ملخص
في الأوساط الأوروبية الثقافية والإعلامية والجامعية، حين تكون هناك ضجة إيجابية أو سلبية حول كتاب صدر حديثاً برؤية جمالية وفكرية خارجة عن المعتاد وخارجة عن التقليد، تنتج من ذلك فوراً ظاهرة سيسيو-ثقافية تتميز بارتفاع منسوب القراءة لهذا الوافد الجديد.
حين نتأمل بهدوء تاريخ الكتاب الإبداعي والفكري في العالم العربي والمغاربي ونقف عند ما جرى لبعض النصوص الفاصلة من سحل ومنع وقص جراء رقابة المؤسسات الرسمية أو الغوغاء على حد سواء، ندرك بأن من يحرك عملية المنع في غالب الأحيان هم أشباه المثقفين الذين تقتلهم الغيرة أو الخوف من المنافسة الشريفة، فيجيشون الغوغاء التي يقرأون نيابة عنها ويفكرون بدلاً منها لخلق ما يسمى بالفتنة، يكشف هذا السلوك المتأصل في حقلنا الثقافي منذ قرون وبجلاء شقاء العقل الإبداعي ومحنة المثقف في العالم العربي والإسلامي بشكل عام.
نحتفل هذه الأيام بمرور قرن على صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين الذي صدر عام 1926، ومعه نُذكر ونتذكر تلك النقاشات التي صاحبت صدور هذا الكتاب المفصلي في تاريخ جرأة العقل العربي المعاصر، ونستعيد كيف خرج الحوار الفكري والأدبي من دائرة مناقشة الأفكار إلى دائرة الاتهام والقذف والمطالبة بالقصاص لمؤلف الكتاب، ومثل هذا السلوك حدث أيضاً مع كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للتونسي الطاهر الحداد كتبه عام 1929، ومع كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق الذي صدر عام 1925، ومع كتاب "نقد الوعي الديني" لصادق جلال العظم الذي صدر عام 1969، ليبين هذا السلوك القمعي الممارس على النخب التجديدية من قبل التيار السلفي السياسي والفكري والديني بأن العقل العربي عقل إلغائي، عقل نقلي، عقل واحدي، عقل الخلافة، أو هكذا يراد له أن يكون.
والأمر لم يتوقف عند جيل طه حسين من رجالات النهضة الثانية في الأدب والنقد والفكر ولكنه استمر حتى اليوم، ولم يتوقف عند محاكمة كتب الفكر والفلسفة بل مس جميع كتب الإبداع والفنون أي تلك التي تشتغل على الخيال، من رواية وشعر وسينما وموسيقى ورسم ليصل إلى فن اللباس، ولاستكمال بعض من صورة شقاء العقل المبدع العربي ومحنة المبدعين علينا أن نُذكر بما عانته بعض النصوص المركزية في تجربة الكتابة الإبداعية وعلى رأسها رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وهي الرواية التي نوهت بها لجنة جائزة "نوبل" للآداب في تقريرها في حفل تتويج الروائي بهذه الجائزة عام 1988، كتبت الرواية في الخمسينيات، صدرت للمرة الأولى في كتاب عام 1962 بعد أن كانت قد نشرت مسلسلة في "صحيفة الأهرام"، ولأجلها وعنها جرى تكفير صاحبها والمطالبة برأسه، وهو ما حدث بالفعل في أكتوبر (تشرين الأول) 1989 إذ نجا الكاتب بأعجوبة من محاولة اغتيال إرهابية خرج منها مشلولاً، ويشهد منفذ العملية بأنه قام بهذا الفعل ضد الكاتب لأنه كافر.
وعلى مسافة زمنية غير بعيدة نذكر ونُذكر بالتظاهرات التي خرجت من "جامعة الأزهر" للتنديد برواية "وليمة لأعشاب البحر" وبمؤلفها الروائي السوري حيدر حيدر، ويظل الاتهام نفسه هو المس بالذات الإلهية، والمطالبة نفسها: رأس الكاتب، وكأن هؤلاء هم حماة "الله" تبارك وتعالى على الأرض، وكأن الله تبارك وتعالى، أوكل إليهم حراسته كما يُحرس ملك أو خليفة أو ديكتاتور، ومن الروايات أيضاً التي عرفت تضييقاً ومنعاً لمدة طويلة، ولا تزال ممنوعة في بعض الدول العربية، هي رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري.
وكما الإبداع الأدبي لم يفلت من سلطة الرقيب المؤسساتي أو الغوغائي أو هما معاً، أو بإيعاز من أحدهما للآخر، لم تنجُ الموسيقى العربية من هذه الملاحقات والمضايقات والتكفير، ونذكر هنا ما عاشه الفنان عبدالحليم حافظ من ملاحقات من قبل المحافظين السلفيين حين غنى قصيدة "لست أدري" لإيليا أبو ماضي، وما تعرض له الفنان مرسيل خليفة حين أدى قصيدة "أنا يوسف يا أبي" لمحمود درويش.
سلوك غريب ومتواصل يمارس ضد حرية الإبداع عند العرب والمسلمين، من قديم الزمن إلى يوم الناس هذا، يبدأ هذا المنع بتحريك آلة الرقابة من قبل فئة من الكتاب ضد واحد منهم ثم ينتقل الضجيج إلى مربع أهل سلطة الدين لتشعل هذه الأخيرة النار في الغوغاء لتصل إلى أهل السياسة وذوي القرار المؤسساتي، وهكذا تكتمل دائرة الخناق على الكاتب المقصود.
كلما شارك في النقاش حول الإبداع أطراف متعددة تحترم الاختلاف وتدافع عنه، نقاش مؤسس على قاعدة أساس أولية هي القراءة والفهم، القراءة الحرة لا القراءة بنية مسبقة، كان الواقع الفكري والإبداعي بصحة جيدة، في مثل هذا الجو الذي تسود فيه القراءة المتعددة تختفي مظاهر التكفير والاغتيالات وأحكام التخوين.
هذه الحال من الرقابة الغبية الممارسة من قبل ترسانة الأجهزة الأيديولوجية المتمثلة أساساً في الإعلام والمدرسة والدين الوظيفي المؤسساتي المتطرف، خلفت كثيراً من التشوهات الفكرية والسياسية والدينية في مجتمعاتنا العربية والمغاربية، لقد وجد المواطن العربي والمغاربي نفسه يعيش في مجتمع يهيمن فيه وعليه العقل الديني النقلي السلفي الذي قضى على العقل الديني المتسامح الذي يؤمن بالعيش المشترك، أو يهيمن فيه العقل العاطفي الواقع ضحية قراءات أدبية مراهقة أو فكرية تمثلها كتب تهريجة تسمى "التنمية البشرية"، أو روايات وردية، أو تحت سلطة العقل الشوفيني الضيق الذي يعتقد بأن العالم ينتهي عند حدود وطنه ولغته، أو تحت هيمنة عقل الإمامة الذي يروج لتأليه الخليفة أو الديكتاتور.
في الأوساط الأوروبية الثقافية والإعلامية والجامعية، حين تكون هناك ضجة إيجابية أو سلبية حول كتاب صدر حديثاً برؤية جمالية وفكرية خارجة عن "المعتاد"، خارجة عن "التقليد"، تنتج من ذلك فوراً ظاهرة سيسيو-ثقافية تتميز بارتفاع منسوب القراءة لهذا "الوافد الجديد"، إذ يزداد الفضول الثقافي، وتتوسع قاعدة القراء وتتكرس جراء ذلك علاقة جديدة ما بين أجيال القراءة وما بين أجيال الكتاب، وما بين أجيال الناشرين والمكتبيين، وأمام هذه الحال الديناميكية تتوسع استقلالية الحقل الأدبي ويرتفع سقف حرية الخيال كقوة اجتماعية وسياسية وأخلاقية فاعلة ومُغيرة، ويدفع هذا النقاش حول هذا الإنتاج غير المعتاد إلى ارتفاع في اقتصاد سوق الكتاب، ويحقق الكاتب سلطة معنوية ورمزية، أما عند العرب والمغاربيين فالرواية التي تُحدث ضجة أو تكسيراً في "النمط التقليدي" هي نص "ملعون"، يحارب من على كثير من الجبهات، الجبهة الأيديولوجية وكأن الرواية بيان بروباغندا، وعلى الجبهة السياسية وكأن الكاتب عضو في حزب سياسي محدد وأن الرواية تفصيل أو تفسير أو لسان حال هذا الحزب أو ذاك، وعلى الجبهة الدينية وكأن الكاتب فقيه يفتي أو إمام يؤم المؤمنين في الصلاة، في العالم العربي والمغاربي الثقافي والأدبي يكثر الكلام أو بالأحرى الثرثرة على الرصيف وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ثرثرة مليئة بالقذف والشتم والتكفير والتخوين والتهويد وما إلى ذلك من مفاسد الكلام من دون العودة للنص، حين نقف على هذا الكم الهائل من الشتائم والقذف ضد هذا الكاتب أو هذا الكتاب نعتقد بأن هؤلاء جميعاً قرأوا الكتاب المقصود وهم يناقشونه من الداخل، ولكن حين ترى حجم المبيعات تتأكد بأن العربي والمغاربي، لا يزال كائناً شفوياً، لا يقرأ ولكنه يتكلم، لا يقرأ ولكن يطالب بحقه في النقد والرأي والاختلاف ولو من فراغ، ولو نقلاً عن "راديو تروتوار".
في أوروبا والعالم الغربي بشكل عام، هذا الحديث لا يعني مطلقاً بأن هذا الغرب مثالي ونزيه بل إن له أمراضه الأخرى والكثيرة، في هذا الغرب تتابع الجامعة، مثلاً، وبكثير من الحرص النقدي النظري والسوسيولوجي، الظواهر الجديدة في الأدب سلباً وإيجاباً، ونذكر هنا على سبيل المثال ما يحدث هذه الأيام من متابعات نقدية نظرية وميدانية وتفكيرات جادة حول الظاهرة الأدبية السردية الجديدة المسماة "نيو رومانس"New romance أو "دارك رومانس" La dark romance والتي تشكل انقلاباً في التقاليد الاجتماعية والسياسية والسيكولوجية واللغوية والجمالية للأدب الروائي في أوروبا. تحمل هذه الضجة الإبداعية انقلاباً على الكتابة الروائية على مستوى اللغة والبناء السردي وعلى مستوى المضامين المطروحة والمتعلقة أساساً بالعنف والحب والجنس والمخدرات والعاطفة، فالمجتمع الثقافي والأدبي والجامعي والإعلامي الجاد يتابع عن كثب هذا التحول في الكتابة السردية، ويثير القضايا التي تتولد عن استهلاك هذا الأدب الذي يقبل عليه الشباب بكثير من الرغبة والشهوة والغرابة، والأمر نفسه كان قد حدث مع ظهور الرواية الجديدة وانتشارها الكثيف في الستينيات والسبعينيات، إذ كرس النقد الجامعي والثقافي العام والإعلامي كثيراً من المجهودات لفهم هذه الظاهرة التي جاءت على قاعدة "أن البطل في هذه الرواية هي الكتابة نفسها"، أما الجامعة في البلدان العربية والمغاربية بشكل عام فإنها تعيش حال "بيات شتوي طويل ممتد على كل الفصول" وقطيعة، بل إنها تدير ظهرها لمثل هذه الظواهر الأدبية الجديدة، بل أكثر من ذلك فهي تحرك جيوشاً ضدها بمنع الطلبة الباحثين من الجيل الجديد الاشتغال على كل كاتب يخرج عن مقاييس الكتابة التقليدية الباردة.