Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تمسي كليوباترا العاشقة المصرية شخصية كنعانية

الروائي صبحي فحماوي يتناول الملكة التاريخية درامياً

كليوباترا الشخصية الفريدة (وزارة الثقافة المصرية)

ملخص

تقترح رواية "كليوباترا الكنعانية" للكاتب صبحي فحماوي وجوهاً متنوعة للسيدة التي اعتلت عرش مصر، وشغلت العالم شرقه وغربه، قديمه وجديده. تحضر كليوباترا في المغامرة الروائية، وقد انحدرت من أصول كنعانية قبل أن تتوج ملكة تذوب عشقاً في مصر حتى الموت. كما تحضر كليوباترا كامرأة عادية ومثقفة وجميلة، تتفاعل مع البشر، وتنخرط في تفاصيل الحياة، وتتخذ المغامرات العاطفية مع قادة روما وسيلة للدفاع عن بلادها وحماية حدودها.

في روايتها الخامسة عشرة "كليوباترا الكنعانية"، الصادرة حديثاً عن دار "العين" في القاهرة في 250 صفحة، يواصل الكاتب الأردني الفلسطيني صبحي فحماوي (76 سنة) شغفه بالأعمال الأدبية المستندة إلى خلفيات تاريخية وثقافة معرفية واسعة، من دون أن تشكل هذه المرجعيات قيوداً على مساحة التأليف وجموح الخيال.

ينسج صاحب روايات "قصة عشق كنعانية" و"الإسكندرية 2050" و"سروال بلقيس" و"أخناتون ونفرتيتي الكنعانية" في عمله الروائي الجديد سيرة درامية متشابكة الأطراف لكليوباترا السابعة، التي تولت حكم مصر من عام 51 حتى 30 قبل الميلاد، في نهاية عهد المملكة البطلمية. هذه السيرة المرنة، تتحلل من الثوابت الدارجة، لتقدم كليوباترا أخرى، على عهدة الراوي، تتقاطع مع الشخصية التاريخية المسجلة، وتمضي في سياقات مغايرة أيضاً. كما تتجلى في النص ملامحها الشخصية والنفسية كامرأة، ومحطات حياتها منذ الصغر، وعلاقاتها بعائلتها وصديقاتها والأشخاص المحيطين بها، وأسرارها القلبية الساخنة التي أثارت الإشاعات حولها، وصولاً إلى واقعة انتحارها المحيرة في نهاية المطاف، وسبب إقدامها على هذا الفعل.

تشويق تمهيدي

يمهد المؤلف للفرضيات التي يفجرها في روايته بمجموعة من المقتبسات التشويقية، التي تضع القارئ على بداية طريق التعرف إلى كليوباترا الدرامية. والمقصود بها، بطلة هذا العمل الروائي تحديداً، دون سواه من الأعمال الإبداعية الكثيرة المصرية والعربية والعالمية التي تعاطت مع كليوباترا في الآداب والفنون المتعددة، من سرد ومسرح وسينما وحلقات مصورة وغيرها.

من هذه الافتتاحيات، المنتقاة بعناية لتخدم طقوس الرواية، هذه الإشارة المستقاة من كتاب "كليوباترا آخر ملكات مصر" لعالمة الآثار والمصريات البريطانية جويس تلدسلي (ترجمة أحمد الشيمي وحمدي الجابري) الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة. وتقول الإشارة "هرب نختنبو الثاني آخر ملوك مصر الفرعونية عام 343 ق م، وتركها بلا ملك. وتعد كليوباترا الأولى أميرة سورية كنعانية". ويهدي فحماوي روايته "إلى التوأمين، الحضارة المصرية والحضارة الكنعانية، معاً"، محيلاً إلى ذلك التقارب بين حضارة الفراعنة وحضارة الشعوب السامية اللغة في أرض كنعان في الشرق الأدنى القديم، التي تشمل فلسطين ولبنان وأجزاء من الأردن وسوريا. وقد عرفت هذه المناطق ظهور الكنعانيين وانتشارهم بين عامي 3000 و1200 قبل الميلاد.

ومن الافتتاحيات الممهدة أيضاً لشخصية كليوباترا الكنعانية الروائية "كانت إيزيس قدوة لكليوباترا، بصفتها تقوم بأعمال قيادية مجيدة، وتفضل أن ترتدي ملابس الرجال، وأنها استولت على العرش من ملك أضعف منها، وأصغر سناً. ونظراً إلى ضرورة أن يكون الملك رجلاً، وقفت الملكة كليوباترا إلى جوار أخيها الطفل بطليموس الرابع عشر، بصفته زوجها صورياً، وقامت بأعمال بطولية حفظت وجه مصر الحضاري". كما يستدعي المؤلف في مقدماته الكثيرة مقولة أخرى من كتاب "كامبرج في التاريخ القديم"، تؤكد أن "روما لم تذعن للخوف من أية أمة أو شعب في زمانها إلا لاثنين من البشر، أحدهما هاني بعل (هانيبال)، والثاني كليوباترا". وهانيبال (247 ق م-182 ق م) هو القائد العسكري القرطاجي المعروف، الذي ينسب إليه ابتكار التكتيكات الحربية المتطورة، التي استخدمها في محاصرة روما وانتصاره العسكري على الإمبراطورية الرومانية واحتلال معظم إيطاليا خلال الحرب البونيقية.

لعبة الراوي

هذه الخيوط التشويقية يلضمها المؤلف سريعاً بمفاجأة الراوي العليم المدهش، الذي يحكي حكاية كليوباترا الخاصة بطريقته الخاصة، من خارج الصندوق. وهذا الراوي غير التقليدي، الذي يسرد أموراً غير تقليدية بطبيعة الحال، هو "طبق طائر" أطل فجأة في ربيع عام 2024 في سماء مدينة الإسكندرية، وأدهش أهلها وهم يشاهدونه يطوف فوق قوارب البحر العتيقة، بين قلعة قايتباي ومكتبة الإسكندرية. ومع تكرار هذا المشهد صار الناس يتجمعون كل مساء ليحدقوا في الطبق الطائر العجيب، متسائلين إن كان طائرة حربية حديثة أم مركبة فضائية تائهة أم جسماً قادماً من دولة معادية بهدف التجسس؟

وعلى مدى ثلاثين ليلة يظهر فيها "الطبق الطائر" ثلاثين مرة لأهالي الإسكندرية، يتضح أنه سارد الرواية العليم، الذي يهبط كل مساء من الفضاء البعيد في الليالي الرمضانية، ليستعرض عبر فصول النص الثلاثين مسلسل الرواية التي سماها "كليوباترا الكنعانية". ويؤكد الرواي الغرائبي أن "كل ما سبق أن سمعتموه عن ملكتكم هذه، ما هو إلا كتابات درامية تهدف الغواية، ومجرد سرد قصص حب وغرام مفتعل، يقدمه البعض بحسب وجهة نظره، فيكون مزوراً أو مضللاً، يقصد به مصلحة شعبه أو طائفته التي تتغنى ببطولات تاريخها".

ونظراً إلى تعدد الآراء حول هذه الملكة التي سحرت العالم بشخصيتها الفريدة، فقد "رأينا نحن معشر الأطباق الطائرة، بصفتنا حراس التاريخ والراصدين كل أحداثه، والمصورين كل حركات شخصياته، أن نبث الحقيقة، كل الحقيقة". ومن ثم، فقد أنزل الطبق من فوق برج قصر المنتزه ستارة بيضاء عريضة، بعرض جدار القصر، ومن على الشاشة الواسعة بدأ يبث الصور المتلاحقة كأنها في فيلم هوليوودي.

الرسم الضوئي

وهكذا، تمضي الرواية في رسمها الضوئي المصور لشخصية كليوباترا، على غير نسق سابق، ومن دون أفكار جاهزة. وإن الطبق الأسطوري هو الذي يدعي قول الحقيقة المطلقة في شأن شخصية كليوباترا، وكونه أسطورياً يعني أن مقولاته كلها نسبية ومجرد احتمالات واجتهادات وتصورات بالتأكيد. وهنا لعبة الرواية الذكية، التي تعتمد المزج السلس بين التأريخ والتأليف، والتوثيق والتخييل، بأسلوب عصري، وفي أجواء سينمائية مسرحية، كعادة صبحي فحماوي المتأثر دائماً في أعماله بالسينما العالمية وبالمسرح الإغريقي القديم والغربي الحديث.

ويلتقط الحكاء الليلي، الذي ينتظره سكان الإسكندرية كل مساء، الخيوط التهميدية التشويقية التي تسبق فصول الرواية الثلاثين، ليشرع في توضيحها وتفسيرها بأناة. وتتبلور في النهاية، من خلال الأحداث والمشاهد والمواقف المتتالية المتنامية، والعلاقات والسلوكيات المتشعبة، تفاصيل الصورة البانورامية الشاملة للشخصية الدرامية "كليوباترا الكنعانية"، بكل مقوماتها ومحدداتها ومكوناتها الجسدية والعقلية والنفسية والشعورية. مثلاً، ما أوجزه المؤلف في البداية من أن "كليوباترا الأولى أميرة سورية كنعانية"، يفصله الطبق الطائر "الراوي" بتوضيحه أن "الكل يعرف أن كليوباترا الأولى قد ولدت بصفتها أميرة سورية، وأنها ابنة أنطيوخوس الثالث ملك سوريا، الذي كان تزوج من منال، ابنة عليان بعل ملك أوغاريت الكنعاني، فأنجبت طفلة سمتها كليوباترا، التي منذ صغرها نمت بشخصية قوية، وبصمات جمالية رائعة، حتى كبرت وتزوجت ببطليموس الخامس وكانوا يسمونه الظاهر، وقد جلس على العرش عام 203 قبل الميلاد، وعمره لا يزال خمس سنوات".

وجوه متنوعة

وفق هذه الآلية، تتجسد عبر السرديات المتصلة الوجوه المتنوعة للسيدة المراوغة التي اعتلت عرش مصر، وشغلت العالم على مر العصور. وتبدو رؤية صبحي فحماوي على النقيض تماماً مما ذهب إليه بعض رموز النهضة العربية في شأن التكريس لكليوباترا كنموذج للمرأة المستهترة اللعوب المندفعة خلف غرائزها، أو الملكة الخائنة التي لا تستأمن على مقدرات البلاد. وعلى رأس هؤلاء الشاعر أحمد شوقي القائل في همزيته الشهيرة "فقضى الله أن تضيع هذا الملك أنثى، صعب عليها الوفاء/ تخذتها روما إلى الشر تمهيداً... وتمهيده بأنثى بلاء/ ضيعت قيصر البرية أنثى... يا لربي مما تجر النساء/ قتلت نفسها وظنت فداء... صغرت نفسها، وقل الفداء".

تنطلق رواية فحماوي من منظور معاكس للسائد في كل شيء، فكليوباترا الدرامية ليست إغريقية من عائلة البطالسة، ولكنها من أصل كنعاني. وهي ليست امرأة سيئة السلوك فاسدة السمعة مفتقدة الشرف مهلهلة معرفياً وإدارياً، ولكنها حسنة التصرفات والتدبير، شديدة الجمال، عميقة الثقافة، عملت دائماً على تحديث الدولة المصرية وقيادتها إلى الرقي والازدهار، فأتقنت سبع لغات، وطورت مكتبة الإسكندرية، ودافعت عن وطنها دفاعاً عظيماً حتى آخر أنفاسها. والصراع الذي دار بين كليوباترا السابعة، ابنة الملك بطليموس الثاني عشر "أوليتيس"، وأخويها بطليموس الثالث عشر، وبطليموس الرابع عشر، وفق رواية "الطبق الطائر"، كان لأجل مصلحة "أم الدنيا"، إذ كانت كليوباترا تهدف إلى تحييدهما لتسيطر وترفع شأن مصر في مواجهة روما والعالم كله.

أما علاقتها مع يوليوس قيصر، ومع أنطونيوس، فكانت كليوباترا تهدف من ورائها إلى الإنجاب، لعل أحد أبنائها يكون قائداً كبيراً أو قيصراً لروما ولمصر في آن واحد، ومن ثم تتمكن كليوباترا من مهاجمة روما وفرض السيطرة المصرية على الإمبراطورية الرومانية العظمى. ولم تسمح كليوباترا لنفسها بالانجراف خلف أية علاقة غرامية خارج إطار الزواج، حرصاً منها على الجانب الأخلاقي والانضباط السلوكي.

شذرات دالة

تمتلئ فصول الرواية، أو لياليها الثلاثون، بكثير من الشذرات الدالة، التي تبرز من خلالها طبيعة شخصية كليوباترا وصفاتها كما يحكيها الراوي الطائر. فكليوباترا، الطفلة الصغيرة، تسأل أباها أسئلة معارضة ذكية تسبق سنها وتنم عن نباهة فذة ونضج قيادي، من قبيل "لماذا يا أبي تطلب حماية الرومان لنا؟ ألا ترى أن تلك الحماية المشروطة تعطيهم فرصة لتحقيق توجههم لفرض السيطرة على مصرنا؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وينسب الراوي هذه القدرات الاستثنائية لدى كليوباترا إلى معلمها مسحال الدمشقي الكنعاني الأصل، الذي له بصمات واضحة أثرت في شخصيتها. ولقد كان والدها بطليموس الثاني عشر يحاول دمج أصله القديم بحاضره المصري، وينتمي إليهما معاً، ويحتفظ بعاداته وتقاليده الراسخة بهدف توحيد الحضارتين المصرية والكنعانية. ولذلك فإنه عمل على الضغط "لتكون اللغة الكنعانية مستخدمة في الحديث والكتابة والتعامل المجتمعي، حتى إن المجتمع المصري صار يستخدم التعابير الكنعانية التي انتشرت لديه". وقد عاهدت كليوباترا اليافعة أباها على أن تضع في مخيلتها كل ما يمكنها "ليس للدفاع عن مصر فحسب، وإنما للسيطرة على روما نفسها". وفي حياتها اليومية وعلاقاتها الاجتماعية، كانت كليوباترا الكنعانية مثالاً للطف في التواصل مع الآخرين، منذ أتت صغيرة إلى مصر مع والدها بطليموس الثاني عشر. ويتجلى ذلك في مواقفها الراقية وتعاملاتها المهذبة مثلاً مع وصيفتها شرميال، التي تولت تربيتها بعد انفصال أبيها عن زوجته.

وبحلول الـ29 من أغسطس (آب) عام 51 قبل الميلاد، صارت كليوباترا السابعة الملكة الوحيدة لمصر، بعدما رفضت شقيقها بطليموس الرابع عشر كحاكم مشارك. وكان مولد ابنها قيصرون، بعد زواجها من الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر، نصراً كبيراً لها، إذ حررها من الالتزام بأن تظل متزوجة صورياً من أخ يقاسمها العرش.

وتتقصى الرواية غراميات كليوباترا، موضحة أنها لم تكن مجرد عاشقة، حباً في العشق، بل كانت تسعى للاتكاء على القائد الكبير أنطونيو لتنفيذ طموحاتها، ودرء تخوفها من أعدائها، وإنجاب طفل أو أكثر منه "ليدعم ذلك تطلعاتها المستقبلية في السيطرة على إمبراطورية رومانية مصرية كبرى، تتوج بها ملكة على العالم كله". وبعد هزيمة أنطونيو، وقراره الانتحار، آثرت كليوباترا أن لا تهرب، قائلة "سأبقى أقاوم في بلدي مصر حتى الرمق الأخير".

وفضلت كليوباترا أن تموت منتحرة بالسم على أن تسقط أسيرة ذليلة في أيدي الرومان، حرصاً منها على كرامة الشخصية المصرية، والمرأة المصرية، ملكة كانت أو مواطنة عادية. واختارت حية الكوبرا المصرية، لأنها الأنجع في القتل، بين عشرات الأفاعي التي جرت تجربتها على المحكوم عليهم بالإعدام، لتنتهي حكايتها حكاية مأسوية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة