Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فن القشرة"... لمسة مصرية دخلت منازل اللبنانيين

انتشرت الحرفة اليدوية في طرابلس بجهد فردي وباتت تواجه تحديات مع تطور المنسوجات

يقضي صابر ساعات طويلة داخل "صومعته" لصناعة لوحات غاية في الإتقان (اندبندنت عربية)

ملخص

انتقل فن القشرة المصري إلى لبنان عبر بعض الحرفيين الذين وصلوا إلى البلاد عقب اندلاع الحرب الأهلية بسبب انتمائهم إلى قوات "الردع العربي"، ويعد صابر المصري واحداً من هؤلاء الذين شكلوا علامة بارزة في سوق المفروشات الطرابلسية. 

قبل نحو 50 عاماً وصل صابر عبدالمجيد المصري إلى لبنان برفقة قوات الردع العربية التي حضرت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، حاملاً معه "فن القشرة" الذي شكل إضافة فنية وجمالية إلى صناعة المفروشات الطرابلسية، ومعها احتلت مكانة متقدمة على مستوى لبنان، وكثيراً من عادات وتقاليد مدينته الأم دمياط المصرية.

خلع صابر بذته العسكرية التي لم تفارقه وجدانياً منذ مشاركته في معارك العبور عام 1973 وانتقل إلى سوريا قبل وصوله إلى لبنان في 1978، حيث عاد لارتداء "ملابس الشغل" واستثمر في مهاراته وخبرته التي اكتسبها باكراً داخل ورش مسقط رأسه في مصر، واستقر في منطقة الزاهرية التي تحفل بعشرات ورش الموبيليا ليصبح عنصراً من عناصر تطوير حرفة الفرش المنزلي. 

عامل في عقده الثامن

استمر صابر في عمله على رغم بلوغه العقد الثامن من عمره، ويستقبلك في ورشته المليئة بالتفاصيل، حيث تلفت أنظارك للوهلة الأولى صورة الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك الذي خدم تحت قيادته بعد رحيل أنور السادات، فضلاً عن علم مصري يحتضن شقيقه اللبناني في إشارة منه إلى الهوية المزدوجة للحاج صابر "أبو وائل".

يفاخر بجذوره في مصر، حيث "يتعلم كل فرد حرفة منذ نعومة أظفاره" وهو لم يخرج عن هذه الأدبيات، فدخل سوق العمل في السابعة من عمره وأتقنها مع بلوغه 10 سنوات بفضل مساعدات آباء المهنة الذين توارثوها جيلاً بعد جيل، مستذكراً "المعلم عبده الدمياطي" الذي علمه أصول المهنة.

ينتمي صابر إلى مجتمع "فناني القشر المصري الدمياطي" ويقول بعفوية مفرطة "نحن تفوقنا على إيطاليا" في إشارة منه إلى كسب مسابقات دولية على مستوى تصميم الموبيليا وتنفيذها وتلبيسها، عندما تقدم الفريق المصري بلوحة تختصر حرب أكتوبر بتفاصيلها كافة وكأنها فيلم.

كثير من التركيز

يقضي ساعات طويلة داخل "صومعته" التي تشكل عالمه الخاص الذي داخله يصنع لوحات غاية في الإتقان، ويبدأ بتلبيس أحد الأبواب ويستعين بمادة صمغية فريدة عبارة عن "غراء مصنوع من عظام الحيوانات"، فتوضع قطع الغراء الجامدة التي تشبه الحصى في الوعاء الخاص الذي يوضع بدوره داخل وعاء فيه ماء ويترك ليذوب على نار هادئة، إضافة إلى "القشرة" المستخرجة من لحاء وجذور الأشجار المعمرة لتغطية الهيكل الأساس للباب، فيمدها بواسطة "الشاكوش" الذي يستخدمه ليضغط يدوياً لإخراج الغراء من تحت القشرة. 

يشكو صابر من تراجع الطلب على "فن القشرة" لأن الأكثرية انتقلت إلى الطلاء الذي يشكل انحداراً في المستوى الجمالي للفرش المنزلي، وفق وجهة نظر الحرفي الذي يتمسك بأن القطعة المصنعة بالطريقة التقليدية "تعيش العمر" في حال عدم تعرضها لعوامل طبيعية خارجية مثل الماء أو الحريق.

وتستهلك حرفة "القشرة" كثيراً من الطاقة وتحتاج إلى قوة الجسد والأعصاب لمد وسحب القشرة الخشبية وإسقاطها في مكانها، كما تحتاج إلى كثير من التركيز والتفكير لتجاوز المشكلات في معرض صناعة القطع النفيسة التي تزدان بها القصور والصالونات وغرف النوم والإطارات الخشبية المحفورة.

اقرأ المزيد

خبرة متوارثة

تحول اسم صابر المصري إلى علامة فارقة في سوق صناعة المفروشات اللبنانية ونقل هذه الخبرة إلى أبنائه الذين أجادوا هذا الفن المتوارث عبر الأجيال، وأشار إلى أيام العز قبل مجيء عناصر دخيلة حرفياً وتقنياً، "فاستعان بأعداد كبيرة من الحرفيين بسبب الطلب الكبير على فن التلبيس والقشرة"، ونتجت من ذلك صناعة "أجمل قطع الأثاث بلمسة فنية مصرية مبدعة".

ويتحدث وائل المصري ابن صابر وشريكه في الصنعة عن تطور "فن القشرة" من مرحلة "السادة" إلى إبداع والده "الموديلات المركبة" بالقشرة الملونة، ويقول "في عمر 14 سنة بدأت أرافق والدي إلى الورشة وفتح لي المجال للتجريب واستخدام العدة"، وشيئاً فشيئاً بدأت الحرفة بجذب الشاب اليافع الذي أصبح "معلماً" في تصنيف والده "شيخ الكار".

يعتقد وائل بأن "الذوق هو مفتاح تطوير هذه الحرفة التي تعتمد على الفن والزخرفة" لأن "النجار يحيل قطع الأثاث إلى حرفي القشرة التي تُعد بمثابة الهيكل الخارجي للعمل الفني، وتأتي مرحلة التلبيس بالقشرة الخشب التي يمكنها أن تعطي شكلاً جميلاً ومرتباً ومزخرفاً بغض النظر عن نوعية الهيكل سواء كان كرتوناً مضغوطاً أو خشباً متيناً"، مؤكداً أن "الحرفة تحتاج إلى قوة بدنية وفن وسرعة بديهة وصبر والعمل بضمير" لأن "الحرفي يحتاج إلى تحقيق التوازن بين القوة البدنية في الضغط والتدخل السريع في حال وجود أي جسم غريب تحت القطعة لعدم تكسير القشرة الرقيقة". ويستذكر حقبة التدريب فشهدت الفترة من عام 1978 إلى عام 1990 "الطاقة الإنتاجية القصوى" و"كان في الورشة 12 عاملاً لتأمين حاجات مصانع الموبيليا في الزاهرية". 

وتمكن هؤلاء من إنعاش حرفة عمرها مئات السنين وقطعت مئات الأميال لتصل إلى لبنان وتعطي المفروشات لمسة فخامة وتثبت كيف لقشرة خشبية لا تتجاوز سماكتها مليميترين أن تلتصق بجسم ضخم وتكسبه الجمال وتحميه لأعوام طويلة، و"كأن بالحرفي يعيد القشرة للشجرة الأم لتستعيد صلابتها ومتانتها الأولى"، وفق وائل.

     

 

أثاث طويل العمر

يستحضر "فن القشرة" أجواء مرافقة لـ"تعديل المزاج" فيقوم الحرفي بإعداد الشاي بالنكهات وترك أغاني أم كلثوم تصدح في الأرجاء.

ويتحدث وائل عن "معايشة تفاصيل العرق وسحر يقود الحرفي في عمله إلى ترتيب العمل الفني"، موضحاً أن ما يدفعني إلى الاستمرار في المهنة هو المتعة خلال العمل وتحقيق الأحلام وتحدي الإنجاز"، ويشدد على أن "الحرفي ينتظر لحظة انبهار الزبون بدقة وجمال القطعة وإتقانها الشديد، فالتقدير المعنوي يفوق أي بدل مادي وثروتنا هي السمعة الحسنة في الأوساط المهنية ومحبي قطع الأنتيكا والمفروشات الفخمة".

يشير الحرفي وائل إلى إقبال متزايد على السنديان بسبب لونه الفاتح وملامح رسمته البارزة والواضحة وسعره المتوسط مقارنة بأنواع الخشب الغالية الثمن، فيطلب بعض الزبائن الدمج بين شكل السنديان ولون الجوز البني، ولكنه في المقابل يأسف لتأثير تراجع الحركة الاقتصادية في حجم الطلب، ويقول "قبل الانهيار المالي والاقتصادي ما كان الموظف ليتردد في شراء غرفة نوم بألفي دولار وتلبيسها والتقسيط بمعدل 200 دولار شهرياً، أما اليوم فاتجه إلى شراء المفروشات الرخيصة التي لا تصمد لفترة طويلة".

كما يتحدث عن دور يقوم به "فن القشرة" على مستوى ترميم القطع التراثية، "فالتلبيس يحفظ المفروشات لفترات طويلة ويمكن بعد 20 أو 30 عاماً رفع القشرة وتلبيس القطعة من جديد، مما يعطيها مظهراً فاخراً، وتتفاوت الكلفة بحسب نوعية القشر الذي تراوح قيمته ما بين 2.5 دولار أميركي و24 دولاراً".

المزيد من منوعات