ملخص
خلال الأعوام الـ20 الماضية، فقد 2344 من أفراد الأمن حياتهم في معارك ضد الناكساليين، وفاق عدد الأفراد الذين لقوا حتفهم في معارك ضد هؤلاء المتمردين عدد الإرهابيين في جامو وكشمير. وكان عدد الضحايا المدنيين أعلى من ذلك، إذ قتل 6258 شخصاً في أعمال عنف مرتبطة بالناكسال على مدى العقدين الماضيين.
كثيراً ما شكل التمرد المسلح تحدياً أمنياً مستمراً في الهند، إذ تشهد بعض المناطق أعمال عنف شبه يومية. ومع ذلك يظل التركيز الإعلامي بصورة أساسية على كشمير، نظراً إلى تورط باكستان، مما يجعلها قضية ساخنة تثير الجدل.
وتواصل قوات الأمن الهندية عملياتها المكثفة ضد الجماعات الناكسالية المسلحة، بهدف القضاء عليها أو إجبارها على الاستسلام. وفي أحدث المواجهات، نفذت قوات الأمن والشرطة، في الـ20 من مارس (آذار) 2025، عمليتين منفصلتين في ولاية تشهاتيسجاره بوسط الهند، أسفرتا عن مقتل 22 عنصراً من المتمردين الماويين الهنود، في حين سقط أحد الجنود خلال الاشتباكات.
على مدى العقود الستة الماضية، واجهت الهند تهديداً أمنياً داخلياً مستمراً من حركة المتمردين الماويين، الذين يعرفون أيضاً باسم الناكساليين، نسبة إلى قرية ناكسالباري في ولاية البنغال الغربية شرق الهند. ويقود هؤلاء المتمردون تمرداً تسبب في سقوط عشرات الآلاف من القتلى، في إطار نضالهم لمنح الفلاحين القبليين والعمال الذين لا يملكون أراضي حقوقاً أكبر في الأراضي والثروات الطبيعية داخل الغابات. وعلى مر السنين، انتشرت الحركة في المناطق الأقل نمواً في تشهاتيسجاره وأوديشا وأندرا براديش.
خلال الأعوام الـ20 الماضية، فقد 2344 من أفراد الأمن حياتهم في معارك ضد الناكساليين، أي أكثر من أربعة أضعاف عدد الجنود الذين قتلوا في حرب كارجيل التي استمرت لمدة ثلاثة أشهر تقريباً خلال صيف عام 1999 بين الهند وباكستان. وفاق عدد الأفراد الذين لقوا حتفهم في معارك ضد الناكساليين عدد الإرهابيين في جامو وكشمير. وكان عدد الضحايا المدنيين أعلى من ذلك، إذ قتل 6258 شخصاً في أعمال عنف مرتبطة بالناكسال على مدى العقدين الماضيين.
جذور الناكسالية
يصف كين بليتشر، كبير المحررين السابق في موسوعة "بريتانيكا"، الناكساليين بأنهم متمردون ماويون في الهند يستلهمون فكر الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وخاضوا صراعاً مستمراً منذ أكثر من أربعة عقود، مطالبين بمنح الفلاحين والفئات الفقيرة حقوقهم في الأراضي وفرص العمل. وتنشط هذه الحركة في الهند منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، وترجع تسميتها إلى بلدة ناكسالباري في ولاية البنغال الغربية، إذ أشعلت انتفاضة فلاحية عام 1967 شرارة حركة شيوعية مسلحة.
يدعي الناكساليون أنهم يمثلون الفئات المهمشة، لا سيما قبائل الأديواسي، السكان الأصليين للغابات، الذين اعتادوا العيش في انسجام مع الطبيعة، إذ يعتمدون على الصيد، وجمع النباتات، واستخدام الأعشاب في علاج أمراضهم.
عند وصول البريطانيين إلى الهند وبدء عمليات التعدين في الغابات، اندلعت اشتباكات عديدة بين القوات البريطانية والقبائل، وفق ما ورد في كتب التاريخ. وخلال الحكم البريطاني، منح ملاك الأراضي المحليون مساحات شاسعة في مقابل تحصيل الضرائب، بينما استأجر الفلاحون هذه الأراضي في مقابل نصف محاصيلهم، في نظام شبيه بـ"الإقطاع الأوروبي" في العصور الوسطى.
بعد استقلال الهند، لم يتغير الوضع كثيراً، إذ واصلت الحكومة تخصيص أراضي الغابات للأثرياء والمستثمرين، بينما استولى "الغرباء الأقوياء" على ممتلكات القبائل بالقوة مستغلين مواردهم. وأمام هذا القمع لجأت بعض القبائل إلى التمرد وحمل بعض منهم السلاح وانخرطوا في الثورة. منذ ذلك الحين، خاض الناكساليون حرب عصابات استهدفت "الغرباء الأقوياء" والشركات والمسؤولين الحكوميين وقوات الأمن، إلى جانب تنفيذ عمليات تخريب للبنية التحتية. ومع توسع نفوذهم، فرضوا سيطرتهم على مناطق واسعة في شرق الهند، بل وتولوا أدواراً إدارية في بعض المناطق الخاضعة لهم، على رغم الاتهامات التي تلاحقهم بارتكاب انتهاكات وممارسات قمعية ضد السكان المحليين.
من يمولهم؟
تشير تقارير حديثة إلى أن الناكساليين عززوا ارتباطهم بشبكات الجريمة المنظمة لتمويل تمردهم، بخاصة مع تصعيد الهند لعمليات مكافحة التمرد. ففي عام 2018، صادرت الشرطة كميات من الهيروين بقيمة 700 مليون روبية (8.4 مليون دولار أميركي) من مناطق نفوذهم، وسط تكهنات بانخراطهم في تجارة المخدرات، بعد تشديد الرقابة على طريق التهريب الأفغاني - الباكستاني. كما يعتمد الماويون على زراعة الأفيون في ولاية جارخاند منذ عام 2007، ويشتبه في استفادتهم من تهريب القنب في ولاية أوديشا شرق الهند.
إلى جانب ذلك، اتهمت السلطات الهندية الناكساليين بوجود صلات بينهم وجهاز الاستخبارات الباكستاني "آي إس آي". ففي عام 2008، زعم أن 500 متمرد ماوي تلقوا تدريباً مع حركة الطلاب الإسلاميين في الهند، وهي منظمة محظورة يعتقد أن لها علاقات بالاستخبارات الباكستانية. وبعد ذلك بعامين، أفادت التقارير بأن عناصر من جماعة لشكر طيبة، المدعومة من باكستان، التقوا بقيادات ناكسالية.
وفقاً للسلطات الهندية، يسعى الناكساليون إلى الحصول على دعم خارجي لتعزيز عملياتهم، إذ لا تكفي "الضرائب الثورية" والنهب وحدهما. كما لجأوا إلى الابتزاز، إذ فرضوا على السكان المحليين ورجال الأعمال الكبار دفع ما أطلقوا عليه "ضريبة الحياة".
يقول سوديب تشاكرافارتي، مؤلف كتاب "الشمس الحمراء: رحلات في بلاد الناكساليت"، لـ"اندبندنت عربية"، "كان هناك وقت لم تكن فيه قوات المتمردين الماويين منتشرة في كل مكان، لكنها كانت تستهدف الأغنياء، وأحياناً الفقراء. كانوا يأتون ليلاً ويطلبون الطعام، إذ نادراً ما كانوا يظهرون خلال النهار. كانت القرى ملاذهم المفضل، حتى إن الشرطة كانت تخشى دخول المناطق التي يسيطرون عليها".
الكلفة البشرية
دفع المدنيون الثمن الأكبر في صراع الناكساليين، وما زالوا يعانون تداعياته. فقد تسبب التمرد بين عامي 1980 و2015 في مقتل 20012 شخصاً، من بينهم 12146 مدنياً، و4761 متمرداً، و3105 من أفراد الأمن. ووفقاً لتقرير صادر عن وزارة الداخلية الهندية عام 2019، قتل ما معدله 417 مدنياً سنوياً منذ عام 2010 في نحو 1200 حادثة عنف مرتبط بالماويين، كما كشف تقرير برلماني حديث عن أرقام تعكس حجم العنف.
فبين 2004 و2014، شهدت الهند 17679 حادثة عنف أدت إلى 6984 وفاة، إذ تصنف الحكومة هذه الحوادث ضمن التطرف اليساري (LWE) بدلاً من اعتبارها إرهاباً. وفي الفترة بين 2014 والـ15 من يونيو (حزيران) 2023، انخفضت الأرقام بصورة كبيرة، إذ سجلت 7649 حادثة و2020 حالة وفاة. وتشير بيانات الحكومة إلى تحسن ملحوظ في الوضع الأمني، إذ انخفضت أعمال العنف بنسبة 52 في المئة (من 14862 إلى 7130 حادثة)، بينما تراجعت الوفيات بنسبة 69 في المئة (من 6035 إلى 1868) خلال السنوات التسع الأخيرة مقارنة بالفترة التي سبقتها.
العدو الأخطر
يؤكد خبراء الأمن أن تمرد الناكساليين، في ذروته، كان يؤثر في 80 مليون شخص، معظمهم من القبائل، ممتداً عبر 10 ولايات في ما يعرف بـ"الممر الأحمر"، الذي شمل أندرا براديش وبيهار وتشهاتيسجاره وجارخاند وماديا براديش وماهاراشترا وأوديشا وتيلانغانا والبنغال الغربية وأوتار براديش، لكن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً، إذ تمكنت حكومة ناريندرا مودي من توجيه ضربات حاسمة لما تصفه بـ"العدو الأخطر للدولة الهندية"، مما أدى إلى انحسار التمرد بصورة كبيرة، ولم يعد التهديد واسع الانتشار كما كان، بل تراجعت حدوده بصورة كبيرة ليتركز في منطقة باستار في تشهاتيسجاره، التي لا تزال تشهد معارك ضارية.
عند تولي مودي رئاسة الوزراء في 2014، كانت 126 مقاطعة في 10 ولايات تصنف ضمن المناطق الأكثر تضرراً من عنف الناكساليين. إلا أن الحكومة تؤكد أنه بحلول أوائل 2025 انخفض هذا العدد إلى 12 مقاطعة فقط، تتركز غالبيتها في باستار، بينما تبقى بضع مناطق في أوديشا وجارخاند وماهاراشترا وماديا براديش. هذا التقدم الكبير دفع أميت شاه إلى التصريح بثقة في مقابلة مع قناة "إنديا تودي"، "أنا على يقين أنه بحلول مارس (آذار) 2026، ستكون الهند خالية تماماً من تهديد الناكساليين".
الدم والتنمية
تصنف الحكومة الهندية الجماعات الناكسالية كمنظمات إرهابية، وتحظر تنظيمات رئيسة مثل الحزب الشيوعي الهندي – الماوي، وتواصل قوات الأمن تنفيذ عمليات عسكرية مكثفة ضدهم، لكن بنتائج متفاوتة. وبينما لا يزال الصراع مستمراً من دون حلول جذرية، خلف التمرد آلاف القتلى وأدى إلى نزوح واسع، ليظل واحداً من أطول النزاعات الداخلية في تاريخ الهند الحديث.
سعياً إلى القضاء على الناكسالية، تعتمد الحكومة الهندية نهجاً مزدوجاً يجمع بين العمليات الأمنية وبرامج التنمية، بما في ذلك بناء الطرق والمدارس وتحسين البنية التحتية، بهدف السيطرة على المناطق المتضررة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
في مقابلة مع قناة "دودارشن" الحكومية، أكد وزير الشؤون الداخلية أميت شاه أن الناكسالية تمثل العقبة الأكبر أمام تنمية المجتمعات القبلية، إذ تعوق الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، مشيراً إلى أن الحكومة أحرزت تقدماً ملموساً في مواجهة التمرد من خلال مجموعة من الإجراءات، إذ تراجعت الحوادث المرتبطة بالناكساليين بنسبة 53 في المئة بين 2004-2014 و2014-2024، وانخفض عدد الوفيات بنسبة 70 في المئة خلال الفترة ذاتها.
على الصعيد الأمني، تم منذ عام 2019 إنشاء 280 معسكراً أمنياً لتعزيز وجود القوات في المناطق المتوترة، إضافة إلى نشر 15 فرقة عمل مشتركة وست كتائب من قوة شرطة الاحتياطي المركزية لمكافحة الناكساليين. في موازاة ذلك، استثمرت الحكومة في مشاريع تنموية واسعة، تضمنت بناء 14400 كيلومتر من الطرق لربط المناطق النائية، وتركيب 6 آلاف برج اتصالات لتعزيز الاتصال في القرى المعزولة، وإنشاء 544 مركز شرطة محصناً لحماية المدنيين والقوات الأمنية.
في مجال التعليم والتنمية الاقتصادية، خصصت الهند 449 كرور روبية هندية (53.8 مليون دولار أميركي) لدعم التعليم في المناطق المتأثرة بالناكسالية، كما جرى افتتاح 1007 فروع مصرفية جديدة و900 جهاز صراف آلي لتعزيز الشمول المالي للسكان المحليين. وعلى مستوى استهداف القيادات، تمكنت القوات الأمنية من اغتيال 14 قائداً ناكسالياً بارزاً. وأكد أميت شاه أن القضاء على الناكسالية يمثل شرطاً أساسياً لتحقيق تنمية وطنية شاملة، داعياً إلى تكثيف الجهود لإنهاء التمرد بصورة كاملة، وضمان استقرار المناطق المتأثرة، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام يخدم جميع فئات المجتمع الهندي.
الانتهاكات والضحايا
تبدو عمليات الحكومة الهندية ضد الناكساليين حاسمة، لكنها تخلف وراءها دماراً هائلاً على الأرض. ففي تشاتيسغار وحدها، تزعم السلطات أنها قتلت 287 ناكسالياً عام 2024، مقارنة بـ20 فقط في 2023، مما يبرز تصعيداً حاداً في المواجهة. مع ذلك، يؤكد القرويون المحليون أن عديداً من القتلى كانوا مدنيين أبرياء أعدموا في مواجهات مدبرة.
تقول الصحافية شريا رحمان، التي التقت بعائلات الضحايا العام الماضي، إن مداهمات الشرطة غالباً ما تتحول إلى حملات ترهيب تستهدف النساء بدلاً من عمليات تحقق دقيقة. وتنقل عن سكان القرى أن "الشرطة وقوات الأمن تقتحم منازلنا عند الفجر، ترعبنا، وتتعامل معنا كمجرمين قبل التحقق من أي شيء".
وتؤكد رحمان أن الواقع على الأرض يختلف تماماً عن الرواية الحكومية، إذ تتكرر انتهاكات حقوق الإنسان وسط تعتيم إعلامي ورسمي. وتشير إلى أن عديداً ممن يعلن اغتيالهم كناكساليين يتبين لاحقاً أنهم مجرد قرويين أبرياء، بينما تتحول القرى المستهدفة إلى بؤر صامتة للخوف، إذ لا يجرؤ أحد على الحديث.
الناشطة سوني سوري، التي سجنت وتعرضت للاعتداء الجنسي والتعذيب بسبب كشفها عن عمليات قتل وهمية، تؤكد أن القمع ضد القبائل لم يتوقف أبداً. وتقول "تريد الحكومة من القبائل مغادرة أراضيهم وغاباتهم ومياههم لإفساح المجال لمشاريع التعدين، وعندما يقاومون يوصمون بأنهم ناكساليون.
في أوديشا، واجهت النساء المتظاهرات ضد مشروع "سيجيمالي" لتعدين البوكسيت ترهيباً واغتصاباً وتهديدات بالقتل من الشرطة، مما يعيد إنتاج النمط ذاته: التهجير فالمقاومة فالقمع. دائرة لا تنتهي، مما يجعل القضاء على الناكسالية أكثر تعقيداً مما تدعيه الحكومة.