Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

عندما يؤنث الشعر العالم في اللغة والمجاز

 أحمد الشهاوي يسعى الى قصيدة بين النثر والتفعيلة في "أتحدث باسمِك ككمان"

لوحة للرسام اسماعيل نصرة (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

ديوان جديد للشاعرالمصري أحمد الشهاوي صدرحديثا بعنوان "أتحدث باسمِك ككمان"، وفيه يسعى إلى المزج بين الحب بصفته حالة روحية، وبين العالم الذي يغدو مرآة لهذا الحب الذي يعلن نزعته الأنثوية.

ينتمي الشاعر المصري أحمد الشهاوي إلى ما يعرف بجيل الثمانينيات الواصل بين شِعريتين متمايزتين، هما شعرية السبعينيات التي امتازت بحضور المجاز البلاغي والصور المفارقة التي تصل حد الغموض والإلغاز أحياناً، والحضور اللغوي التي تبدو فيه اللغة وكأنها في "عُرْس"، كما كان يقول بول فاليري، وتأكيد دور الشعر والشاعر بحيث تبدو القصيدة كأنها رسالة تطرح الهموم العامة، وشعرية التسعينيات التي اعتمدت اللغة التداولية والصور المشهدية والتجارب الشخصانية، وتأكيد جماليات قصيدة النثر التي بدت كأنها خيار نهائي لهذا الجيل.

بدا جيل الثمانينيات حاملاً صورة جدلية بين بعض خصائص هذين الجيلين، فلم يرفض الشكل التفعيلي الذي مثّل متن شعرية السبعينيات، ولا قصيدة النثر التي شاعت بعد ذلك، كما جمع بين الهموم العامة والتجارب الذاتية واللغة المجازية والتداولية. لكن أحمد الشهاوي ظل حالاً مميزة داخل هذا الجيل، إذ ربط منذ "ركعتان للعشق" بين التجربة الشعرية والصوفية، وتعد "الأنثى" في الموروث الصوفي محوراً رئيساً وأهم مرتكزات رؤية العالم شعراً ونثراً، وهذا ما نجده في شعر الشهاوي ونثره. وديوان "أتحدث باسمك كَكمان" (الدار المصرية اللبنانية) هو امتداد لكل هذا، لكنه يتفرد بذلك المزج اللافت بين الحسي والروحي بدءاً من الإهداء: "إلى حبيبتي / مَن أعوذ بشفتيْها من دنياي / هي الشيء وكل الأشياء / هي أقرب من أي سماء لي / هي بلدٌ يحمل كل الأسماء"، إلى أن يقول: "وهي الشمس إذا غاب الضوء عن اسمي / وهي اسمي حين أؤنث قلبي".

هناك إذاً رغبة في تأنيث الذات والعالم، وربما تأثراً بقول ابن عربي: "كل ما لا يؤنث لا يعوّل عليه"، وقد يفسر هذا تعلق الشاعر بأمه نوال عيسى التي أحس بيتمه وأمومته الناقصة بعد رحيلها.

علامة على الكينونة

وهو ما عوضته حبيبته على نحو ما يقول: "كانت أمومتي ناقصة / ولما ذقتُ نهديك اكتملت / وتشرد الموت  الذي طال أمي في الشوارع". ومثلما يتضافر الحسي والروحي نجد تضافراً بين الأنثوي والطبيعي حين يقول: "وتكون الشفتان طعامي / وتكون السُرة مركز كوني / ويكون الكون مليئاً باللاشيء / إلاكِ".

لكن لماذا يتحدث الشاعر باسم حبيبته تحديداً؟ يرجع ذلك لأن الاسم هو علامة على الوجود، إذ يظل الإنسان مجهولاً غير معرف إلى أن يسمى، فالاسم علامة على الكينونة، وفي الأثر "لكل من اسمه نصيب"، والله سبحانه سمى نفسه وجعل له الأسماء الحسنى وأمرنا أن ندعوه بها، والناس تنادى بأسماء أمهاتهن يوم القيامة، كما يقال، وغيّر بعض الصحابة أسماءهم الجاهلية كي تدل على كينونتهم الجديدة، ومن هنا كان حديث الشاعر باسم حبيبته حديثاً عن كينونتها.

أما دلالة "الكَمَان" فلا أجد مبرراً لاعتباره معادلاً للمحبوب في تعبيره عن الحب أو انسيابيته، ولعل آلة الناي تكون أكثر تعبيراً عن عالم الديوان، فقد فسر بعض المتصوفة حزن نغمته بأنه يبكي بسبب ابتعاده من أمه الشجرة.  

دلالة النور

وامتداداً لما قلناه عن محورية الاسم في العنوان والمتن، تتجلى الأنثى النورانية القادرة المتعالية صاحبة الاسم القدسي، وهو مايستدعي مفردة "النور" بوصفها فيضاً ذاتياً في مقابل "الكهرباء" التي هي مظهر خارجي: "ما حاجتي للكهرباء / والنور داخلي"، فهناك انتصار للطبيعي وتعلق به في مقابل الصناعي، وأحياناً يرتبط العشق عند الشاعر بالعذاب حيث ينعدم المطر ويغيب الطيرالحامل لرسائل عشقه، ولا يبقى سوى المرأة التي تضرب رأس الحائط به، في ضرب غير منطقي للخيال الذي يصعب فيه أن نتصور للحائط رأساً.

وإذا كان الحديث يتصدر المشهد فإن الشاعر لم يُغفل حكمة "الصمت" الذي ينقسم  في العقيدة المسيحية إلى الصمت الصغير والصمت الكبير، والصمت في الإسلام هو الخلاص من العلائق الدنيوية وكل ما يشغل الفؤاد والتدبر في خلق السماوات والأرض، وهو عند الشاعر أداة الخصب التي تقاوم جدب الكلام "أسحق ماء في الهون لعل الصمت / يحطم رمل كلام الناس".

منطق الطير 

لا شك في أن الرؤية الصوفية تستدعي متلازماتها، فـ "منطق الطير" هو اسم كتاب شهير لفريد الدين العطار الذي جرى استدعاؤه في قول الشهاوي: "لا أكتب تحديداً ما بي / لا أعرف لغة الطائر في / ومنطق طيري يأتي بالأشياء". وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن معجم الديوان الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث دوائر، الدائرة الحسية التي نجد فيها اليدين والكفين والشفتين والعينين، والدائرة الطبيعية التي تشمل الشمس العشب والرياح والأشجار والرعد والبحر والنجوم، والدائرة الوجدانية حيث نجد العشق والشطح والروح  والقلب والوحي والهوى، وهكذا بدت الذات كأنها "مملكة من لغة / وأن الحرف الواضح أقرب لي من قلبي"، وأن الشاعر صار حرفاً من اسم حبيبته، فاللغة بعموميتها أصبحت دنياه: "بعت الدنيا كي لا تفلت لغتي مني / ويصبح فعلي الابن الأول في معناه".

وهذه اللغة التي لا تقتصر على دوالها بل تشمل الأسلوب الإنشائي والخبري حيث تنقسم قصيدة "ماذا في الصندوق المخفي؟" إلى الأسلوب الإنشائي الاستفهامي في قسمها الأول، والأسلوب الخبري في القسم الثاني، وأحياناً يستخدم الشاعر أسلوباً خبرياً في ما يشبه السيرة الذاتية من خلال ضمير الغائب: "هو لغز / وبعض الأسئلة بلا أجوبة / ويتحصن بالله / ولا يقدر طيرٌ أن يفتك به"

 كما أنه "ابن ممالك ونساء من أهل الذكر"، وفي بعض القصائد نجد غلبة للأسلوب الاستفهامي الدال على الحيرة وانعدام اليقين، كما في قصيدة "رحتُ أشد أساكِ من الجمل المنسية" التي تتكرر فيها "ماذا لو..." ثماني مرات.ويكرر في قصيدة "لو لم تكوني ما كانت هذه القصيدة"، "لو أنني" 17 مرة في ما يعرف باستقصاء المعنى، حتى بدت اللغة كأنها "بيت العالم"، فللشاعر لغته وللحبيبة لغتها وللطبيعة لغتها، "هذي امرأة جامحة لا تعرف زبد البحر / ولا تصطاد سوى الحرف الأول من لغة الشمس". ولعل من المهم أن أشير إلى أن بعض التراكيب اللغوية تبدو متكلفة مثل قوله  "للريح وردة أنتها / وللبوصلة رأس أنته".

اقرأ المزيد

مر مفهوم الشاعر بتحولات مختلفة من الشاعر المصلح في الشعر الإحيائي إلى الشاعر المتنبئ في التيار الرومانسي ثم الشاعر بوصفه إنساناً مهمشاً مع قصيدة النثر، وإيمان الشهاوي بمفهوم الشاعر المتنبئ ملمح رومانسي واضح: "دخلتُ العشق من عين إبرة / وفِضتُ بالخيوط / طرزتُ القميص كي لا يغيب النبي عن بئره". ويستعير صورة النبي العربي تحديداً في قوله "أتدثر بالأسود / وأزمل قلبي بك"، أو صورة سليمان عليه السلام:"لا أنام / قبل قبل أن أذوق شفاه الكلام / وقبل أن أفتح الباب كي تمر الطيور لتشرب / وكي يسر لي الهدهد بأسرار ساقيها في المرايا"، أو قوله: "عريت الزجاج من ستائره / لكن الهدهد غاب / لم أره في الأفق / وكنت تفقدت الطير"، أو صورة أبي الأنبياء إبراهيم في قوله "يهبط في أرضي وحي / يدعوني أن أبقى حياً في البركان"، أو استدعاء آدم عليه السلام في قوله "صار الأول عاجزاً عن تعلم الأسماء / وقال: لا قدرة لي على الإنباء"، أو الإشارة إلى النبي يوسف "وقال قائل منهم مثلها لن تعرف غيابة الجُب ولن تحتاج إلى سيّارة ليلتقطوها".

ولا يقتصر التناص على شخصيات الأنبياء بل يشمل بعض الأغاني الشعبية "يطير بأهداب تفرش فداناً من فتنة"، وهو ما يستدعي "رمش عين الحبيب يفرش على فدان"، أو التناص مع أساطير مصر القديمة حين يتهجى رأس القط الذي نعرف أنه كان مقدساً "ينمو شجر في الماء / أدخل كلي في السر / وأتهجى رأس القط"، وكذلك تضمين قول بشّار "فأرتني ثم شطت شطة"، وقول قيس "وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا". وينبغي أن أشير في النهاية إلى أن الشاعر لا يلتزم في مجمل أعماله بجماليات قصيدة النثر، وفي الوقت نفسه يقوم بكسر سيمترية العَروض وتهشيمه والخروج عليه.

المزيد من ثقافة