ملخص
تمكن تجارة المخدرات الجماعات الإرهابية من شراء الأسلحة وتوسيع دائرة النفوذ عن طريق رشوة وكلاء إنفاذ القانون في مناطق معينة.
في خضم فوضى أمنية وسياسية تشهدها دولها، تتصاعد التحذيرات الدولية والأممية من تحول منطقة الساحل الأفريقي إلى معقل لترويج المخدرات بمختلف أنواعها، مما يسلط الضوء على معضلة أخرى تواجهها هذه الدول.
وعكس تقرير صدر عن الأمم المتحدة أخيراً المخاوف من تداعيات تصاعد ترويج المخدرات في المنطقة التي تشمل خمس دول، وهي: مالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد وموريتانيا.
ولم يتردد التقرير الذي أعده وصاغه وأصدره مكتب الأمم المتحدة المعني بتجارة المخدرات والجريمة المنظمة، باتهام أطراف حكومية وممثلين عن السلطات القضائية في هذه الدول بتسهيل تحركات "المجرمين الذين يتولون ترويج المخدرات".
ليس وليد اللحظة
وأحيت هذه الاتهامات نقاشات صاخبة في المنطقة حول الأطراف التي تشكل ملاذاً لـ"عصابات الإتجار بالمخدرات" من أجل القيام بأنشطتها من دون تضييقات خصوصاً في ظل الأوضاع المضطربة أصلاً.
وأفاد التقرير الأممي بأن السلطات في الساحل الأفريقي صادرت ما قيمته 13 كيلوغراماً من الكوكايين بين أعوام 2005 و2020، لكن هذا الرقم تضاعف بنحو 100 مرة عام 2022، مما يسلط الضوء على تنامي هذه الظاهرة.
وقال الناشط الحقوقي النيجري علي إدريسا إن "تفشي ظاهرة ترويج المخدرات في منطقة الساحل الأفريقي أمر ليس وليد اللحظة في الواقع، ونتذكر جميعاً حادثة الطائرة الشهيرة التي حطت بمالي وعلى متنها مخدرات عام 2009، ثم مغادرتها الأراضي المالية في ظروف يحيط بها الغموض".
وأوضح إدريسا في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن "هذه الظاهرة في اعتقادي تعود لعدد من الأسباب، لكن أهمها غياب الاستقرار في المنطقة، من يتحدث عن المخدرات فهو يتحدث عن شبكات للمافيا في الساحل الأفريقي".
وأردف أن "هذه الشبكات تستغل انعدام الأمن على الحدود وغير ذلك للوصول إلى مآربها، وهي تمرير كميات ضخمة من المخدرات نحو دول بعينها، وهو ما ستكون له عواقب وخيمة على شعوب المنطقة".
وكانت السلطات في مالي رصدت عام 2009 نزول طائرة من طراز "بوينغ 727" على متنها 11 طناً من الكوكايين، وتحطمت الطائرة إثر إنزالها الشحنة التي نقلت إلى أوروبا عبر عدد من المسالك في شمال البلاد، وهو أمر دفع تلك السلطات إلى اعتقال ثلاثة أشخاص، لكن مع دخول البلاد في دوامة عنف وفوضى سياسية أغلق هذا الملف.
تعقيدات وحواضن
لا توجد إحصاءات دقيقة وحديثة حول كميات الحشيش التي صادرتها السلطات في دول غرب أفريقيا خلال العام الحالي أو الماضي، لكن السلطات في موريتانيا على سبيل المثال كشفت عن أنها ضبطت 2.3 طن من الكوكايين في البلاد، منها 1.2 طن كان في إطار شحنة قادمة من البحر.
وذكر التقرير الأممي أن منطقة الساحل الأفريقي وبحكم موقعها المميز الذي يجعلها تربط بين أوروبا والقارة السمراء والأميركية فإنها أصبحت وجهة مفضلة لمروجي المخدرات، إذ يتم إنزال شحنات هناك ثم تهريبها نحو أوروبا والولايات المتحدة.
وقال الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية محمد حامد جمعة نوار، إن "هناك عدداً من الأسباب التي تجعل تجارة المخدرات تجارة مربحة ويقبل عليها كثيرون، ومن أهم تلك الأسباب تعقيدات هذه المنطقة".
وأكد نوار أن "هناك تداخلاً بين مهددات أنشطة المخدرات والسلاح وتعدد حواضن جماعات متمردة بتغطية متعددة من محسوبين على فصائل موصوفة بالإرهاب لأنشطة جماعات تقاتل لصراعات حول السلطة، كحال الوضع في النيجر ووجود جيوب مناهضة للحكومة العسكرية الحالية، وأنشطة جماعة ’أزواد‘ في مالي وبوكو حرام، وتعدد فصائل تشادية تمتد من ليبيا إلى فضاء غرب أفريقيا".
رأى أن "منطقة الساحل أيضاً تتورط الآن في الصراع الجاري في السودان عبر فصائل تأتي من النيجر وتشاد وليبيا، وهذه كلها تعقيدات أمنية تؤكد أن الجهود الإقليمية الخاصة والحكومات المحلية وحدها غير كافية لمعالجة هكذا ظواهر".
وأبرز نوار أن "وبناء عليه يبدو الخيار الأنسب تأسيس حلف كالسابق قبل خروج بوركينا فاسو ومالي والنيجر وربما إعادة عملية برخان الشهيرة، لكن هذا نفسه عليه ملاحظات قد لا تسمح به تتعلق بصراعات أطراف دولية مثل روسيا وفرنسا وصعوبة التوفيق بين مصالح موسكو وباريس في ظل الإجلاء المتواصل للنفوذ الفرنسي وتصفيته لصالح وجود روسي متنامي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سوق جديدة
ووسط جهود متصاعدة في شمال أفريقيا تبذلها بصورة خاصة السلطات في تونس وليبيا والمغرب وغيرها للتصدي إلى شحنات المخدرات التي تتدفق على تلك الدول، بات غرب القارة السمراء الآن سوقاً جديدة وواعدة لشبكات وتجار هذه الآفات.
وكانت مفوضة التنمية البشرية والشؤون الاجتماعية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) فاتو سو سار، قالت في وقت سابق إن "فئة الناشئين الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و29 سنة هم أكثر من يتعاطون المخدرات في المنطقة".
وكانت دراسة أعدتها "شبكة غرب أفريقيا للوبائيات المعنية بتعاطي المخدرات"، المعروفة اختصاراً بـ"ويندو" بالشراكة مع "إيكواس" كشفت عن أن سلطات غرب أفريقيا حجزت 139 طناً من الحشيش عام 2020، لكن هذه الكمية تضاعفت عام 2022 لتتجاوز 631 طناً.
تستر وواقع أكثر سوءاً
واللافت أن التقرير الأممي الأحدث اتهم جهات حكومية وغيرها بالتستر على تجار المخدرات، وذلك في ظل فوضى عارمة تعرفها منطقة الساحل الأفريقي التي تشهد انتشاراً للجماعات المسلحة.
واعتبر الباحث السياسي التشادي إبراهيم زين كونجي أن "التقرير الذي أصدرته الأمم المتحدة عن تجارة المخدرات هو تقرير صائب وربما الواقع أكثر سوءاً مما ذكر فيه، منطقة الساحل هي المنطقة الثانية في العالم في ترويج المخدرات بعد منطقة أميركا اللاتينية، وللأسف هذا ليس بجديد، فهي ظاهرة متفشية منذ عقود".
وفسر كونجي في حديث لـ"اندبندنت عربية" قائلاً "كان هناك نوع من التستر والسرية التي تحيط بهذا النشاط قبل سقوط نظام العقيد معمر القذافي، هناك شبكات ضخمة وقوية تديرها عصابات عبر الصحراء في منطقة الساحل، وحقيقة الأنظمة الإقليمية والدولية مشاركة مع الأسف في هذه التجارة، إذ لا يمكن أن يقوم بهكذا تجارة ضخمة أفراد فقط من دون أن توفر لهم جهات نافذة حماية ورعاية حقيقية".
وشدد المتحدث على أن "سقوط القذافي تسبب في توقف تهريب المخدرات نحو دول أوروبا وجعل الكميات التي كانت تهرب مخصصة إلى الترويج والاستخدام المحلي في المنطقة، وتضررت كثيراً بسبب ذلك ليبيا والنيجر وتشاد وموريتانيا ومالي، إذ أصبحت هذه الأماكن وجهة لتلك الكميات".
واستنتج كونجي أن "إدمان المخدرات الآن في الساحل الأفريقي أصبح أكبر تحد نواجهه، وبالنسبة إلى تشاد فخلال العقدين الماضيين كان هناك تستر على شبكات تهريب والاتجار بالمخدرات، وهناك حادثة وقعت في يوليو (تموز) 2020 تتمثل في ضبط شحنة من المخدرات تصل قيمتها إلى مليار دولار، وتبين أن مسؤولين بارزين كانوا متورطين في عملية ترويجها".
خطر قائم
كما اتهم التقرير الأممي التنظيمات الإرهابية على غرار "القاعدة" و"داعش" وغيرها، بالتورط في نقل شحنات المخدرات، بما في ذلك الكوكايين وصمغ القنب الهندي.
وكان مدير أبحاث غرب ووسط أفريقيا في "مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة" فرنسوا باتويل، صرح في وقت سابق أن "الجماعات الإرهابية أصبحت المستفيد الأكبر من نشاط تهريب المخدرات".
ولفت باتويل إلى أن "هذه التجارة تمكنهم (أي الجماعات الإرهابية) من شراء الأسلحة، وتوسيع دائرة النفوذ عن طريق رشوة وكلاء إنفاذ القانون في مناطق معينة أو بعض المسؤولين".
وكشف المتحدث عن أنه "في النيجر لوحدها، بعد ضبط 214 كيلوغراماً من الكوكايين عام 2022 اعتقل رئيس بلدية، بعد ضبط كمية من الكوكايين مخزنة في سيارته".
وعلق رئيس مركز "الأطلس للتنمبة والبحوث الاستراتيجية" عبدالصمد ولد أمبارك على ذلك بالقول إن "موريتانيا على سبيل المثال تشكل منطقة عبور من الشمال إلى الجنوب والعكس، وسبق أن ضبط عدد من شحنات المخدرات، وبالتالي السلطات الأمنية تعي هذا الخطر وترفع اليقظة من أجل السيطرة على حدودها والمنافذ التي يتم منها إدخال هذه السموم".
وفي تصريح خاص قال ولد أمبارك إن "هذه الظاهرة والخطر سيظلان قائمين بالنظر إلى الأوضاع المضطربة في المنطقة وتداول هذه السلع عبر الحدود ومحاولة تهريبها بين الدول".
وأفاد بأن "هناك عوامل أسهمت في تفشي هذه الظاهرة على غرار التحديات الأمنية التي تواجهها منطقة الساحل الأفريقي كالإرهاب والهجرة غير النظامية وعدم الاستقرار السياسي جراء الانقلابات العسكرية التي أدت إلى وقوع فترات انتقالية في معظم دول الساحل عدا موريتانيا".
وخلص إلى أن "المنطقة تعيش اضطرابات محدقة واختلالات بنيوية تجعلها معرضة لهكذا إشكالات عالمية، كل هذه العوامل تفتح الباب بمصراعيه أمام تهريب المخدرات والجريمة المنظمة والعابرة للحدود والتطرف".
وفي خضم الانفلات الأمني وتكريس حال من عدم الاستقرار السياسي جراء الانقلابات العسكرية، فإن هناك جرائم أخرى باتت مألوفة في منطقة الساحل الأفريقي على غرار غسل الأموال والاتجار بالبشر، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة السلطات المحلية على الحد منها في ظل استمرار الهجمات المسلحة ضد أفرادها والسكان المحليين أيضاً.