Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 بول أوستر يواجه معضلة الهوية ووحشة أميركا

"مستر فرتيغو" تروي مرحلة الأزمة الاقتصادية الكبرى وتنامي الحركات العنصرية المتطرفة

الروائي بول أوستر (جامعة كولومبيا)

ملخص

يعد بول أوستر (1947-2024) من أبرز الروائيين الأميركيين الجدد، والأكثر شهرة في العالم من حيث ترجماته إلى لغات حية، ليس للأساليب الروائية المتجددة دوماً فحسب، بل أيضاً بسبب القضايا والمسائل التي تقارب أو تتماس مع الرؤى الفلسفية المعاصرة، وتمس جوهر الوضع الإنساني، لا سيما كينونة الإنسان الفردية وعلاقاته وتخبطه في صلاته بالآخر ومشكلات انتمائه وهويته وتبعاتها على حياته، كما في رواية "مستر فرتيغو" الصادرة بترجمتها العربية حديثاً.

يضع بول أوستر أحداث روايته "مستر فرتيغو" (ترجمة مالك سليمان، دار الساقي 2024) في أميركا عام 1927، أي قبيل الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929)، وتنامي الحركات العنصرية المتطرفة (كلوكس كلان)، في مقابل يقظة الأقلية الملونة (السوداء) وتنامي الوعي بمظلوميتها وانضوائها في الحراك المطلبي العنفي والسلمي الذي يبلغ مداه في ستينيات القرن الـ20. وعلى أي حال تنتهي وقائع الرواية عام 1993، إذ يقرر الراوي فيها والشخصية الرئيسة فيها ويدعى "والت" أن يدون مذكراته. أما أول المسرح المكاني في الرواية فهو مدينة ويشيتا في الكنساس، ويمتد إلى أوروبا لزمن قصير، ثم ينتهي في الولايات المتحدة الأميركية. وكان الفتى اليتيم الأب، منذ ولادته، قد تخلى ذووه عنه وأوكلت تربية والت إلى عمه الشرير "ياهودا" وعمته التي لم تكن أقل منه عنفاً وفتكاً. ولما بلغ التاسعة تفلت الفتى من قبضة عميه، وتلقطه بالصدفة رجل يدعى ياهودا فتعهده ورباه ووعده بأن يعلمه الطيران والمشي على وجه المياه. ومضى به إلى مزرعة في سيبولا، قريباً من مدينة ويشيتا في الكنساس.

وهناك تعرف إلى امرأة شابة من أصول هندية تدعى الماما سيو، وكان زوجها الأبيض يعنفها، فأقامها ياهودي لديه إلى جانب طفل أسود آخر يدعى إيزوب، كانت أمه توفيت وهي تلده. وكان ياهوداي قد تعهد، بدوره لهذا الطفل أن يعلمه ويدخله الجامعة على رغم عاهاته الخلقية، أن يوفر له الكتب اللازمة لتثقيفه. ولئن أفلح ياهودي في الأمر وأرسل إيزوب إلى جامعة يال فإن أفراداً من عصبة الكوكلوكس كلان العنصرية المتطرفة عمدوا إلى اختطافه مع الماما سيو، الهندية الأميركية الأصل، وقتلوهما على نحو عنيف للغاية.

عندئذ، قرر ياهودا ووالت الفرار من ذلك المكان، والمضي للعيش لدى السيدة ويذرسبون، وهي إحدى صديقات المعلم، ومن هناك عزما على القيام بجولة عبر الولايات المتحدة.

والت العجيب

ولم تمضِ أعوام قليلة حتى تمكن الفتى والت، وبتمرين قاس من معلمه ياهودا من الارتقاء بجسمه عن الأرض بضع سنتمترات، تشبهاً بدعاة اليوغا الهنود أو ببعض مجربي التملص من الجاذبية، حتى بلوغه عشرات السنتيمترات، في خطوات ثابتة نحو الطيران استرفاعاً للجسم. ولئن كانت ظاهرة الطيران أو الارتقاء بالجسم هذه لا تزال علامة على قدسية بعض رجال الدين والأتقياء منهم، من أمثال تريز دافيلا (1515-1582) وبادري بيو (1887-1968) وجوزيف دو كوبرتينو (1602-1665)، فإن الكاتب أوستر، هاهنا، ينسبها إلى محض التملص من الجاذبية عبر التمارين المتواصلة، على غرار مقاربة المجتمع العلمي لها، منذ ما يقارب الـ200 عام. وأياً يكن الأمر فقد لقي والت العجيب كثيراً من الترحاب والدهشة من قبل حشود المتفرجين ونال من ذلك المال الوفير، هو ومعلمه ياهودا ولكن النعمة لم تدم لهما، إذ تصدى لهما نفر من اللصوص بينما كانا في طريقهما إلى كاليفورنيا، كان بينهم سليم، خال والت، وأفراد عصابته، وسرقوا أموالهما بقوة السلاح، وأصابت رصاصة المعلم ياهودا في كتفه اليمنى وأصابت أخرى إطار السيارة. ولما كانت إصابة ياهودا بليغة، والأخير ضائقاً بها، أوعز إلى والت أن يميته بطلقة من مسدسه فيريحه منها. ولم ينفع امتناع والت من تحقيق مطلب ياهودا إذ غافله الأخير وعاجل نفسه بطلقة الرحمة المميتة.

الثأر والتحول

لم يركن والت لمقتل ياهودا، معلمه ومنقذه من الضياع، وإنما مضى باحثاً عن عمه السارق والقاتل، ثلاثة أعوام متواصلة، إلى أن تمكن من بلوغه في مدينة "روكفور" بولاية إيلينوي. وتحقق له ذلك، ذات يوم، في مخزن للصلب، إذ كان يعمل خاله سليم، إذ أوهمه بأنه يسكب له الحليب في كوبه، في حين كان قد خلطه بالسم، فما إن شربه حتى وقع صريعاً.

 ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، ذلك أن مسلك الثأر، ومعاشرة الأشرار، على ما جرى لوالت، سيطبعان أعماله وانخراطه في أعمال جرمية إلى جانب عصابات التهريب غير الشرعي، وألعاب الميسر وغيرها، إلى أن صار زعيماً لمكتب لليانصيب المحلي وسوق المراهنات، حتى عام 1936. إلى أن تحصل المعجزة، ويربح والت جائزة مقدارها 40 ألف دولار، ويفتتح بفضلها ملهى ليلياً سماه "مستر فرتيغو" في مدينة شيكاغو. وفي الأثناء يتعرف والت إلى أهم شخصية في رياضة البايسبول يدعى ديزي دين ويصيران صديقين، إلا أن رهان الأول على البطل الرياضي يخيب، بعد إصابته، فيسعى إلى قتله. غير أن مسعاه يخيب ويحكم عليه بالسجن. ويخير بين أن يظل سجيناً أو ينخرط في صفوف الجيش المحارب في الحرب العالمية الثانية، فيختار المشاركة في الحرب.

ولدى عودته سالماً منها، يستقر في نيآرك حيث يتزوج مولي، ويقضيان معاً نحواً من 28 عاماً، تتوفى على إثرها بمرض السرطان، ويعيش من بعدها فترة من عدم الاستقرار النفسي والإدمان. ويعود بعدها إلى الإقامة لدى السيدة العجوز ويثرسبون حتى وفاتها. وتنتهي الرواية عند قرار الراوي كتابة مذكراته في عام 1992-1993.

فلسفة الهوية

لا جدال في دوائر النقد الغربية والعربية ذات الاهتمام الفكري والنقدي أن أعمال بول أوستر الروائية ذات أبعاد فكرية وفلسفية وأنطولوجية معاصرة تنهل من معين فلسفة ديفيد هيوم وسارتر وكامو وبرغسون وباشلار وغيرهم، ولكنه لا يناقشها في مدونته السردية ولا يتلهى في اقتباسات من دعاتها، وإنما يجبل شخصياته من منهلين كبيرين من سيرته بعضاً من محطاتها، على نحو ما فعل إذ جعل إيزوب يستزيد معرفة ويكتسب من العلم مما أهله للدخول إلى الجامعة نظير ما جرى له، إذ أعانته المكتبة التي ورثها عن أهله أتاحت له التبحر من الأدب، والانصراف لاحقاً إلى الكتابة، بعد أن ورث من أبيه مبلغاً من المال، أراحه من ثقل العمل والارتزاق.

أما الهوية فلا أحسب أن عملاً روائياً للأديب بول أوستر لم يكن منشغلاً بها، من زاوية معالجته الإنسانية العميقة، والدفع بشخصياته إلى أقصى حدودها الفعلية والنفسية، فشخصية والت الرئيسة، هو طفل يتيم الأب ومحروم من الأم يعيله خاله سليم الشرير وزوجته بيغ، وإذ يعنفانه ويقسوان عليه يلجأ إلى شخصية عاقلة ورزينة والأشبه بالعراف والمصلح والحكيم وأقرب ما تكون خلاصية بالنسبة لوالت، ولشخصيتين ثانويتين أخريين هما ماما سيو الهندية المقموعة من زوجها والمضطهدة من محيطها، وإيزوب الطفل الأسود المولود بعاهات كثيرة أهمها كونه عنواناً لتمييز عنصري في حقه. وعلى رغم يقين الكاتب أوستر بأن ما يحدد هوية الشخص، الكائن البشري، وتاليا الشخصية الروائية التي يعمل على محاكاة نموذجها الواقعي، عديد من البصمات، منها الجينية والثقافية والبيولوجية والاجتماعية والعائلية التي يتعين على الفرد أن يكتشفها، ويؤولها ويفهمها ويستخلص منها معنى لوجوده ومصيره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهذا ما يخلص إليه كل من الشخصيتين، ياهودا ووالت، وما يتكشف لنا من محاوراتهما العميقة على مدار الفصول حتى انتحار الأول تخلصاً من آلامه المبرحة. ولعل ما رسمه لنا الكاتب في رواية "مستر فرتيغو" من تصوره التربية العائلية المتسمة بالعنف والقسوة حيال الأبناء يصلح لأن يكون سبباً ضاغطاً على الأبناء المعنفين لكي ينساقوا بدورهم إلى متاه الانحراف والجريمة. غير أن فلسفة الهوية لدى أوستر لا يسعها أن تطلق أحكاماً نهائية أو قدرية، على الشخصية لفعل كان انفعالاً ناجماً عن واحدة من بصماته أو مكوناته النفسية والمادية. وإنما تعد أن لدى الشخص (الكائن) بصمات أخرى مشفوعة بالمصادفات العجيبة والأحداث الأليمة، تعينه على تصويب مساره والتقاط مصيره، والارتقاء به إلى حدود يرضى عنها.

رمزية ورؤيوية

لا تكاد تغيب عن القارئ الرمزية المتأتية عن شخصيات الرواية، لا سيما الثانوية منها وعن مصائرها، فلو تساءل القارئ عن معنى اجتماع شخصية "ياهودا" اليهودي المنبت، والمنتمي إلى فئة صارت في العشرية الرابعة من القرن الـ20 عرضة للاضطهاد على يد النازية، وإيزوب الطفل الأسود المصاب بعاهات خلقية والمنبوذ بسبب لونه من قبل محيطه الأميركي الأبيض، وماما سيو المرأة الهندية الأميركية الأصل والمقموعة من خاطفها على غرار شعبها المنتهكة حقوقه والمعرض للإبادة، وشخصية والت الرئيسة العارف وصاحب الموهبة والمعزول عن مجتمعه وبيئته الواسعين والمنصرفين إلى صنوف المتع الرخيصة، أو الناجحين في مشاريعهم التجارية والمالية، على الطراز الأميركي الحديث، لو تساءلنا عن ذلك لتحصلت لدينا رؤية الكاتب تفيد معارضته الفكرية لتاريخ أمته الأميركية المشبع بالاضطهاد ضد الهنود الحمر، وإنكاره التمييز العنصري ضد ذوي البشرة السمراء، ونظرته المتطلبة إلى تربية الفرد، على أساس ثقافي متين، باعتباره ركن الأمة الأكثر رسوخاً من غيره.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة