ملخص
الصراع في الكونغو مرشح للتصاعد في ضوء القدرات الإقليمية شبه المتماثلة بين الدول المحيطة بالكونغو، لذا لا يكون هناك قدرة على حسمه، خصوصاً أن عدم الحسم هو خيار تدعمه شبكات المستفيدين من الموارد الكونغولية
تكرر الكونغو نموذجاً معروفاً للصراعات الممتدة في أفريقيا، التي تتداخل فيها معطيات الصراع بين التفاعلات الداخلية والأدوار الإقليمية والأطماع الدولية في الموارد الطبيعية، لكن ما يميز الصراع في الكونغو ربما امتداده الطويل، وفشل كل الأدوار في تحجيمه، خصوصاً الدور الأنغولي الذي لا يزال يطرح وساطاته، وآخرها تلك التي مقرر عقدها خلال الأيام المقبلة، إذ يعترف الأنغوليون للمرة الأولى بالمتمردين "حركة أم 23" طرفاً مفاوضاً بعدما كانت وساطاته السابقة تركز على الداعم الإقليمي لهم وهو رواندا.
والتساؤل الرئيس: هل يسهم الاعتراف بالمتمردين طرفاً مفاوضاً في إقرار سلام في الكونغو، التي نزح منها 7 ملايين نسمة نتيجة الصراع المسلح فيها، أم أن هذا الاعتراف هو تعبير عن ضعف الدولة وقابليتها للانهيار بعد الاستيلاء على ثاني أهم مدينة في البلاد "بوكافو"، وذلك بعد الاستيلاء على جوما عاصمة شرق البلاد، خصوصاً أن التدخل الأنغولي الأخير جاء بعد زيارة من الرئيس تشيسكيدي نظيره الأنغولي؟
وقد يكون من المهم هنا التعرض لأصل الصراع وتطوراته، في محاولة لقياس إمكان تهدئة هذا الصراع المتسبب في أعقد الأزمات الإنسانية حول العالم، بعدما كانت تتصدره، لكن السودان حاز هذه المكانة بعد الحرب فيه قبل عامين تقريباً، ونزوح 11 مليون نسمة منه.
أصل الصراع
تستقر معظم الأدبيات والمتابعات على تصنيف الصراع في الكونغو أنه قبلي عرقي مركب له امتداد إقليمي، مع الإشارة إلى دور الاستعمار البلجيكي في تدشين وتعميق مثل هذا الصراع بين كل من التوتسي والهوتو القبيلتين القائدتين هذا الصراع على مدى ما يقارب قرناً من الزمان، وفي هذا السياق يُتجاهل الصراع الاجتماعي كمعطى محرك ومسؤول عن تطور الصراع إلى صراع دموي مسلح منذ منتصف القرن الـ20.
فقد تميز التوتسي عن الهوتو بامتلاكهم الماشية، بينما يمتهن الهوتو الزراعة، وهو ما أسهم في أوضاع اقتصادية للتوتسي أفضل من الهوتو، على رغم أنهم قد استوطنوا مناطقهم في وقت لاحق على استيطان الهوتو، إذ يعتقد أن التوتسي قدموا من إثيوبيا منذ العصور الوسطى بينما جاء الهوتو قبلهم قادمين من تشاد.
عام 1925 سلم البلجيكيون السلطة المحلية للتوتسي من دون مشاركة الهوتو، إذ مارس التوتسي ممارسات استعبادية ضد الهوتو، وهو ما فجر ثورة الهوتو ضد التوتسي عام 1957، التي كانت ذات طابع دموي.
وقد انقسمت هذه المنطقة إلى دولتين حصلتا على استقلالهما عام 1962 هما رواندا وبوروندي، لكن بتكوين عرقي مختلط للدولتين بين التوتسي والهوتو، مما أسهم في اندلاع حرب إبادة جماعية في رواندا عام 1944 بعد اندلاع صراع، بسبب مقتل الرئيس البوروندي من الهوتو قرب مطار كيجالي في رواندا.
خسر الهوتو هذا الصراع في نهاية الأمر، وهربوا إلى منطقة شرق الكونغو التي يدور فيها الصراع الحالي في إقليم كيفو شرق البلاد، إذ تُتهم سلطات الكونغو بتقديم غطاء وحماية للهوتو ضد التوتسي المكونين لجماعات التمرد والمدعومين من رواندا.
أثمان الصراع
كالعادة الأفارقة المدنيون هم من يدفعون الثمن قتلاً أو نزوحاً، إذ سجلت حوادث العنف مقتل 700 شخص خلال خمسة أيام فقط في مطلع العام الحالي، كذلك غادر نحو 800 ألف شخص شرق الكونغو في الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حتى يناير (كانون الثاني) 2025، وذلك إلى بوروندي الدولة الفقيرة، التي تعجز عن تدبير شروط الحد الأدنى للحياة للاجئين إليها، كذلك جرى تعليق برامج الدعم والمساعدة الدولية اعتباراً من مطلع العام الحالي، نظراً إلى تصاعد العنف، فاكتظت المعسكرات بالبشر بلا أي عون، حيث تتفشى حالياً المجاعة والأمراض المميتة معاً مثل وباء الكوليرا والحصبة، وذلك فضلاً عن انتشار العنف الجنسي واغتصاب النساء مع عدم توافر شروط الحماية.
مع حال السيولة الأمنية في شرق الكونغو فإن إمكان نزح الموارد يكون عالياً سواء للميليشيات المسلحة أو الشركات المدعومة من دولها، إذ ينشط الإسرائيليون مثلاً في الحصول على الألماس بينما يسعى آخرون وراء الكوبالت.
تفاعلات الصراع ومؤثراته
أسهم الصراع على السلطة في الكونغو نهاية التسعينيات من القرن الماضي، في تشكيل التفاعلات الإقليمية في هذه المنطقة على مدى العقود الثلاثة التالية، حيث جنوب السودان شمالاً، وأوغندا ورواندا وبوروندي من الشرق، إذ تتموضع الكونغو بين سبع دول هي أفريقيا الوسطى وجنوب السودان شمالاً ورواندا وبوروندي وأوغندا شرقاً، وكذلك زامبيا وأنغولا من الجنوب، وهي ثاني أكبر دولة في أفريقيا، ويقدر عدد السكان بنحو 86.8 مليون نسمة طبقاً لتعداد 2019.
ويعد الدور الرواندي هو الأبرز في التفاعلات الإقليمية عطفاً على مساندته القبلية والعرقية لقبيلة التوتسي، وأيضاً وجود مطامع رواندية في شرق الكونغو، إذ تبلورت السياسات الرواندية على التدخل في التفاعلات المحلية لجارتها الكونغو الذي يعد أيضاً أحد تداعيات حرب الإبادة الجماعية في رواندا.
وقد أسفر إسناد رواندا وأوغندا الرئيس كابيلا للوصول إلى الحكم وإطاحة سلفه سيكوسيكو في دخول أنغولا على خط الصراع في الكونغو داعمة لها ضد التغول الرواندي في الكونغو، الذي جاء على خلفية إنكار كابيلا حلفاءه الذين ساعدوه للوصول إلى الحكم.
في يوليو (تموز) عام 1998 ونتيجة الضغوط الداخلية والخارجية اتخذ الرئيس الكونغولي كابيلا قراراً بطرد الروانديين من بلاده، الذين كانوا يحتلون مناصب عليا في الجيش والدولة معاً ثمناً لدعمه.
في المقابل مارست رواندا اجتياحاً عسكرياً للكونغو كان مخططاً له الوصول إلى كينشاسا عاصمة البلاد وإطاحة الرئيس الكونغولي كابيلا، لكن الأخير تلقى دعماً من زيمبابوي وأنغولا ضد رواندا، إذ حاولت زيمبابوي الحفاظ على التعاقدات الاستثمارية، التي أبرمتها مع كابيلا، بينما كانت الدوافع الأنغولية مرتبطة بأوضاعها الداخلية، وخشية دعم الجماعات المتمردة (بونيتا) فيها من جانب رواندا، خصوصاً أن أنغولا عانت بدورها مرارة حرب أهلية في سبعينيات القرن الماضي.
سيناريوهات الأزمة
طبقاً للديناميات السالف ذكرها على المستوى الإقليمي فإن تفاعلات الصراع في شرق الكونغو تحتمل أكثر من سيناريو في هذه المرحلة. السيناريو الأول: تقديم دعم دولي لأنغولا في إنجاح دورها وسيطاً بين جماعة "أم 23" المنضوي تحت مظلتها 100 فصيل مسلح والحكومة المركزية، وذلك في سياق محلي، وبممارسة ضغوط على رواندا، ومن ثم الوصول إلى اتفاق سلام بين الطرفين، لكن نجاح هذا السيناريو يرتبط بمدى إدراك المتمردين أن الدعم الرواندي على رغم تاريخية تدخله فإنه لم يحرز نجاحاً مفصلياً في تحقيق أهدافة الإستراتيجية في الكونغو، لعدد من العوامل منها صعوبة اجتياح كينشاسا، التي تبعد 1000 ميل تقريباً عن رواندا، وكذلك محدودية الدعم الرواندي العسكري لـ"أم 23" الذي لا يتجاوز 4 آلاف عنصر مسلح.
السيناريو الثاني: إهمال مثل هذا الصراع من جانب الأطراف الدولية، وترك مساحات أكبر للأدوار الإقليمية، في ضوء تراجع الهيمنة المستقرة للقطب الأميركي حول العالم، وانشغاله بأزمات عالمية مؤثرة في وزنه المستقبلي في النظام الدولي.
أما على الصعيد الأوروبي فإن الانشغال الأوروبي بالمجريات في الكونغو قد يكون هامشياً، وذلك في ضوء ضغوط الحرب في أوكرانيا وما تمثله من تهديدات في أوروبا، وكذلك العلاقات الأوروبية - الأميركية، وأيضاً الاحتياج إلى دعم الإمكانات الدفاعية الأوروبية تحت مظلة اقتصادات أوروبية تواجه تحديات كبيرة.
وطبقاً لذلك فإن الصراع في الكونغو من الممكن أن يكون مرشحاً للتصاعد في ضوء القدرات الإقليمية شبه المتماثلة بين الدول المحيطة بالكونغو، لذا لا يكون هناك قدرة على حسمه، خصوصاً أن عدم الحسم هو خيار تدعمه شبكات المستفيدين من الموارد الكونغولية.
في هذا السياق ربما يمتد هذا الصراع على المستوى الإقليمي في ضوء الهشاشة لمؤسسة الدولة وضعف الاندماج الوطني على الصعيد الاجتماعي، وكذلك انتشار الجماعات والميليشيات المتمردة ضد الحكومات، وكلها أوضاع تعانيها جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وأنغولا، فضلاً عن الكونغو، بما يشكل مزيداً من أسباب ضعف الأفارقة والقدرة على نهب ثرواتهم من الموارد الطبيعية، التي تعد معطى أساساً في عالمنا اليوم للصناعات التكنولوجية والتقدم الاقتصادي.