Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

تطبيقات المشاهدة... طبقية مقنعة برعاية رمضان

الأغنياء يهربون من الإعلانات والفقراء يحاصرهم استفزاز المشاهدة التقليدية

المشاهدة التلفزيونية ظلت عقوداً تجربة مشتركة بين أفراد الأسرة الواحدة، وتجربة مشتركة بين أبناء المجتمع الواحد (أ ف ب)

ملخص

رمضان 2025 يكشف عن انقسام مجتمعي حاد في عادات المشاهدة بين "طبقة التطبيقات" المقتدرة التي تختار محتواها بلا إعلانات، و"طبقة القنوات" التي تلتزم الوجبة الإعلامية المفروضة. هذه الفجوة الرقمية تعيد تشكيل العقل الجمعي وتعمق الشرخ الاجتماعي في مصر، حيث أصبحت حرية الاختيار محصورة بمن يملك ثمن الاشتراكات.

على مائدة الإفطار المخملية، وبينما الجميع منهمك في تناول الطعام وتبادل النقاش حول رمضان وأجوائه ومسلسلاته وبرامجه ومحتواه الترفيهي، قالت "أحاول متابعة مسلسلين منذ بداية الشهر، لكن الإعلانات تمنعني لكثرتها وقدرتها السخيفة على قطع تسلسل الأحداث، المشاهدة التلفزيونية أصبحت..."، ما إن تفوهت بكلمة "تلفزيونية" مقترنة بالمشاهدة حتى صمت الجميع، سادت لحظات خرس قاتلة بدت وكأنها ساعات، حتى بدا صرير صرصور الحقل كأنه يبث عبر مكبرات صوت.

الجمع المخملي فوجئ بأن هناك من لا يزال يتابع دراما وبرامج رمضان عبر شاشات الجماهير الغفيرة، حاول البعض من الحضور تخفيف حدة الصدمة وتقليل أثر الفضيحة، وبين "من المهم أحياناً متابعة ما يجري على التلفزيون بالفعل لمعرفة ما يتعرض له الناس في الشارع" و"مشاركة الجماهير تجاربهم ومعاناتهم مهمة بالطبع"، تأكدت الرؤية وتيقن الواقع الجديد: المشاهدة التلفزيونية للجماهير الغفيرة وقواعد الشعب العاملة والكادحة، والمتابعة عبر تطبيقات المشاهدة للنخبة والصفوة والطبقات والفئات القاطنة أعلى الهرم.

المشاهدة الشعبية

تجربة المشاهدة الشعبية أو الوطنية الواحدة والمتابعة الجماهيرية المتطابقة وردود الفعل المختلفة صباح اليوم التالي، التي على رغم اختلافها وتناقضها، بل وتناحرها أحياناً، كانت تقف على أرضية نشرة إخبارية واحدة وبرامج ترفيهية وحوارية ومسابقات أقرب ما تكون إلى المناهج الإلزامية المقررة وأعمال درامية تعرض في أوقات محددة وتتخللها مادة إعلانية متفق عليها سلفاً، ومحتوى مشاهدة لا محيص منه أو مهرب من ترتيبه ومكوناته وأولوياته.

حتى عهد قريب مضى كان أقصى ما يمكن للمشاهد عمله أن يهرب من هذه القناة إلى تلك، أو يكتفي بجرعات محدودة من "طبق اليوم" الإجباري عبر الشاشات، وإن بلغت به الميول الثورية أقصاها والنزعات التحررية مداها، أغلق التلفزيون وخلد إلى النوم حتى يوم باكر.

رمضان في مصر "حاجة تانية"

المقولة التي باتت مأثورة والمشتقة من الأغنية المشهورة تقول إن "رمضان في مصر حاجة تانية"، وذلك في إشارة إلى تفرد عاداته وتقاليده وأساليبه الحياتية اليومية، التي كانت شاشة التلفزيون التي تتوسط غرفة الجلوس وتعرض ما تقرره سلفاً وتحدده من دون استشارة المتلقي، جزءاً رئيساً من "الحاجة التانية"، أي من الأجواء الرمضانية المتميزة.

أقصى درجات حرية الاختيار وغاية القدرة على تحديد المصير كانتا تتمثلان في التنقل من قناة إلى أخرى، لكن تظل للقناة هذه أو تلك الكلمة الأولى والأخيرة في ما يعرض، متى، وكيف، وبأي غاية أو هدف؟!

أعوام طويلة والجرعة التلفزيونية الرمضانية التي تنتظرها الجماهير الغفيرة، بشتى طبقاتها ومختلف فئاتها، تُحضر في مطابخ ومكاتب لا علاقة مباشرة للمتلقي بها، كانوا يقولون إن التحضير لرمضان المقبل يأخذ في الحسبان نتائج استطلاعات المشاهدة وتحليلات الانتقادات والملحوظات التي تبديها الجماهير الغفيرة في نهاية موسم المشاهدة، وسواء كانوا يأخذون ذلك في الحسبان أو يدمجونه فقط في البيانات والتصريحات، كان رمضان التالي يأتي بالتركيبة ذاتها: حفنة من المسلسلات الدرامية بغض النظر عن عددها الضخم أو الشحيح، باقة من البرامج الحوارية والمسابقات والمقالب، من دون النظر إلى عمق المحتوى أو ضحالته أو بقائه في مكانة بين بين، وإجازة مدتها 29 أو 30 يوماً من الأخبار والسياسة والاقتصاد وكل ما من شأنه أن يوجع القلب أو يرهق العقل.

أجندات صناع التلفزيون

وبعيداً من أجندات صناع القرار التلفزيوني وأصحاب القنوات، سواء كانوا الدولة أو أفراداً وشركات، ظل التلفزيون في رمضان مصدراً لوحدة النسيج الوطني على رغم تنافر بعض المكونات، واختزالاً للرأي العام الجميع ولو بقي بعضه واقفاً على طرفي نقيض، وامتداداً للعبارة الشهيرة القائلة "وحدة التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة"، و"كذلك المحتوى التلفزيوني".


ذكريات صدمة المشاهد (الإيجابية) وحيرة مجتمع المتخصصين والمحللين والمعللين حين باغتت التعددية التلفزيونية، متمثلة في الفضائيات، محدودية المشاهدة المتمثلة في قناة أو اثنتين وربما 10 على أبعد تقدير متاحة على الشاشات، تبدو وكأنها تُستحضر من "متحف الحضارة" أو "مكتبة الوثائق التاريخية.

ولى ودبر وانتهى، بل تبخر، زمن المسلسل الواحد أو الاثنين في أوقات الرخاء والرفاه، والفوازير الواحدة التي لا ثاني لها، وبرنامج أو اثنين للمسابقات وآخر للمقالب في أزهى عصور التنوع التلفزيوني الرمضاني.

رباط الجماهير الغفيرة

ومن المحتوى المحدود الذي أسهم على مدى عقود في بناء عقل جمعي متطابق المحتوى، وإن اختلف في طريقة تعامله وقبوله أو رفضه، إلى المحتوى المتعدد عبر قنوات فضائية محلية وإقليمية وغيرها تفننت في توسعة قاعدة المشاهدة عبر التباري في تقديم محتوى متنوع، من مسلسلات وبرامج، وكذلك إعلانات يزدهر موسمها في الشهر الفضيل، سارت الولائم التلفزيونية من شديد المحدودية إلى المتنوع إلى حد كبير.

وحتى في عصور هذا التنوع الفضائي ظل رباط مسلسلات وبرامج بعينها يجمع الجماهير الغفيرة، إذ ظل الطبق الرمضاني الترفيهي التلفزيوني، على رغم اتساعه وثرائه، متشابهاً على هذه الشاشات الفضائية، والأهم من ذلك أن متابعة المحتوى ظلت محكومة بروتين مشاهدة لا تملكه القاعدة العريضة المتلقية. أقصى درجات حرية التنقل واستقلالية القرار ظلت محدودة بما تقدمه الفضائيات في المواعيد التي تقررها وبالفواصل الإعلانية التي تختارها، ومن ثم الرسائل المجتمعية التي تُبث والآثار السياسية والاقتصادية والنفسية التي تنجم عنها، سواء كانت مقصودة أو أعراضاً جانبية، سلبية أو إيجابية.

حرية القرار والاستقلالية

رمضان هذا العام أظهر بصورة جلية الهوة السحيقة بين كتلتين: متلقية تتابع المحتوى الدرامي والترفيهي الذي تختاره عبر المنصات في الأوقات المناسبة لها، وكتلة أخرى يمكن تسميتها بـ"كتلة الجماهير الغفيرة" تتلقى الجرعات المقررة لها بالمحتوى السابق التجهيز والشكل المعد سلفاً في الوقت المقرر بحسب رؤية صناع المحتوى، وقبلهم وبعدهم أصحاب بيزنس المشاهدة، والكتلة التي تمتلك حق اختيار مشاهدة ما ترغب وقتما تشاء، شرط امتلاكها المال اللازم لحرية القرار واستقلاليته.

البكاء على لبن المشاهدة

لم تعد المسألة مقتصرة على البكاء على لبن المشاهدة العائلية الرمضانية التلفزيونية المسكوب، وهي المشاهدة التي تتابع العمل نفسه في الوقت نفسه في المكان نفسه وتجمع كل أفراد الأسرة، سواء كانوا مهتمين مبتهجين، أو عازفين متململين. كانت العبرة بالبقاء الجغرافي في الموقع ذاته، وتعرض ما تيسر من حواس للمحتوى نفسه، وظلت النتيجة المنطقية والمتوقعة عقوداً طويلة هي عقلاً جمعياً متشابهاً في المكونات، ورأياً عاماً يعتمد في إصداره الأحكام على معطيات متطابقة ومخزون معرفي واحد، وإن اختلفت التوجهات.

التوجهات السائدة حالياً في شأن المحتوى الدرامي والترفيهي سواء على شاشات التلفزيون الشعبية، أو عبر المنصات النخبوية، محبوسة في المقارنات بين: من الأعلى مشاهدة على المنصات أو عبر القنوات؟ ومن الأفضل في رأي جمهور المنصات ومتابعي القنوات؟ ومن سيحتل مكانة الصدارة في العمل الأهم في موسم رمضان 2025 بناءً على نسب المشاهدة؟

ما لا يشاهده الآخرون

ما لم يدخل في دائرة البحث وتقصى النسب وقياس الأثر بعد هو أثر طبقية المشاهدة على المجتمع، وعواقب اختلاف مكونات الوجبات الرمضانية على العقل الجمعي، ومعنى اعتقاد كل من الكتلتين: كتلة المشاهدة عبر المنصات القليلة العدد المميزة الحضور النخبوي، وكتلة المشاهدة عبر القنوات الكبيرة العدد التي تمثل القاعدة العريضة في الشارع المصري، إنها شاهدت ما يشاهده الآخرون، الحقيقة أن ما تشهده هذه لا تشاهده تلك.

اقرأ المزيد

غالب المعتقدات والكليشيهات السائدة حول المشاهدة عبر التطبيقات لا تخرج عن هذه العناوين العريضة: التطبيقات أحدثت ثورة في عالم المشاهدة، تطبيقات المشاهدة قضت على القنوات التلفزيونية بمعناها ودورها التقليديين، تطبيقات المشاهدة كتبت كلمة "النهاية" أمام شاشات التلفزيون، التطبيقات غيرت من عادات المشاهدة الاستهلاكية، التطبيقات حررت الأفراد من عبودية المشاهدة المحددة سلفاً.

حتى العناوين السلبية مثل "تطبيقات المشاهدة قد تؤدي إلى العزلة الاجتماعية" أو "التطبيقات قد تؤدي إلى إدمان المشاهدة والتأثير سلباً في الأنشطة الأخرى" وغيرهما تظل مقتصرة على الآثار البراغماتية المباشرة.

تبرم أُم إسراء

لذلك حين أظهرت "أم إسراء" (مساعدة الأعمال المنزلية) تبرمها الطبقي وتململها النفسي من هذا الكم من إعلانات المنتجعات السكنية الفاخرة، وفيلات الساحل الشمالي الفارهة، والخدمات البنكية الميسرة لأصحاب المال والأعمال، بل ودعوات التبرع الضاغطة من أجل المرضى والمساكين والمشردين والمعوزين أمام ربة البيت "مدام باكينام"، نصحتها فوراً بهجر القنوات والانقلاب على الشاشات، والبدء فوراً في المشاهدة المنتقاة عبر أحد التطبيقات. وليتها ما تململت، وليت ربة البيت لم يتفتق ذهنها عن المساعدة، فتطبيقات المشاهدة لمن يملك فقط، أما من لا يملك فليس أمامه إلا مشاهدة ما يقدم له، وإن لم يعجبه فكل ما عليه عمله هو الضغط على زر "إغلاق"، أما الخيار الثالث فهو ضرب رأسه في أقرب حائط، رابع الاختيارات لا يتناسب وروح الشهر الكريم، إذ مقترحات "سرقة وصلة الإنترنت" أو مشاركة أحدهم شبكة
"الواي فاي" الخاصة به من دون إخباره واعتبارها تفعيلاً لمبدأ "المشاركة محبة".

سرقة "الواي فاي" حرام

يشار إلى أن دار الإفتاء المصرية تدأب على إعادة نشرة فتواها الصادرة عن حكم سرقة الـ"واي فاي"، وهي هل حرام أم حلال؟! يقول نص الفتوى "اختراق شبكات ’الواي فاي‘ محرم شرعاً، لأنه اعتداء على ممتلكات الناس وأموالهم بغير وجه حق، اختراق ’الواي فاي‘ يعني أن الشخص يكتشف من خلال بعض البرامج الرقم السري الذي من شأنه منع أصحابها من الانتفاع بالقدر المحدد لهم والذي دفعوا ثمنه من الميغات".


وتمضي الفتوى قائلة إن "صاحب ’الواي فاي‘ دفع ثمن هذه الغيغات لينتفع بها، ووضع له هذا الرقم السري ليمنع الآخرين من الانتفاع بها إلا بإذنه، ولا شك أن هذه الشبكات التي يدفع لها اشتراك شهري تعتبر أموالاً، واختراق كل هذه الموانع والحواجز المعنوية التي وضعها صاحب الشبكة يعتبر اعتداء على ممتلكات الناس وأموالهم بغير وجه حق".

معضلة المشاهدة الإجبارية

معضلة "أم إسراء" و"أبو إسراء" وإسراء نفسها، والمتمثلة في تناول الوجبة الرمضانية الدرامية والترفيهية بكل محتوياتها من دون حرية الانتقاء أو الاختيار، تجمع الملايين من المتلقين، الغالبية المطلقة منهم تقف عاجزة عن تحديث أسلوب المشاهدة وتطوير أدوات الاختيار، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة.

في شهر رمضان الماضي أعلن الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات عن زيادة كبيرة في استخدام خدمات الإنترنت المحمول، بلغت نسبتها 74 في المئة، و29 في المئة في نسبة استخدام خدمات الإنترنت الثابت، وذلك مقارنة برمضان عام 2023.

وتوزعت استخدامات المصريين للإنترنت في شهر رمضان الماضي بين مقاطع الفيديو الترفيهية القصيرة والبريد الإلكتروني وخدمات الخرائط والتسوق الإلكتروني ومنصات السوشيال ميديا والألعاب الإلكترونية والدردشة والاجتماعات من بعد، وكذلك مشاهدة المحتوى الترفيهي متمثلاً في المسلسلات والبرامج عبر تطبيقات ومنصات المشاهدة، وقال الجهاز إن عدد المشاهدين بلغ 41 مليون مشاهد، شاهدوا 14 مليون ساعة يومياً، بزيادة نحو 41 في المئة مقارنة برمضان عام 2023.

الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات لم يصدر أرقام رمضان الحالي بعد، التوقعات تتأرجح بين نقيضين: الأول أن تكون نسبة الهرب إلى المشاهدة عبر التطبيقات قد زادت على رغم الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، والثاني أنها على حالها، وربما انخفضت قليلاً، وذلك تحت ضغط الغلاء وأولويات الإنفاق المختلفة التي تضع الغذاء والكساء والصحة والتعليم قبل المشاهدة المنزوعة الإعلان الخالية من الاستفزاز.

الناجون من الاستفزاز

اللافت أن الناجين من الاستفزاز الإعلاني هم أنفسهم الفئة الموجهة لها هذه الإعلانات. القادرون مادياً على سداد كلفة المشاهدة عبر التطبيقات، أو في الأقل جانب منهم، هم العملاء المحتملون لشراء وحدات سكنية فاخرة وشاليهات مصيفة فارهة، وهم أيضاً الفئة المستهدفة من موجة إعلانات التبرع الخيري الضارية التي تشتد كل رمضان، بين مستشفيات لعلاج الفقراء، ومبادرات إطعام المعوزين، ومشروعات إيواء المسنين من غير القادرين، ومناشدات بناء أسقف بيوت المعدمين، وتوصيل مياه شرب للبائسين، وسداد ديون الغارمات، وتجهيز بيوت للأيتام والقائمة تطول، هذه الفئة المستخدمة هاجرت إلى تطبيقات المشاهدة، حيث لا إعلانات عن منتجعات فاخرة (كتلك التي يسكنون فيها)، أو مناشدات تبرع للفقراء والمعوزين (وكأنهم غير موجودين).

في دراسة أجراها أستاذ العلاقات العامة في كلية الإعلام في الجامعة العربية المفتوحة السيد لطفي (2022)، تحت عنوان الجمهور المصري وإعلانات التبرعات في الفضائيات وعلاقتها بالحالة المزاجية"، جاء أن القنوات التلفزيونية هي أكثر الوسائل التي يتابع المبحوثون عبرها إعلانات التبرعات، وأن أبرز أسباب إحجامهم عن التبرع هو القدرة المالية التي لا تسمح بذلك، ثم يأتي عامل انعدام الثقة في المؤسسات الطالبة للتبرع، إضافة إلى الحالة المزاجية والشعور الغالب لدى الجمهور وقت المشاهدة.

نحن الإعلانات

"أم إسراء" تحكي لـ"مدام باكينام" يومياً عن إعلانات التبرعات، ولسان حالها يقول "نحن مجتمع إعلانات التبرع"، تذيل مشاهد الأطفال المرضى في المستشفيات والعائلات البائسة في الأماكن المحرومة والنساء الغارمات المحبوسات لعجز عن سداد وصل أمانة كان الغرض منه تزويج الابنة اليتيمة أو دفع مقدم شقة للابن العاطل دائماً وأبداً بنموذج حي تعرفه مستحق. ابنة جارتها "أم حسين" تحتاج إلى علاج ولا تجده، وعائلة أخيها تعيش في ظروف بالغة القسوة في أسيوط، وابنة أختها غارمة تبحث عمن يسدد عنها دينها، وقائمة معارفها المستحقين للتبرعات المتوقعة من "مدام باكينام" لا تنضب.

ما لا تعرفه "أم إسراء" أن مخدومتها لا تتناول الوجبات الدرامية والترفيهية نفسها، صحيح أن الشاشة تبدو أمامها مماثلة لشاشتها، لكن شتان بين المحتويين.

المحتويان المختلفان، على رغم أن المسلسل هو نفسه والبرنامج هو ذاته، يؤديان إلى تجربتي مشاهدة بالغتي الاختلاف، فإضافة إلى هامش اختيار ماذا تشاهد الكتلة المقتدرة ومتى، وإضافة أيضاً إلى أن كثيراً من اختيارات فئة مخملية في داخل هذه الكتلة تبتعد غالباً عن أعمال البلطجة والعنف والغارقة في حكايات العشوائيات وقصص المحرومين والمحرومات، فهي أيضاً بلا الإعلانات الاستفزازية التي كثيراً ما حذر علماء الاجتماع والسياسة من آثارها.

أحقاد وثروات

بين إثارة الأحقاد الطبقية وتأجيج الحنق على طبقات فاحشة الثراء يتهمها البعض باتباع طرق ملتوية لتراكم الثروة، وإشعال الفتن النفسية والاجتماعية جراء التفاوت الطبقي الشديد وانعدام العدالة في توزيع الثروات وإتاحة الفرص، إضافة إلى رفع أسقف الطموحات، بينما أرضية القدرات أبعد ما تكون عنها، تدور أنماط المشاهدة الرمضانية هذا العام، وعلى رغم أنها تحذيرات موسمية، فإنها تتخذ شكلاً مغايراً ومتفاقماً هذا العام، وذلك بعد اتضاح فجوة المشاهدة بين "الناس اللي فوق" على التطبيقات، و"الناس اللي تحت" على القنوات، وبقاء "اللي تحت" أسرة إعلانات "الناس اللي فوق".

وداعاً للتجربة المشتركة

 المشاهدة التلفزيونية ظلت عقوداً تجربة مشتركة بين أفراد الأسرة الواحدة، وتجربة مشتركة بين أبناء المجتمع الواحد. محتوى واحد يتابعه الجميع، إعلانات مستفزة يتلقاها الجميع وإن كانت بردود فعل مختلفة، وحتى أخبار عاجلة يقرأها ويتابع أحداثها الجميع على الهواء مباشرة، وجميعها كان أجواء مشاهدة تصنع نسيجاً اجتماعياً معروفاً حلوه ومره، ومخزوناً معرفياً متشابهاً وإن اختلف الناس في معالجته.

انصراف طبقة بعينها إلى تطبيقات المشاهدة منزوعة الإعلانات الخالية من الأخبار العاجلة يعيد صياغة النسيج الاجتماعي كما لم يحدث من قبل.

المزيد من منوعات