Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين صخب الاميركي ويليام فوكنر وهشاشة الفرنسية آني إرنو

عودة تيار الوعي وتعدد الأصوات واختلاط الأنواع الأدبية ورصد تمزقات الذات

الروائي الأميركي ويليام فوكنر (صفحة الرواية الأميركية - فيسبوك)

ملخص

الفائزان بجائزة نوبل الأميركي ويليام فوكنر إرني والفرنسية إرنو يفرق بينهما اختلاف زمن السرد تاريخياً، ويجمعهما الكلام عن انهيار القيم وعن انصهار الإنسان في نار النبذ والإقصاء، لكنهما لا يتورطان في الإدانة الأخلاقية لسلوك الشخصيات.

عندما انفض الناس عن رواية ويليام فوكنر "الصخب والعنف" (The Sound and The Fury) غداة صدورها عام 1929 أصاب الكاتب الأميركي القنوط، ولم تكفه إشادات حفنة من النقاد بما ظنوا أنه إبداع روائي مبهر يمثل فتحاً جديداً في الرواية، وسموها "رواية الروائيين".

غالبية القراء واجهوا عنتاً في قراءة "الصخب والعنف" وبعضهم اختصر عداءه للرواية بأنها "تروج للرذيلة". وتقول الكتابات التي أرخت لفوكنر أن روايته بقيت حبيسة المخازن ولم تنتشر على نطاق واسع، بسبب صعوبة هضم أحداثها مما دفعه بعد 16 عاماً إلى إصدار ملحق توضيحي يعيد ترتيب أحداث الرواية ويكشف مراميها ويجعلها سلسة التلقي، وهذا أمر قسري اضطر له فوكنر تحت "ضغط الجماهير"، وفي ظني أنه أخطأ في ذلك.

ويحدث في تلك الغضون أن يفوز فوكنر بجائزة نوبل للآداب عام 1950، فيعاد الاعتبار إليه بوصفه صاحب صنيع إبداعي لا يدانى وأن النظام الذي اعتمده في كتابته، والقائم على تيار الوعي أضحى علامة فارقة في السرد، وبفضله صار فوكنر أحد أبرز الكتاب الذين وظفوا تقنيات علم النفس في الرواية، وفعل ذلك قبل انبثاق فجر فرويد وكارل يونغ. ولم يكن الروائي الأميركي وحده من وظف تيار الرواية في كتابته، فقد تزامن ذلك مع ظهور أعمال في الحقل ذاته لدوروثي ريشاردسون صاحبة رواية "الحج"، وجيمس جويس الذي جسد هذا النظام السردي في روايته "صورة الفنان في شبابه"، وفرجينيا وولف التي استثمرت في تيار الوعي أو سيل الذاكرة في غالب أعمالها، وخصوصاً "السيدة دالواي".

وفي حين ينتسب مارسيل بروست إلى الفضاء ذاته، لكن الناقد روبرت همفري مؤلف كتاب "تيار الوعي في الرواية الحديثة" يقرر أن صاحب "البحث عن الزمن المفقود" يهتم من الوعي بالجانب المتصل بالذكريات، ويمسك بالماضي عن وعي وهدفه إقامة صلة مع الماضي. وفي كتابه الذي ترجمه إلى العربية محمود الربيعي يرى همفري أن تيار الوعي لا يختص بالقصص السيكولوجية التي تقع فيها مستويات التعبير الذهني على هامش الانتباه، بل هو يختص بالروايات التي تشتمل على مستويين من الوعي، مستوى ما قبل الكلام ومستوى الكلام أياً كان منطوقاً أو كتابياً، مع وجود نقطة يتداخل عندها هذان المستويان.

"الصخب والعنف" حينما ترجمها إلى العربية جبرا إبراهيم جبرا مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أحدثت الوقع الذي جرى خلال أواخر العقد الثاني من القرن الـ20. القراء العرب لاقوا صعوبة في ربط الأزمنة، فهم لم يختبروا مثل هذا الأدب الذي مضى في محاكاته روائيون عرب كثر في طليعتهم غسان كنفاني السائر على خطى فوكنر في روايته "ما تبقى لكم" عام 1966، والتي عدها نقاد من أجود روايات كنفاني فنياً.

الأزمنة تحولت على مدار الـ100 عام الماضية على مستوى التلقي ونضوج الذائقة، إذ صار تيار الوعي وتعدد الأصوات واختلاط الأنواع الأدبية جزءاً من تقنيات الرواية الجديدة في العالم. وساد ما يعرف بفيضان الأنواع الأدبية على بعضها وعلت دعوات إلى تحطيم القواعد القارة في الكتابة السردية. ومن بين ما أُعيد الاعتبار إليه كتابة الذات ورصد تمزقاتها وإحصاء هشيمها. وهو ما عبرت عنه حائزة نوبل عام 2022 الفرنسية آني إرنو التي جاء تكريمها تجسيداً لتطور ذائقة "نوبل" واستشرافيتها، واحتفاظ حكام هذه الجائزة برياديتهم في استطلاع النماذج المثيرة للجدل في الأدب، وهي إثارة صالحها أكثر من طالحها. وبخلاف كتابة فوكنر المعقدة تميل إرنو إلى "الكتابة المسطحة" حسب تعبيرها، وهي كتابة لا يعوزها العمق لكنها لا تحتفي بالزخارف الأسلوبية ولا بالتقنيات السردية. إنها كتابة متقشفة مشغولة بالذات، والكشف عن القيود الجماعية للذاكرة الشخصية.

وبسبب نزوع الكاتبة الفرنسية إلى هذا النمط من السرد راح من يصفها بالسطحية (ثمة فرق هائل بين المسطحة والسطحية)، وهناك من يصر حتى الآن على أن كتابات إرنو هي سيرة ذاتية، وأن ما وثقته في رواياتها حدث معها بالضرورة. وغاب عن أذهان هؤلاء الخدعة الكبرى التي أوقعت بها إرنو من دون قصد قراءها، بحيث عقدت نوعاً من التماهي بين الذاتي والشخصي.

الذات شيء واستبطان الشخصية المفردة التي تخص كائناً دون سواه، شيء آخر. إرنو قامت بمسح سوسيولوجي للمجتمع الفرنسي، مركزة على ظلال تحولاته على جسد امرأة وروحها. والمسح العميق المتأمل شيء والتصوير الفوتوغرافي أو المسح الضوئي (Scan) المحايد شيء آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كلاهما فوكنر وإرنو يتحدثان عن انهيار القيم وعن انصهار الإنسان في نار النبذ والإقصاء، لكنهما لا يتورطان في الإدانة الأخلاقية لسلوك الشخصيات. لم يدن "كويتن" في الفصل الثاني من الرواية أخته "كادي" لتورطها في علاقة محرمة أدت إلى الحمل، على رغم أن الحدث أصابه بالذعر وقاده في ما بعد للانتحار، في ظل تعليقات والده "كومسون" بأن العذرية وهم اخترعه الرجال. وفي المقابل لم تتعاط إرنو في رواية "الحدث"، بتعال أو شفقة أو تقريع للفتاة الجامعية التي تجد نفسها حاملاً، فتجهد في سبيل التخلص من الجنين.

الموضوع مشترك ولكن التعاطي الفني مختلف. المهم هو المعالجة والأثر. أما الأهم فهو القراءة الواعية التي تمتلك مصابيح سبر الأعماق، ولا تسلب لبها ألاعيب اللغة. فما فعله فوكنر حين رج السرد الروائي وكاد يقتلعه من جذوره، استكملته إرنو من خلال إنزال السرد من عرشه وخلع ربطة عنقه وقميصه ذي الياقة المنشاة، وجعله يسير في الشارع ببنطال جينز وتيشيرت وحذاء خفيف. النمطان أنيقان ولا مفاضلة بينهما.

وربما لم تأخذ الكاتبة الفرنسية حقها في القراءة والنقد على رغم أن غالبية (أو كل أعمالها) مترجمة إلى العربية. وربما يعتقد بعضهم أن اختيارها هو انحراف في معايير الأكاديمية السويدية، بيد أن الواقع يؤكد رجاحة خيار الجائزة التي احتفت بالأدب الذاتي، أو الأدب المكرس في كليته للجوهر الفرداني لدى الكائن، فهو أدب خارج منطقة الأدب المعهودة أو الكلاسيكية، أدب يعيد تعريف الكتابة أو إنتاج نمط جديد من الأشجار في هذه الغابة الكثيفة من السرد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة