرف أن ذلك هو اللغز الذي شغل الباحثين والعلماء وحتى القراء الأكثر نباهة. ومن هنا عكف كثر منهم على دراسة الموضوع من جوانبه كافة دون أن يساعدهم ذلك على الوصول إلى نتيجة. وفي الأقل بالنسبة إلى علماء كبار أمضوا سنوات في البحث والتحليل سائرين في معظمهم على خطى سترابون الذي عاش بعد هوميروس بألف عام واهتم بالموضوع اهتماماً شديداً، لكنه وباعترافه عجز عن الوصول إلى نتيجة حاسمة، مثله في ذلك مثل معظم الذين بحثوا في الموضوع.

دقة توصيف

ولعل اللافت هنا هو أن كل هؤلاء العلماء توافقوا على دقة توصيف صاحب الملحمة لطوبوغرافية الأماكن والمواقع، إذ لم يصعب عليهم تحديد معظمها بالنسبة إلى خرائط المناطق كما هي حالياً، لكنهم وكما حال سترابون وقفوا عاجزين معترفين بأن المواصفات التي استرسل هوميروس في وضعها قد تعني مدناً وأماكن تمتد احتمالات وجودها في منطقة تبدأ من أوكرانيا لتصل إلى أقصى غرب اسكتلندا. ومن هنا كف معظمهم عن المجالات التي لم يكن نادراً لها أن تغيب حتى القرن الـ20. وبالتحديد حتى تدخل في الأمر رجل أعمال وليس رجل علم كانت ميزته الأولى أنه يعشق ثلاثة أشياء، بلاد الإغريق والقراءة وملحمة هوميروس. ولما كان الرجل ثريا ولديه كثير من أوقات الفراغ انصرف منذ عام 2003 إلى الاهتمام عملياً بالموضوع من الناحيتين التاريخية الفيلولوجية واجداً من الضروري له أن يضيف بضعة علوم أخرى إلى تلك العلوم التي يفهم فيها. اسم الرجل روبرت بيتلستون وهو بريطاني لم يحتج إلى أكثر من سنتين حتى أصدر كتاباً عنوانه "إفلات يوليسيس من قيوده". وفي البداية حين لفت الرجل الأنظار إلى كتابه زاعماً أنه قد وصل فيه إلى حل اللغز العويص، سخر منه كثر معتبرينه نصاباً دخيلاً على العلم يبتغي مكسباً ما، لكن كثراً منهم ما أن قرأوا الكتاب حتى انبهروا. كان ما أبهرهم بساطة الحل الذي توصل إليه ذلك "العالم الهاوي"، بل قال كثر منهم: يا للدهشة لقد كان اللغز محلولاً أمام أبصارنا فكيف لم ننتبه إليه؟

منطقة شاسعة

ولعل ما يمكننا أن نفتتح به هنا الحديث عما توصل إليه بيتلستون هو أنه رصد منذ البداية في منطقة فسيحة تضم كثيراً من الجزر على امتداد بلاد اليونان، بل حتى وصولاً إلى صقلية التي كانت حينها تعد جزءاً من اليونان، مدناً عديدة تحمل أسماء شديدة القرب من إيثاكا، لكن من بينها واحدة تسمى تحديداً إيتاكي تقع قرب مدينة سيفالونيا لها ملحق يدعى برزخ بيكالي هو في زمننا الحاضر شبه جزيرة ما يحول دون اعتباره بيئة جزيرة ومع ذلك أعاد الباحث المغامر قراءة توصيف هوميروس لمدينة إيثاكا مرات ومرات ليجد عند كل قراءة كم أن مواصفات الشاعر تكاد تنطبق أكثر وأكثر على شبه الجزيرة المعروفة البوم باسم بيكالي وسأل نفسه: فماذا لو كانت هي في الماضي إيثاكا الحقيقية، لكن مع مرور الزمن تبدلت طبوغرافية المكان، مما جعلها تصبح جزءاً من البيئة المحيطة لتحمل اسماً مختلفاً وتنفرد بيئة المدينة المجاورة بالاسم القديم الذي كان اسماً لمدينة أخرى؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اعتراض بارز

ذلكم هو في الحقيقة السؤال الأساس، لكن الاعتراض عليه سهل، وفحواه أن ما يحدث في التاريخ على صعيد التقلبات، ولا سيما في المناطق البحرية، حيث تكثر الجزر هو عكس ما كان ينبغي أن يحدث هنا: تنحفر عادة التربة لتتحول أشباه الجزر إلى جزر. لكن هنا حدث العكس: تحولت الجزيرة إلى شبه جزيرة، وطبعاً من دون أن يعرف هوميروس عن ذلك شيئاً، ولما كان سترابون من الأدباء الذين لا يعلمون بشؤون العلم ولم يلاحظ أن علماء كثراً من قبله "أجمعوا" على أمر مختصره أن إيثاكا يمكن أن تكون في وسط ما يسمى اليوم الدردنيل، كما يمكن أن تكون أكثر إلى الشرق من البحر الأيوني، لم يدقق كثيراً. أما بيتلستون ففعل وكانت النتيجة أنه "أعاد" إلى يوليسيس مملكته ومدينته. والحقيقة أن تحليل بيتلستون يبدو مقنعاً بحيث يمكن القول إنه بات التحليل السائد منذ نحو 20 سنة.

علماء الجيولوجيا

والأهم من هذا أن قدرة منطق الباحث الطريف على الإقناع بلغت أن كثراً من علماء الجيولوجيا تابعوا خطواته مستندين إلى علمهم وقد استبد بهم فضول يتعلق بمعرفة ما إذا كانت تلك المنطقة من العالم قد عرفت تحديداً في تلك الحقبة انقلابات جوهرية في المناطق البرية، مما أدى إلى تحول الجزيرة إلى شبه جزيرة، وكانت النتيجة إيجابية: نعم، لقد حدث قبل زمن سترابون نفسه بنحو 100 سنة أن زلازل عديدة قد ضربت المنطقة تلك بالتحديد وأدت إلى خلق ما سيعرف، ويا لغرابة هذا الأمر وهذه التسمية، بانجراف سترابون وهو انجراف قيل علمياً إنه أدى إلى حدوث تبدلات جوهرية في طوبوغرافية المنطقة برمتها وربما كان من نتيجة ذلك أن توصيفات هوميروس باتت تبدو مخطئة في زمننا هذا. مع أن شاعر الإغريق الكبير لم يخطئ، لكن المكان والزمان تغيرا.

أدلة أثرية

مهما يكن وكأن ذلك كله لم يكن كافياً، لا بد أن نذكر في خاتمة هذه الحكاية التي تجمع بين طرافة الفضول لدى من يعدون هواة وبين عناد المنقبين أمراً آخر كان لا بد له أن يجعل ختامها مسك. هو ما أفادت به الأخبار التي أتت من اليونان نفسها، لكن بعد سنوات من صدور الكتاب الذي حرر يوليسيس من قيوده، وهو أن بعثة تنقيب عن الآثار توجهت إلى بيكالي وقد صارت شبه جزيرة لتعثر في عمق برها وبين تراكم تربتها على مجموعة عمرانية مدهشة تضم في ما تضم قصراً تدل بقاياه على أنه يمكن أن يكون قصر الملك لايرتيس، ناهيك بوجود ما يدل غير بعيد منه على أنه كان ثمة في المكان مزرعة قد تكون هي نفسها مزرعة الخنازير التي عاش فيها يوليسيس بعد عودته وقبل أن يخوض معركته المظفرة ويكشف عن هويته الحقيقية في الخاتمة السعيدة لكآبته ومغامرته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة