ملخص
قروناً من إستراتيجيات الأمن القومي، التي اعتمدت على الحماية التي يوفرها المحيطان الأطلسي والهادئ للولايات المتحدة الأميركية، تتعرض الآن لاهتزازات شديدة بسبب هذه الأسلحة التي تغزو مسافات شاسعة
لماذا لم تتعرض الولايات المتحدة الأميركية لأي نوع من أنواع الغزو العسكري المباشر في تاريخها الحديث؟
الجواب ببساطة شديدة: لأن الجغرافيا تحارب معها ضد أي من تسول له نفسه الهجوم عليها.
يقول الذين يعملون في عالم العقارات إن أي عقار مرتبك بموقعه وموضعه يكتسب قيمته من هذا العامل.
من هذا المنطلق يتضح كذلك أن التفوق العسكري العالمي مرتبط ارتباطاً جذرياً بالجغرافيا، وفي حال الولايات المتحدة نجد أنها تتمتع بمحيطات وبحيرات عظيمة وصحارى شاسعة، مما يجعلها معزولة عن العدوان الخارجي.
تتمترس الولايات المتحدة وراء محيطين، الأطلسي من الشرق والهادئ من الغرب، وعليه فقد كان ولا يزال على أي غاز يتطلع إلى غزو أميركا أن يُنشئ سلسلة إمداد كاملة تعبر من المحيط إلى المحيط، مما يعد حتى الساعة أمراً شبه مستحيل، لا سيما في ظل قدرات البحرية الأميركية التي ورثت مقدرات البحرية البريطانية قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تجوب قطعها العائمة أرجاء المسكونة مرة كل 24 ساعة.
وبما أن عبور المحيطات أمر مستبعد، فإن غزو الولايات المتحدة يجب أن يأتي من حدود كندا أو المكسيك، غير أن الجغرافيا تفيد أميركا على هذا الصعيد كذلك، فمع وجود صحراء شاسعة في الجنوب الغربي، سيجبر ذلك الغزاة على التوجه إما إلى كاليفورنيا أو تكساس، وهما ولايتان تتمتعان بكثافة سكانية عسكرية وصناعات دفاعية ضخمة.
وفي الشمال سيضطر الغزاة إلى عبور البحيرات العظمى للوصول إلى أية مراكز سكانية قوية، أو في الأقل سيضطرون إلى عبور أنهار كثيرة في معظم المناطق الأخرى على طول الحدود الكندية.
في هذا الصدد يشير ديلان ليركي، وهو محلل في شؤون القوات المسلحة، إلى أن "القدرات العسكرية المشتركة لبقية دول العالم لن تكون كافية حتى للحصول على موطئ قدم في الولايات المتحدة القارية".
والشاهد أن غزو الولايات المتحدة لا يحتاج فقط إلى نقل القوات والعتاد إلى موقع الغزو، بل يجب عليه أيضاً نقلها أثناء القتال.
إلى هنا يبدو الحديث موصولاً بالماضي وليس بالحاضر، والسؤال: هل تغيرت أبجديات صراع المحيطات والبحار، لا سيما في ظل الطفرة غير المسبوقة في عدد وأنواع ومقدرات القطع البحرية الروسية والصينية؟ وهل البحرية الأميركية تتراجع بالفعل أمام اللاعبين الجدد في عالم البحار والمحيطات؟ وماذا عن مخططات الحصار البحري في المدى الزمني المنظور للإستراتيجيات العسكرية للدول الكبرى؟
هجمات غير مرئية عابرة للجغرافيا
ربما يجب علينا قبل الجواب عن علامات الاستفهام المتقدمة أن نتوقف قليلاً أمام فكرة المحيطات التي تصد وترد الغزاة، وكيف أنها باتت غير قادرة على حماية الولايات المتحدة من جهة، كما أنه يمكنها أن تيسر حصار دول أخرى كبرى مثل الصين من جانب الولايات المتحدة، وحديث البحار والمحيطات يفسر لنا لماذا تقاتل روسيا الاتحادية بضراوة من أجل البقاء إلى الأبد في شبه جزيرة القرم، حيث ميناء سيفاستابول، المنفذ الوحيد لها على المياه الدولية.
هنا يبدو واضحاً أن نمو تكنولوجيا الفضاء والإنترنت في جميع أنحاء العالم يزيد من احتمال وقوع الحرب، أو في الأقل آثارها المتتالية على عتبة أميركا.
لماذا هذا مهم؟
المؤكد أن قروناً من إستراتيجيات الأمن القومي، التي اعتمدت على الحماية التي يوفرها المحيطان الأطلسي والهادئ، تتعرض الآن لاهتزازات شديدة بسبب هذه الأسلحة التي تغزو مسافات شاسعة.
والمعروف أنه كثيراً ما تمتعت الولايات المتحدة بالتفوق في مجال الفضاء والفضاء الإلكتروني، لكن الصين وقوى أخرى تعمل على تقليص الفجوة، وتشهد الساحة العالمية مواجهة حامية الوطيس في مجال المراقبة.
في الأعوام القليلة الماضية لم تنفك الأنباء الواردة من الولايات المتحدة تشير إلى هرب قراصنة مرتبطين بجيش التحرير الشعبي الصيني وبحوزتهم ملفات لا حصر لها تفصل ترسانات الولايات المتحدة تفصيلاً، فيما يلاحق مخربون آخرون البنية التحتية الحيوية الأميركية، بما في ذلك جزيرة غوام، موطئ القدم الرئيس لواشنطن في المحيط الهادئ، ومن شأن أي هجوم رقمي هناك أن يضعف الاستجابات العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لقد بات الصراع السيبراني مدخلاً مؤكداً إلى عالم الصراعات العسكرية المقبلة، وفيما تتصاعد مقدرات كل دولة، لا سيما الدول الكبرى على صعيد الذكاءات الاصطناعية وتسخيرها للمواجهات المقبلة، تُطرح علامة استفهام على موائد النقاش: هل يعني ذلك أن أدوات المواجهة العسكرية التقليدية في البحار والمحيطات، من غواصات وحاملات طائرات، من سفن ومدمرات، من قطع بحرية شبحية ومخترعات لا تنفك تخرج على العالم، لم يعد لها حضور على سطح الأحداث، أم أنها لا تزال تحتل حيزاً واسعاً وربما تؤدي دوراً متقدماً في أي صراع عسكري في المدى المنظور؟
لتكن البداية من عند النظرة الأميركية لقوة حضورها البحري حول العالم، الذي يضمن لها مزيداً من السطوة في الخارج والحماية في الداخل.
أميركا وتأثير القوة البحرية في التاريخ
منذ أن نشر ألفريد ماهان كتابه "تأثير القوة البحرية في التاريخ"، أدرك علماء البحرية أن الدور الأساس للبحرية الأميركية هو التحكم في حركة المحيطات، هذه حقيقة خالدة، وإذا لم تضمن البحرية الأميركية السيطرة البحرية فستتولى جهة أخرى الأمر... هل لدى واشنطن شكوك في روسيا أم الصين بأكثر قدر؟
الذين تابعوا إستراتيجية الأمن القومي الأميركية الوحيدة التي صدرت خلال ولاية جو بايدن، يجد أن الصين هي التي تحتل صدارة المخاوف بل والتهديدات للولايات المتحدة، على رغم أن روسيا في الوقت الحاضر هي التي تشعل الحرب على الجبهة الأوكرانية.
يذهب الكابتن المتقاعد في البحرية الأميركية، سكوت تايت، إلى أن الحركة مهمة في جميع المجالات البحرية، ولكن بالنسبة إلى البحرية السطحية تعد الحركة أمراً أساساً والتحكم في الحركة يتجاوز مجرد المناورة في المعارك البحرية.
يقدر الأميركيون أن الصراع على البحار والمحيطات سينطلق في منطقة المحيط الهادئ أول الأمر قبل أن تمضي القوة البحرية الصينية المتقدمة إلى الغرب لجهة المحيط الأطلسي.
غير أنه قبل هذا وذاك، حكماً تركز الصين على منطقة بحر الصين الجنوبي، الذي تعتبره واشنطن مركز صراع متقدماً يمكن أن ينفلش، وهناك بالفعل من أدميرالات البحرية الأميركية من توقع سيناريو صدامياً عام 2027، يبدأ من تلك المنطقة التي تراها واشنطن مياهاً إقليمية، وصولاً إلى حجر الزاوية الأكبر والأخطر المتمثل في جزيرة تايوان.
في هذا السيناريو سيكون الهدف الأول للأسطول السطحي الأميركي هو "إعادة السيطرة البحرية لبحر الصين من الشرق إلى الغرب".
ويتمثل الهدف العملياتي للمرحلة الأولى في السماح لقوات المتابعة من الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها بالتدفق نحو تايوان كجزء من إستراتيجية أوسع لاستعادة السيطرة البحرية على الطريق المؤدية إلى الصين، وسيتطلب هذا إعادة السيطرة على عدد كبير من السفن والأسلحة، ودعماً من مجموعات الحرب البحرية الأخرى والقوة المشتركة والحلفاء، مع قيادة وتحكم متقنة وقوية ومرنة، وقابلية تشغيل متبادل على نطاق لم يشهده العالم في البحر منذ معركة أوكيناوا عام 1945.
هل على البحرية الأميركية أن تراجع أوراقها من جديد في مواجهة الأخطار العالية القدر التي تواجهها؟
يبدو أن عالم المحيطات والبحار يعيش بالفعل أزمنة عصيبة تتطلب جهوداً جبارة واستثمارات ضخمة.
اليوم يتذكر الأميركيون بنوع خاص ما قاله قائد الأسطول الأميركي، الأدميرال إرنست كينغ، من أن "لا شيء يبقى ثابتاً في الحرب أو الأسلحة العسكرية، لذا غالباً ما يكون من الخطر الاعتماد على مسارات توحي بها أوجه تشابه ظاهرة في الماضي".
ويعد النجاح في المجالي السطحي، أي فوق سطح المياه، عاملاً أساساً للانتقال إلى الهجوم ونقل المعركة إلى الصين ولتحقيق ذلك، يعد تحويل القوة السطحية أمراً أساساً.
هل أدرك الصينيون بالفعل إمكان تفوق الأميركيين على صعيد المجال السطحي للبحار والمحيطات، ومن ثم باتت إستراتيجيتهم تتجه إلى الأعماق، حيث الغواصات التي تشكل كابوساً ليلياً نووياً لواشنطن وحلفائها في الحال والاستقبال؟
عن الغواصة الصينية "تايب 096"
في منتصف مارس (آذار) الجاري قدمت مجلة "ناشونال أنترست" تقريراً عن تطوير الصين أنواعاً من الغواصات المتقدمة، التي يمكنها نقل معارك بكين إلى ما وراء المحيطات، لا سيما المحيط الهادئ، على الساحل الغربي للولايات المتحدة.
التقرير المشار إليه يتناول أحدث المبتكرات الصينية، أي الغواصة النووية "تايب 096"، التي يشك مجتمع الاستخبارات الأميركية أن الخبراء الروس قد ساعدوا الصينيين في تطويرها.
والمعروف أن بحرية جيش التحرير الشعبي الصيني "PLAN" تعمل على تطوير غواصتها من هذا النوع، منذ أوائل عشرينيات القرن الحالي، وقد كشفت صور الأقمار الاصطناعية الملتقطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 عن إجراء هيكل ضغط لغواصة كبيرة، يعتقد على نطاق واسع أنها من طراز "096"، تُجمع في حوض "بوهاي" لبناء السفن في هولوداو بمقاطعة لياوننيغ الصينية، ويعتقد معظم المحللين أن طراز "096" في طريقه إلى التشغيل قبل نهاية هذا العقد، وهو جدول زمني سريع للغاية، لا سيما بالمقارنة مع تطوير فئة فرجينيا المماثلة في الولايات المتحدة.
هل هناك أمر رمزي في حصول الصين على هذا النوع من الغواصات المتقدمة، التي تعد بداية قوية لخوض حروب المحيطات؟
تعد الغواصة الصينية "تايب 096" مثالاً آخر على سعي الجيش الصيني الحثيث إلى مواكبة الجيش الأميركي من جهة جودة أنظمته، بل وتفوقه عليه في بعض المجالات، ويعتقد أن الغواصة "تايب 096" ستخلف نظيرتها "094".
لماذا تعد هذه الغواصة كابوساً للبحرية الأميركية؟
تبلغ إزاحة الغواصة "تايب 096" نحو 20 ألف طن عند غمرها، مما يجعلها أكبر حجماً من سابقاتها، ويشتمل هذا الحجم المتزايد على تقنيات متطورة بما في ذلك نظام كتم صوت محسن يهدف إلى تقليل بصمة الصوت.
وتتميز غواصات "تايب 096" بتصميم "طوف" أي نظام دعم مطاطي لتخفف ضوضاء المحرك أثناء الإبحار.
من المتوقع أن تكون حزمة التسليح على متن الغواصة من طراز "096" مثيرة للإعجاب. ومن المقرر وضع صاروخ باليستي من طراز "JL-3" يطلق من الغواصات "SLBM"، وهو صاروخ من الجيل الثالث نُشر بالفعل على متن غواصات طراز "094" من فئة جين، على متن الغواصة من طراز "096".
وعلى هامش ذلك يتميز صاروخ "JL-3" بمدى يقدر بأكثر من 6200 ميل، وهو قادر على حمل مركبات إعادة دخول متعددة الأهداف بشكل مستقل "MIRV"، مما يعني أن صاروخاً واحداً يمكنه ضرب مجموعة متنوعة من الأهداف.
على أن الجزئية المخيفة في هذا النوع من الغواصات الصينية هو أنه يمكنها ضرب أهداف عبر الولايات المتحدة القارية، من مياه السواحل الصينية الآمنة نسبياً مثل بحر الصين الجنوبي، أو خليج بوهاي، من دون الحاجة إلى المخاطرة بالتدمير في المياه الدولية المتنازع عليها.
صراع المحيطات، لا سيما في وقت المواجهة الروسية – الأوكرانية، التي تجاوزت ثلاثة أعوام، يستدعي علامة استفهام تكتسي بكثير من الخطر والإثارة في الوقت ذاته: هل جاء هذا النوع الأخير والخطر من الغواصات الصينية، كثمرة تعاون ودعم من الخبراء العسكريين الروس الصين؟
مما لا شك فيه أن هناك ما يشبه التحالف البراغماتي بين موسكو وبكين، وهو ما يعمل الرئيس الأميركي ترمب على وضع نهاية له... هل من تفاصيل؟
موسكو - بكين... آفاق التعاون البحري
لم تكن روسيا تثق كثيراً في الصين وربما لا تزال، إذ الطبقات الحضارية مختلفة بين الجانبين، الصين الكونفوشيوسية وروسيا القيصرية الأرثوذكسية حكماً لا يلتقيان.
في هذا الصدد كانت روسيا تاريخياً حذرة جداً من مشاركة تكنولوجيا الغواصات المتقدمة، التي تحمل بنوع خاص أسلحة صاروخية ذات رؤوس نووية، في محاولة منها لبقاء قواتها البحرية الأقوى.
اليوم يبدو وكأن شيئاً ما تغير دعا موسكو إلى تغيير موقفها، وربما تكون العقوبات الغربية على روسيا بعد العملية العسكرية في أوكرانيا أحد أهم الأسباب التي وضعت الروس أمام إغراءات الوفرة المالية الصينية.
في الواقع يبدو من المحتمل أن الروس قد أعاروا خبراتهم للصينيين لمساعدتهم في تطوير نظام دفع متقدم عزز قدرات التخفي للغواصة "تايب 096"، وربما سلمت تقنيات مثل الدفع بالمضخة النفاثة أو الدوافع ذات الحافة، التي تقلل الضوضاء مقارنة بالمراوح التقليدية، إلى بكين في محاولة لتعزيز الصداقة التي لا حدود لها، بين فلاديمير بوتين وشي جينبينغ، والأهم من ذلك يعتقد أن مكتب روبين للتصميم، وهو محرك رئيس في صناعة الغواصات الروسية، قد أثر في تصميم الغواصة "تايب 096"، مقارباً إياها بالغواصة الروسية المتقدمة من فئة "يوري".
هنا بدا القلق يعم البحرية الأميركية، لا سيما إذا كانت هذه التقارير صحيحة، ذلك لأن معناه أن البحرية الصينية تكون قد أصبحت بهدوء أقوى قوة غواصات في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، بخاصة بالنظر إلى جميع المشكلات التي واجهتها البحرية الأميركية مع أسطولها المحدود من الغواصات على مدى الأعوام الـ20 الماضية.
هل سيترك هذا النوع من الغواصات الصينية الحديثة أثراً في الأمن العالمي؟
مؤكد أن هذا سيحدث وبقوة، ولن يكون الأثر خاصاً بالأميركيين فحسب، لكنه سيشمل كثراً لا سيما قارة أستراليا بنوع خاص التي تتهيأ لتسلم غواصات أميركية متقدمة من نوع "فرجينيا"، التي يمكن أن تطاول صواريخها المدن والحواضن الصينية الكبرى، حتى لو التزمت أستراليا بأن تلك الغواصات الأميركية لن تحوي صواريخ نووية، فإن الشكوك الصينية فيها ربما تستدعي تطوير غواصات من نوع "تايب 096".
هنا يعترف الأميركيون بأن ما تتميز بها غواصات الصين الحديثة من قدرة على التخفي بصورة محسنة، ومدى صاروخي أوسع، يكاد يؤثر في قدراتهم تحت المياه وليس على السطح فحسب، وستجد البحرية الأميركية التي تعتمد بصورة كبيرة على الغواصات الهجومية وأصول المراقبة صعوبة في رؤية الغواصات من طراز "096".
هل يعني ذلك أن الغواصات الصينية سيمكنها في المدى الزمني المنظور العمل في المياه الإقليمية للمحيطين الهادئ والأطلسي ومن دون مقدرة أميركية على متابعة المشهد ومراقبته، مما يعني أن المحيطين لم يعودا يمثلان متاريس حديدية في مواجهة القوات البحرية الصينية؟
"أرخانجيلسك" و"بوسيدون"... روسيا القوية
في أوائل يناير (كانون الثاني) الماضي أعلنت موسكو عن دخول غواصة "أرخانجيلسك" الهجومية النووية الشبحية الثالثة من طراز "ياسين - أم" الخدمة في البحرية الروسية ضمن مشروع "885 أم".
وقد أعلن القائد العام للقوات البحرية الروسية، الأدميرال ألكسندر مويسيف، أن أربع غواصات أخرى من فئة "ياسين - أم" التي تصنعها شركة "سيفماش" ستنضم إلى البحرية الروسية، كذلك تخطط روسيا لتوسيع غواصاتها من فئة "ياسين - أم" إلى 12 غواصة.
صُمم هذا النوع من الغواصات ليتضمن صاروخ كروز فرط صوتي مضاداً للسفن من طراز "Zircon"، الذي يقال إنه قادر على ضرب الأهداف من مسافة 600 ميل (965 كيلومتراً) والسفر بسرعة 9 ماخ، مما يتغلب على أنظمة الدفاع الجوي التقليدية.
وبفضل تكنولوجيا التخفي المتطورة إلى جانب قدرات الضربة الطويلة، فإن أقرب عمليات الأسطول الشمالي الروسي من دول حلف شمال الأطلسي مثل النرويج وفنلندا والسويد وأيسلندا تعد أجراس إنذار للبحرية الأميركية.
هل المقدرات البحرية الروسية تقف عند هذا النوع من الغواصات فحسب؟
الشاهد أنه في يونيو (حزيران) 2023 أفادت وكالة الأنباء الروسية "تاس" بأن روسيا أنتجت أول مجموعة من الطوربيدات النووية البعيدة المدى المسلحة نووياً، والمعروفة باسم "بوسيدون" (إله البحار عند الإغريق).
بدا الحديث عن هذه النوعية من الطوربيدات مزعجاً بقوة للأميركيين، وحذر متخصصون إستراتيجيون من أن هذا النوع من الطوربيدات قد يدمر مدينة ساحلية، ويسبب فيضانات إشعاعية ويودي بحياة الملايين.
على مدى الأعوام القليلة الماضية رسمت وكالات الأنباء الشعبية صورة قاتمة ومرعبة لتسونامي إشعاعي شاهق الارتفاع، يبلغ ارتفاعه 1000 قدم، يصطدم بعنف بالشواطئ البريطانية، ويسحق كل ما في طريقه، ويحول مدناً بأكملها إلى أرض قاحلة خالية من الحياة.
كشفت البحرية الروسية للمرة الأولى عن نظام "بوسيدون" الروسي، المعروف أيضاً في الولايات المتحدة بأسماء "كانيون"، ونظام المحيط المتعدد الأغراض، و"ستاتوس -6"، عام 2015، وأفادت التقارير بأنه اختبر للمرة الأولى في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.
صمم هذا الطوربيد، وهو غواصة نووية مسيرة تحت الماء ومجهزة بأسلحة نووية، ليُطلق من غواصات، ومن المتوقع نشر أول مجموعة من صواريخ "بوسيدون" بحلول عام 2027.
هل هذا النوع من الصواريخ الروسية كفيل بتغيير دفة حروب البحار والمحيطات؟
الثابت أن هناك حديثاً عن هذا السلاح الجديد، بوصفه آلية بحرية على وشك إحداث تغيير جذري في عالم الحروب الحديثة، ولعل هذا يعود إلى بعض ميزاته الفريدة، في الأقل وليس إلى اسمه المستعار.
ويشاع على نطاق واسع أن تطوير "بوسيدون" ربما جاء رداً على التطورات في قدرات الدفاع الصاروخي الباليستي الأميركية، في مارس 2018، صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن تطوير "بوسيدون" وغيره من الأسلحة جاء نتيجة انهيار معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الأميركية السوفياتية لعام 1972، التي وصفها بوتين بأنها "حجر الزاوية في نظام الأمن الدولي".
منذ ذلك الوقت بدأت روسيا في بناء قدرات صاروخية بحرية باتت تمثل كابوساً بدورها لعموم أوروبا وللولايات المتحدة.
هل تقف أميركا البحرية اليوم مكتوفة الأيدي في مواجهة تطورات المشهد البحري العسكري لكل من روسيا والصين؟
البحرية الأميركية... طريق عظمة البلاد
"القوة البحرية هي أكثر من مجرد عمل بحري"... بهذا العنوان استهل رئيس كرسي "جيه سي وايلي" للإستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية، جيمس هولمز، مقاله المطول المنشور في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية.
يطالب هولمز في سطوره ببلورة إستراتيجية بحرية أميركية لمعالجة القصور الحادث في القوة الأميركية اليوم، ولمقابلة تحديات الغد.
يرى هولمز أن هذه الإستراتيجية البحرية أمر يتجاوز فكرة حيازة مزيد من الأسلحة البحرية السطحية أو الغواصات، بل هي فن وعلم تسخير القوة البحرية لتحقيق الأهداف الوطنية، إنها تتعلق بالغاية والقوة والوسائل، ويطالب الحكومة الأميركية الحالية والمجتمع والقوات المسلحة بإعادة اكتشاف ما جرى نسيانه بعد الحرب الباردة عندما أقنع صانعو الرأي الذين كانوا يتصدرون أروقة الحكومة والأوساط الأكاديمية ومراكز الأبحاث أنفسهم بالاعتقاد أن التهديدات البحرية قد هزمت إلى الأبد، وأن المرتفعات المشمسة تنتظرهم، لقد انتهى التاريخ، العولمة الاقتصادية هي المستقبل.
كان هذا نوع من الوعي الزائف في وقت تتنافس فيه الولايات المتحدة مع الصين وروسيا وعملائهما الصغار المزعجين حول المحيط الأوراسي.
القوة البحرية بحسب هولمز تتجاوز مجرد أسطول أو سلاح مشاة بحرية أو خفر سواحل، بل النظرة إلى الصحوة الصناعية البحرية برمتها.
يوصي الرجل هنا بأنه يجب تصنيع الأدوات، وعنده أن الصناعة المحلية تحتاج إلى الدعم من أجل تصنيع سلع لبيعها للعملاء الأجانب لتلبية حاجاتهم ورغباتهم البحرية.
يحتاج بناة السفن إلى بناء أساطيل من السفن التجارية لنقل وتسليم البضائع للمشترين، وكذلك السفن الحربية لحمايتها في رحلاتها؟
يلفت هولمز إلى أمر مهم، ذلك أنه إن كانت البحرية تعد ضرورة لكنها غير كافية لتنفيذ الإستراتيجية البحرية.
تكمن المشكلة في أن الجزء الأكبر من المشروع البحري الأميركي، ولا سيما وظائفه التجارية والصناعية، يقع في قطاعات خارج سيطرة البنتاغون، أو وزارة الأمن الداخلي.
هل ألقيت الكرة البحرية في ملعب الرئيس ترمب في ولايته الثانية؟
أميركا - البحرية عظيمة مرة ثانية
رفع ترمب شعار "أميركا عظيمة مرة أخرى"، مما يفتح المجال للتساؤل عن الدور الذي يمكن للبحرية الأميركية لعبه في سياق استرجاع عظمة أميركا من جديد؟
بحسب كبير مستشاري الأمن القومي في مركز الإستراتيجية البحرية ما بين عامي 2018 – 2020، صموئيل بايرز، فإن ترمب في ولايته الثانية ستتاح له فرصة ترسيخ إرثه في السياسة الخارجية ورسم مسار سياسة الأمن القومي الأميركي لما بعد الأعوام الأربعة المقبلة.
يكمن مفتاح تحقيق ذلك في أن يعلي البيت الأبيض من شأن القوة البحرية الأميركية، ويضعها في مكانة مرموقة في إستراتيجية الدفاع الأميركية، وأن يدعم برنامجاً استثمارياً مكثفاً في البحرية الأميركية والبحرية التجارية، وغيرها من الخدمات البحرية، وذلك لإعداد البلاد لمنافسة القوى العظمى في القرن الـ21 مع الصين وروسيا ومن يستجد من أعداء.
هل ستكون إدارة ترمب - فانس الحالية موقع وموضع إعادة قراءة لإمكانات البحرية الأميركية في مواجهة حروب البحار والمحيطات عما قريب؟
المقطوع به أن حديث القوة البحرية يلبي غرائز ترمب في السياسة الخارجية بصورة جيدة، إضافة إلى ذلك فإن برنامجاً رئيساً للبناء البحري والتجاري سيتوافق تماماً مع رغبة ترمب - فانس المعلنة في تعزيز التصنيع الأميركي، والأهم من ذلك، من خلال الإخلال بتوازن القوى بين القوات العسكرية.
هنا يمكن لإدارة ترمب الثانية أن تزعزع الوضع الراهن المعتاد داخل البنتاغون، وأن تحصن سياساته الخارجية في المستقبل ضد من يخلفه، سواء كانوا من اليمين أو اليسار، الذين يرغبون في العودة إلى نموذج أكثر تدخلاً في السياسة الأميركية؟
وفي الخلاصة يبدو أن زمن الصراع البحري قد احتدم، وعلى رغم المساحة الواسعة التي احتلتها الحروب السيبرانية والفضائية، فإن المعارك البحرية ستبقى إلى زمن حاضرة في الصورة، وهو أمر تكاد تفرضه حقيقة جغرافية كرة أرضية مساحة اليابس فيها 29 في المئة بينما المياه 71 في المئة.