ملخص
من غير المعتاد أن يقدم الرئيس الأسد تعليقات علنية حول عملية السلام، فهو لم يُدلِ بأي تصريح حتى خطابه في أغسطس (آب) أمام مجلس الشعب السوري، حين أكد استعداد سوريا لتلبية "المتطلبات الموضوعية" للسلام مع إسرائيل، وكان تعليقه الثاني هذا العام خلال مؤتمره الصحافي مع كلينتون، حين أكد مجدداً استعداد سوريا للسلام، واستغل الرئيس الأسد زيارة روتينية لدمشق قام بها الرئيس مبارك للتحدث بصورة شاملة عن موقف سوريا الحالي في عملية السلام. لكن لماذا الآن؟
في ديسمبر (كانون الأول) عام 1994، بذلت الولايات المتحدة جهوداً مكثفة لدفع محادثات السلام بين سوريا وإسرائيل، مع التركيز على الترتيبات الأمنية اللازمة لانسحاب إسرائيل من الجولان. وأيدت إسرائيل نشر قوات أميركية كجزء من قوة متعددة الجنسيات، في حين أصرت سوريا على الانسحاب الكامل والترتيبات المتساوية، وحذر الجانبان من أن الوقت ينفد، وأصر السفير السوري وليد المعلم على ضرورة التوصل إلى اتفاق في غضون أشهر.
وتنشر "اندبندنت عربية" نص برقية من السفارة البريطانية في تل أبيب، مؤرخة في 22 ديسمبر عام 1994، إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن، تفيد بأن السفير السوري لدى واشنطن وليد المعلم أجرى محادثات مع المستشار العسكري لرئيس الوزراء الإسرائيلي اللواء داني ياتوم، وجاء في البرقية:
سافر اللواء داني ياتوم، المستشار العسكري لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، إلى واشنطن في الـ21 من ديسمبر لإجراء محادثات مع السفير السوري وليد المعلم ومسؤول عسكري سوري آخر، إضافة إلى المبعوث الأميركي دينيس روس.
"تشير تقارير الصحافة المحلية اليوم إلى أن اللواء داني ياتوم سافر إلى واشنطن في الـ21 من ديسمبر للانضمام إلى سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة إيتامار رابينوفيتش لإجراء محادثات مع المعلم ومسؤول عسكري سوري رفيع المستوى غير معروف (ربما "شهاب" - تلغراف دمشق رقم 317)، إضافة إلى دينيس روس، وبحسب التقارير الصحافية من المتوقع أن تبدأ المحادثات إما في وقت لاحق اليوم أو غداً".
وتشير البرقية رقم 306 المرسلة من السفارة البريطانية في دمشق إلى مرجعيتها في لندن في الـ21 من ديسمبر عام 1994 إلى الخطابين المتشددين لنائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام، وجاء في البرقية:
"في خطابه أمام قمة منظمة التعاون الإسلامي (OIC) في الدار البيضاء بتاريخ 14 ديسمبر، قدم نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام انتقاداً حاداً للصهيونية، زاعماً أنها تقف وراء حملة قوية ضد الإسلام، كما انتقد ’النظام العالمي الجديد‘، ودعا إلى إصلاح الأمم المتحدة وتعزيز حركة عدم الانحياز (NAM) وزيادة التضامن في مواجهة الحملة المستوحاة من الصهيونية ضد قيم الإسلام".
كانت هذه تصريحات تقليدية من خدام. وتعليقاته العدوانية وغير المتهاونة تعكس بلا شك قطاعاً من الرأي العام السوري وتفريغاً للإحباط الرسمي، كما أنها مثل كثير من التعليقات التحريرية الأخيرة، لا تشير إلى أي نية سورية لتخفيف الخطاب ضد إسرائيل، ومن غير المحتمل إحداث تغيير في السياسة السورية حول الدبلوماسية العامة، وكما كانت الحال في الأسبوع الماضي مع الأزمة اللبنانية، تم استخدامه كأداة مباشرة للتعامل مع المشكلات التقليدية.
الأسد ينتقد تردد إسرائيل في الانسحاب من الجولان
عبّر الرئيس السوري حافظ الأسد عن استياء بلاده من تردد إسرائيل في الانسحاب من الجولان، وأكد استعداد سوريا للسلام بشرط وجود التزامات واضحة من الجانب الإسرائيلي. وكان الرئيس السوري أعلن خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك أن "سوريا ليست مهتمة بعملية السلام بأي ثمن". وجاء في البرقية المرسلة من السفارة البريطانية في دمشق إلى مرجعيتها في لندن في الـ21 من ديسمبر عام 1994 حول موقف سوريا المعلن من عملية السلام والمسار السوري -الإسرائيلي، ما نصه:
"قرار الأسد بالتحدث الآن يعكس إحباط سوريا من تردد إسرائيل في شأن الانسحاب من الجولان، والتوقعات لجولة وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر هذا الأسبوع ليست جيدة، لا يزال المسار السوري صعباً، لكن الأسد، على رغم لهجته المتشددة، لم يستسلم".
من غير المعتاد أن يقدم الرئيس الأسد تعليقات علنية حول عملية السلام بعد لقائه الرئيس بيل كلينتون في جنيف في يناير (كانون الثاني)، فهو لم يُدلِ بأي تصريح حتى خطابه في أغسطس (آب) أمام مجلس الشعب السوري، حين أكد استعداد سوريا لتلبية "المتطلبات الموضوعية" للسلام مع إسرائيل، وكان تعليقه الثاني هذا العام خلال مؤتمره الصحافي مع كلينتون، حين أكد مجدداً استعداد سوريا للسلام، واستغل الرئيس الأسد زيارة روتينية لدمشق قام بها الرئيس مبارك للتحدث بصورة شاملة عن موقف سوريا الحالي في عملية السلام. لكن لماذا الآن؟.
خلف تصريحات الأسد المتشددة، تظهر نغمات واضحة من الإحباط والاستياء، النظام السوري يشعر بخيبة أمل لأن جولة كريستوفر لم تحقق سوى القليل من التقدم هذا العام، ويشعر بالاستياء من التلميحات بأن سوريا، وليست إسرائيل، هي الطرف المتعنت، ولن يشارك الأسد في مفاوضات شاملة حول حزمة السلام ما دام أن الإسرائيليين يتراجعون عن الانسحاب.
ويرى الأسد اتفاق غزة-أريحا كدليل يومي على أن تحقيق تسوية سلمية دائمة غير ممكن من دون التزامات واضحة من الإسرائيليين، ولدى الأسد اهتمامات أخرى:
أولاً، لا يحب فكرة ظهور محور إسرائيلي- أردني- فلسطيني، لكنه لن يدع ذلك يشكل تهديداً للمصالح الإقليمية لسوريا. ثانياً، تعليقاته حول معاملة السوريين كـ"قطيع من الأغنام" تظهر استمرار استياء سوريا من الضغوط الموجهة إليها للاهتمام بالرأي العام الإسرائيلي بينما لا تُلاحظ الجهود السورية لتحقيق السلام.
تصريحات الأسد وصفت بالمتشددة وأثارت قلق إسرائيل
تستعرض البرقية رقم 525، المرسلة بتاريخ 21 ديسمبر عام 1994 من السفارة البريطانية في تل أبيب إلى وزارة الخارجية البريطانية، موقف الحكومة الإسرائيلية بعد تصريحات الرئيس الأسد التي وصفت بـ"المتشددة والمحبطة"، ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين التعليق على تصريحات الأسد في القاهرة، بينما نفى مكتبه صحة التقارير الصحافية التي تحدثت عن وجود محادثات سرية مع السوريين.
تطورات جديدة في شأن الانسحاب من الجولان
يستعرض نص الوثيقة المرسلة من قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بتاريخ 23 ديسمبر عام 1994 إلى مكتب السكرتير الخاص لوزير الخارجية البريطاني، تناقض تصريحات وزير الخارجية السوري فاروق الشرع والأسد حول السلام مع إسرائيل وتأثيرها في الموقف السياسي، كما يشير إلى اجتماع وشيك في واشنطن بين السوريين والإسرائيليين لبحث انسحاب إسرائيل من الجولان، جاء في نصه:
"ينبغي النظر إلى تصريحات الشرع في سياق التصريحات الأخرى التي أدلى بها هو والأسد خلال الأشهر الماضية، وبحسب اعتراف السفير البريطاني لدى تل أبيب، فقد تعتبر هذه التصريحات استجابة طال انتظارها لتوضيح الموقف السوري حول مفهوم السلام، ومع ذلك فإن التصريحات العلنية من الشرع والأسد خلال الأشهر الأخيرة كانت متقلبة، مما يشير إلى أنها قضية سياسية، وليست مجرد نقص في التنسيق، وأي تأثير إيجابي أحدثته تصريحات الشرع قد تم تعويضه بصورة كبيرة بتعليقات الأسد الأخيرة في المؤتمر الصحافي عقب لقائه مبارك (برقية دمشق رقم 306).
من المؤكد أن الإسرائيليين سينظرون إلى تصريحات الشرع بشكوك، وهناك أسباب وجيهة لعدم قراءة تصريحات الشرع بعمق كبير، بخاصة عند النظر إلى اختيار الجمهور، على رغم أن تصريحات الشرع تم الإبلاغ عنها بالكامل في الصحافة السورية، إلا أن تصريحاته كانت موجهة في الأساس للآذان الغربية. عندما يكون الجمهور محلياً أو عربياً، تكون النبرة مختلفة تماماً، كما يتضح من خطابات عبدالحليم خدام المتشددة في الدار البيضاء ودمشق (برقية دمشق رقم 21 ديسمبر).
ونظراً إلى أن السفير البريطاني في تل أبيب ناقش هذا الأمر بالفعل مع مارتن إنديك (شغل مرتين منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل) في وزارة الخارجية الإسرائيلية (برقية تل أبيب رقم 544)، لا أوصي بطلب متابعته مع النائب عن "حزب العمل" المعارض يوسي بيلين أو رئيس الوزراء السابق شيمون بيريز على أي حال، لقد شهدت الأحداث تقدماً مشجعاً منذ ذلك الحين، "أكدت سوريا علناً في الـ22 من ديسمبر عقد اجتماع بين السفراء السوريين والإسرائيليين، بمرافقة مسؤولين عسكريين، في واشنطن بمشاركة أميركية، ونفهم أن المحادثات ستتناول القضايا الأمنية المتعلقة بانسحاب إسرائيل من الجولان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مشاركة سوريا في محادثات واشنطن: إشارة إلى جدية التفاوض
شاركت سوريا بفاعلية في محادثات واشنطن، مؤكدة أهمية تحقيق سلام شامل يغطي جميع المسارات، بما فيها اللبناني والفلسطيني. وعلى رغم تصريحات إيجابية لوزير الخارجية السوري حول السلام، أبدت إسرائيل تشككاً وركزت على مصالحها الأمنية والاقتصادية، وتوضح برقية السفارة البريطانية في دمشق بتاريخ 18 ديسمبر (كانون الأول) عام 1994 تردد رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين حيال الانسحاب من الجولان، مما يفسر الإحباط السوري في تلك الفترة، وجاء في البرقية ما نصه:
"رشحت سوريا رئيس هيئة الأركان لحضور المحادثات في واشنطن، وترى سوريا المزايا الخاصة التي تحاول إسرائيل الحصول عليها وتتعلق بالضمانات الأمنية والعلاقات الاقتصادية المستقبلية، هناك أمل في ألا يتجاهل الإسرائيليون تعريف الشرع للعلاقات المستقبلية بين سوريا وإسرائيل كما ورد في خطابه في بروكسل.
ويعتبر تحليل إنديك للأحداث الأخيرة في المسار السوري (برقية واشنطن رقم 3124) أنه "إذا كان رابين تراجع عن الحماسة كما وصِف، فإن الإحباط السوري الأخير يصبح أكثر فهماً".
وبخصوص الاتصالات الجديدة في واشنطن، أبلغتني السفارة الأميركية هنا بأن الممثل العسكري السوري سيكون رئيس هيئة الأركان، الفريق أول حكمت الشهابي. إن تعيين ممثل على هذا المستوى الرفيع الذي يتمتع بثقة الأسد، يُعدّ إشارة مشجعة. فلم يكُن من الممكن اختيار الشهابي إذا لم تكُن سوريا جادة في شأن المحادثات.
وفي ما يتعلق بالمزايا الخاصة التي تسعى إسرائيل إلى الحصول عليها (برقية تل أبيب رقم 534)، أعتقد بأن إنديك محق في اقتراحه بأن القلق الإسرائيلي الأساسي حول تحقيق ضمانات أمنية محكمة يدفعهم إلى طلب تنازلات استثنائية في نظر السوريين. ولكن هناك أيضاً بُعداً اقتصادياً.
ويعتقد السوريون بأنه فقط بعد إبرام تسوية السلام سيكون من الطبيعي التفاوض مع إسرائيل حول الروابط الاقتصادية الثنائية والإقليمية لتعزيز النمو وحماية المصالح الوطنية السورية، ومع ذلك يعتقد السوريون بأن الإسرائيليين سيطلبون منهم إثبات استعدادهم لعلاقات "طبيعية" عبر الموافقة على مجموعة من الآليات التجارية والاستثمارية كجزء من حزمة السلام نفسها، مما يدفع السوريين إلى الاستنتاج أن الإسرائيليين يحاولون استخدام عملية السلام للحصول على مزايا اقتصادية خاصة لأنفسهم، وفي الواقع يشعر السوريون بأن الإسرائيليين، سواء في القضايا الأمنية أو الاقتصادية أو غيرها، دائماً ما يطرحون مطالب جديدة عليهم.
وفي ما يتعلق بخطاب الشرع في بروكسل، آمل في أن يتبنى الإسرائيليون وجهة نظر أقل سلبية مما تشير إليه برقية تل أبيب، للرد على نقاط بيرنز (الفقرة 4 من البرقية):
(أ) نُشر خطاب الشرع كاملاً في جميع الصحف السورية فوراً، مما يجعله بياناً عاماً ومباشراً حول موقف سوريا. لذلك، يعتبر هذا الخطاب موجهاً للإسرائيليين وللعالم أجمع، ويُعدّ أول تعريف علني لما عناه الأسد في أغسطس بالـ"متطلبات الموضوعية للسلام". أعتقد بأن هذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها سوريا علناً عن علاقات طبيعية بين سوريا وإسرائيل كأي علاقات طبيعية بين دولتين، لذا، يعتبر الخطاب خطوة متقدمة في الدبلوماسية العامة السورية.
(ب) و(ج) يرى بعضهم أن التصريحات السورية السابقة كانت أكثر غموضاً وتشدداً، ولكن هذا ليس سبباً كافياً لرفض أهمية تصريحات الشرع الأخيرة في كل الأحوال، ويجادل السوريون بأن هناك تناقضاً أكبر في التصريحات الإسرائيلية مما هو موجود في تصريحات دمشق.
(د) "أستمر في الاعتقاد بأن سوريا ستوقع اتفاق سلام إذا تم حل المسارين السوري واللبناني بصورة مرضية، وستستمر سوريا في الإصرار على أن السلام الشامل والدائم في الشرق الأوسط لا يمكن تحقيقه حتى تحلّ القضية الإسرائيلية-الفلسطينية، لكن لا توجد إشارة هنا إلى أن سوريا ستجعل من حل هذه القضية شرطاً مسبقاً لاتفاق سوري- لبناني مع إسرائيل".