ملخص
يجمع المتابعون للشأن العام في تونس على أن السلطة الراهنة لا تولي اهتماماً للأجسام الوسيطة من منظمات ونقابات وأحزاب، بل تعول على التواصل المباشر مع التونسيين، وهو ما قلص من دور الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تعمقت أزمته بوضعه الداخلي.
تاريخ عريق يحتفظ به الاتحاد العام التونسي للشغل، إذ تمتد جذور إنشائه إلى أربعينيات القرن الـ20، وظل حضوره لافتاً في مختلف المراحل السياسية التي عاشتها البلاد منذ الاستعمار الفرنسي، إذ أسهم مناضلوه في بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال. وأصبح الاتحاد العام التونسي للشغل جزءاً من استقرار نظام الحكم وإحدى دعائم شرعيته، إلا أن علاقته بالسلطة اختلفت بحسب السياق السياسي، وراوحت بين المصالحة حيناً والمواجهة أحياناً أخرى.
ويسجل تاريخ تونس السياسي المعاصر سلسلة من الأحداث التي عبر فيها الاتحاد العام التونسي للشغل عن رفضه لقرارات السلطة وخياراتها، وانزلقت العلاقة إلى العنف في محطات عدة كمواجهات ما بات يعرف تاريخياً بـ"الخميس الأسود" في الـ26 من يناير (كانون الثاني) 1978، ثم أحداث الخبر في سنة 1983، وصولاً إلى أحداث 2011، والتي انتهت بإطاحة نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
ويرى المتابعون للشأن العام في تونس اليوم أن الاتحاد العام للشغل يعيش أسوأ فتراته التاريخية، من حيث القطيعة التامة مع السلطة، والأزمة الداخلية في الاتحاد نفسه، بعدما اتسعت قاعدة المعارضة النقابية للمكتب التنفيذي الحالي، والذي يعده معارضوه غير شرعي.
وفي ظل ما تروج له السلطة الحالية في تونس من خطاب الدولة الاجتماعية والمحافظة على المكاسب ورفض التشغيل الهش، وهو رأسمال رمزي كثيراً ما دافعت عنه المنظمة الشغلية بالبلاد في مواجهة السلطة من أجل تحقيق مكاسب لمنظوريها، يبقى السؤال المطروح، ما مستقبل العمل النقابي في تونس؟ وهل ما زال الاتحاد قادراً على التعبئة وشد اهتمام التونسيين؟
ظل الاتحاد العام التونسي للشغل داعماً لقرارات رئيس الجمهورية قيس سعيد، خصوصاً في الـ25 من يوليو (تموز) 2021، واعتبرها استجابة لمطالب شعبية وحلاً للأزمة الاقتصادية والسياسية التي عانتها البلاد خلال تلك الفترة، إلا أنه حذر من تركيز السلطات بيد الرئيس ومن المس من رصيد الحقوق والحريات، بل ودعا إلى التمسك بالشرعية الدستورية وتحديد سقف زمني للتدابير الاستثنائية، من أجل العودة إلى السير الطبيعي للمؤسسات.
إثر ذلك دعا الاتحاد إلى الحوار وإرساء استراتيجية تشاركية مع السلطة من أجل حلول اقتصادية واجتماعية للأزمة التي تتخبط فيها البلاد، إلا أن دعواته لم تلق أي صدى لدى السلطة الحاكمة.
ويجمع المتابعون للشأن العام في تونس على أن السلطة الراهنة لا تولي اهتماماً للأجسام الوسيطة من منظمات ونقابات وأحزاب، بل تعول على التواصل المباشر مع التونسيين، وهو ما قلص من دور الاتحاد الذي تعمقت أزمته بوضعه الداخلي بعدما رفض عدد لا يستهان به من النقابيين نتائج المؤتمر الانتخابي الذي تمخض عنه المكتب التنفيذي الحالي، وطعنوا في نتائجه وفي مساره.
الانسجام مع مسار الـ25 من يوليو
يقول النقابي السابق والناشط السياسي وزير الوظيفة العمومية سابقاً عبيد البريكي في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة عريقة لا يختلف اثنان في مدى تجذرها وتشبعها بالروح الوطنية"، مضيفاً أنه "كان على الاتحاد أن يقتنص لحظة الـ25 من يوليو 2021، وينسجم مع رؤية هذا المسار الذي يعمل على تحقيق المطالب التي كان ينادي بها الاتحاد منذ عقود في إطار ما يسمى الدولة الاجتماعية".
ويصف النقابي السابق وضع الاتحاد اليوم بـ"الصعب"، مشيراً إلى أن "الحل لا بد أن يصدر عن النقابيين أنفسهم". واعتبر أن "الاختلافات الحاصلة في صفوف النقابيين، والخلاف مع المعارضة النقابية، أسهم في تعقيد الوضع داخل الاتحاد وفي علاقته بالسلطة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واقترح البريكي "تشكيل لجنة توافقية من داخل المنظمة الشغيلة لترتيب البيت الداخلي، وهو أمر قد يستغرق بعض الوقت"، مستحضراً وزن الاتحاد في "لعب دور الوساطة والتأطير في الأزمات والمقترحات الاقتصادية والاجتماعية". ودعا إلى "توفير الأرضية الملائمة للحفاظ على هذه المنظمة العريقة".
يشار هنا إلى أن الاتحاد العام التونسي للشغل بعد 2011، وسع مجال نفوذه ليتخطى المجال الاجتماعي ويتقاطع مع السياسي وكان شريكاً في كل الحكومات في مرحلة الانتقال الديمقراطي. وتغير وضع الاتحاد اليوم جذرياً في ظل سلطة قيس سعيد ورؤيته السياسية القائمة على رفض كل الأجسام الوسيطة من نقابات وأحزاب منظمات، وتصوره الاجتماعي التنموي الذي يتقاطع مع الاتحاد العام التونسي للشغل في بعض نقاطه.
هيئة تسييرية وقتية للاتحاد
في المقابل تحمل المعارضة النقابية مسؤولية تردي وتراجع مكانة الاتحاد العام التونسي للشغل في المشهد العام بالبلاد، إلى مكتبه التنفيذي الحالي الذي تعتبره غير شرعي وغير ديمقراطي، إثر تنقيح القانون الأساس للاتحاد لغايات ضيقة وهي التمديد للقيادة النقابية الحالية.
وأكدت منية بالنصر العيادي وهي نقابية معارضة في تصريح خاص، أن وضع الاتحاد اليوم "كارثي وغير مسبوق، إذ واجه الاتحاد سابقاً أزمات إلا أنها لم تدم طويلاً، وكان يلتقط الحلول للخروج من أزماته مع السلطة، وكان دوماً شريكاً لها في الحكم".
وأضافت أن "الاتحاد أصبح اليوم بلا سلطة وفي حالة عطالة، وعليه أن يفتك دوره الاجتماعي"، مشيرة إلى أنه "حاول مغازلة السلطة، إلا أنه لم ينجح لأن السلطة رفضته".
ونبهت العيادي إلى أن "حال الانقسام في المنظمة تجعله غير قادر على القيام بدوره"، مشددة على أن "مستقبله مهدد، لأنه غير متماسك". وطالبت الاتحاد بـ"إصلاح نفسه من الداخل، ومراجعة سياساته، ولم شمل النقابيين ليصبح قادراً على التعبئة". وقدمت مقترحاً بإنشاء "هيئة تسييرية تنظم المؤتمرات الانتخابية وتعيد انتخاب الهياكل حتى يسترجع الاتحاد مكانته".
الحراك الاجتماعي
بدوره استبعد الكاتب الصحافي المتخصص في الشأن السياسي خالد كرونة "عودة الدفء بين الاتحاد والسلطة، سواء للتشاور أو للتواصل"، مستدركاً بالقول إن "الأوضاع الاقتصادية والمناخ الاجتماعي في عدد من المؤسسات، يوحي بأننا مقدمون على حراك قد يشكل فرصة للاتحاد ليستعيد دوره ومكانته باعتباره المنظمة الشغيلة الأكبر في البلاد، داعياً إياه تطهير البيت الداخلي حتى لا تتفاقم عطالته".
في الأثناء ترى السلطة الحالية أن هذا التصور لدور الاتحاد انتهى، وأن مهمته يجب أن تنسجم مع حدود العمل النقابي في العالم، والمتمثلة في حل المشكلات العمالية وتحسين ظروف العمل والعلاقات الشغلية، بعيداً من التدخل في المسائل السياسية والاقتصادية وخيارات الدولة.
تجاوز الخلافات
أما الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي فأوضح أن "أي سلطة قائمة تسعى بكل الوسائل إلى استهداف الاتحاد والتضييق عليه"، مضيفاً أن "الاتحاد يبقى قوة اقتراح، وبنكاً للبدائل الاقتصادية والاجتماعية من زاوية مصلحة الاقتصاد الوطني والطبقة العاملة، كما أنه مدافع عن الحقوق والحريات ومكاسب الثورة".
وفي كلمته خلال المؤتمر العادي للجامعة العامة للمتقاعدين، في الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في العاصمة تونس، قال الطبوبي إن "الاتحاد سيظل قاطرة المدافعين عن الحريات والديمقراطية"، وإن "قوة المنظمة تبرز في قدرتها على تجاوز المشكلات والخلافات الداخلية والذاتية حتى تكون خيمة للجميع".