ملخص
رحلة البحث عن "ربع الجنيه" في مصر مضنية وذات مشقة، هذا إن لم تقذفه الصدفة في يد البعض
عزّت فئات النقد المعدنية الأصغر عن الحضور في أيدي المصريين، وإن حلّت ضيفاً خفيفاً على بعضهم، فقد توارت مثيلاتها المصنوعة من الورق عن الأنظار تماماً أمام كلفة طبع مرتفعة مقارنة بما أصبحت عليه من التدني بفعل غول التضخم وتآكل القيمة.
مبتسم الفاه لامع العينين لما تثيره تلك الورقة الصغيرة من الشجن وحنين الماضي، يقلب محمود عبدالتواب، بين راحتيه عملة "ربع الجنيه" الورقية، بعد أعوام من حفظها أسفل زجاج مكتبه الخشبي، حين عاود بيت عائلته حيث نشأ مستذكراً بعض أشياء هو في حاجة إليها وسرعان ما بصر الموظف الشاب هذه العملة حيث تركها قبل أعوام من الزواج والإقامة في منزل آخر مستقل.
مصروف "الابتدائية"
"كانت تلك مصروفي اليومي، كفلت لي شراء الكثير شأني شأن بقية زملائي في المرحلة الابتدائية، كانت كثيرة جداً وكفتني حال العوز" يستذكر الموظف الذي شارف الأربعين من العمر كيف كانت هذه الفئة النقدية التي سرعان ما تضاعفت لتكفي، مضيفاً في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "كان مصروفي في المرحلة الإعدادية 50 قرشاً (0.010 دولار) وفي الصف الثالث الإعدادي حصلت على جنيه (0.020 دولار) وصولاً إلى ثلاثة جنيهات (0.061 دولار) في نهاية المرحلة الثانوية".
كان محمود يقطع الطريق من قريته بمركز الزرقا إلى جامعته بمدينة دمياط بثلاثة جنيهات ذهاباً وإياباً وسرعان ما تضاءلت القيمة لتتضاعف كلفة الانتقال طوال أعوام دراسته الجامعية بفعل التضخم، ويتذكر أول راتب له "كان 500 جنيه (10.18 دولار) لم تخل تماماً من الفئات النقدية الأصغر، خصوصاً الجنيه والنصف جنيه لكن الملاحظ هو بدء تواري ربع الجنيه عن الأنظار... (يضحك) ربما خجلاً".
خمسة إصدارات لـ"الربع جنيه"
بحسب موقع البنك المركزي المصري، صدر "ربع الجنيه" للمرة الأولى عام 1917 عن البنك الأهلي المصري حين كان قائماً بأعمال "المركزي" ثم تعددت إصدارات "ربع الجنيه" الورقية خمس مرات بأشكال وطباعة مختلفة في أعوام 1952 و1961 و1976 وأخيراً عام 2001.
وعلى رغم حظر قانون البنك المركزي المصري الكتابة على فئات النقد الورقية المختلفة باعتبار ذلك تشويهاً في حق العملات، فإن فئات واسعة من جيلي الثمانينيات والتسعينيات دأبت على الاحتفاظ ببعض تلك الفئات مع كتابات قصيرة على سبيل التذكرة، وهو أمر كان شائعاً بين المحبين على وجه الخصوص.
تذكار المحبين
تلك عادة وفاء عبدالعزيز، حين احتفظت ببعض أوراق النقد الأعلى (الجنيه) و(خمسة جنيهات) ممهورة بتوقيع خطيبها وكانت تذكاراً وممارسة شاعت في العقد الأخير من القرن الماضي، "أعطاني أول مرة 50 جنيهاً (1.02 دولار) عيدية وبعض الفئات الأقل... 10 وخمسة جنيهات (0.20 و0.10 دولار)، وتبادلنا بعض الكتابات، ولا نزال نحتفظ بتلك الفئات النقدية التي احتجبت اليوم عن التداول".
تشير ربة البيت الثلاثينية، إلى تلك العادة بوصفها تقديراً وتعبيراً عن البذل والكرم، "كلما زادت فئة النقد كانت تعبيراً عن المحبة والتقدير... احتفظنا بها لا لشيء سوى الذكرى، لكنها لم تعد اليوم تحتفظ بما كانت عليه في الماضي، تبدلت وذهبت عنها القيمة ولم تعد تشتري أقل الأشياء".
ظهور خافت
في عام 2016، سمح البنك المركزي المصري بعد أعوام من اختفاء تلك العملات من التداول، بإعادتها للسوق مرة أخرى تزامناً مع أزمة في العملات المعدنية المساعدة فئات 25 و50 و100 قرش، لتحمل توقيع المحافظين السابقين لـ"المركزي المصري" إسماعيل حسن وفاروق العقدة، لكن سرعان ما اختفت الفئتان 25 و50 قرشاً، الورقيتان بعد ذلك.
في عام 2021، لاحظ البنك المركزي المصري رفض البعض تداول الجنيه الورقي، فأصدر بياناً أكد فيه استمرار سريان التعامل بجميع العملات الورقية بلا استثناء، موضحاً أن الجنيه الورقي متع بقوة إبراء كاملة، ويستحق الوفاء بكامل قيمته في مقابل السلع والخدمات، كما يحق للمواطنين استخدامه بصورة طبيعية في جميع التعاملات المالية.
وبحسب بيانات استقتها "اندبندنت عربية" من أحدث التقارير الشهرية للبنك المركزي المصري، فإن فئات الـ25 و50 قرشاً المعدنية والجنيه الواحد لا تزال من النقد المصدر والمتداول في السوق المحلية، إذ بلغ حجم المتداول من الـ25 قرشاً المعدنية في مايو (أيار) الماضي 179 مليون جنيه (3.65 مليون دولار)، في مقابل 646 مليون جنيه (13.16 مليون دولار) من فئة الـ50 قرشاً، و2.6 مليار جنيه (0.053 مليار دولار) من فئة الجنيه الواحد.
ارتفاع كلفة الطباعة
في حديث إلى "اندبندنت عربية"، يقول المتخصص المصرفي وليد عادل، إن "ربع الجنيه" الورقية اختفت من السوق، وحلت محلها فئة النصف جنيه المعدنية مع حضور خجول للغاية للنصف جنيه الورقي، مشيراً إلى أن كلفة الطباعة المرتفعة في مقابل قيمة ما تفي به العملة وراء اختفاء الفئات الأصغر من النقد المصري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف عادل الذي يشغل منصب رئيس قطاع التجزئة المصرفية بأحد البنوك الحكومية في مصر، أن اتجاه "المركزي المصري" لاستبدال إصدار الـ10 جنيهات (0.20 دولار) الورقية بأخرى من مادة "البوليمر" كان بهدف خفض كلفة الطباعة مقارنة بما تحمله الفئة من قيمة اليوم، مشيراً إلى أن فقدان بعض الفئات لقيمتها يعقبه سحب "المركزي" تلك الفئات من السوق.
خمسة قرارات من التعويم
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، أقرت مصر تعويماً كاملاً لسعر صرف الجنيه مع انتعاش السوق الموازية، ليستقر السعر الرسمي عند متوسط 17 جنيهاً، ثم صعد الجنيه إلى متوسط 15.7 جنيه للدولار حتى الـ21 من مارس (آذار) 2022 مع التعويم الثاني، إذ انخفض الجنيه إلى 19.70 جنيه، ومن ثم في الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) 2022 انخفض لمستويات 27.70 جنيه فيما حل التعويم الرابع في الرابع من يناير (كانون الثاني) 2023 لينخفض الجنيه في مقابل الدولار إلى 30.90 جنيه ومع التعويم الخامس في مارس 2024، تراجع الجنيه إلى مستويات 50 جنيهاً للدولار الواحد.
وأمام تراجع قيمة الجنيه، تغول التضخم في مصر ليسجل رسمياً مستويات تتجاوز 40 في المئة، كما في فبراير (شباط) من العام الماضي، قبل أن يتراجع على نحو متسلسل بعد ذلك وصولاً إلى مستوى 26 في المئة أكتوبر الماضي، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر.
رحلة البحث عن "ربع الجنيه" في مصر مضنية وذات مشقة، هذا إن لم تقذفه الصدفة في يد البعض، فلا يتذكر البعض متى كانت آخر مرة رأوا خلالها تلك الورقة الصغيرة، وماذا اشتروا بها لكنها سنة النقد في الأرض، فئات تحجب فئات من دون أن تمحو ذكراها.