خطوة جديدة على طريق المحاسبة بدأها منتفضو طرابلس لفضح الحقبة الماضية وتعليق "منشر الفساد"، ليكون شاهداً على المخالفات التي ارتكبها ائتلاف "تقاسم المغانم" الذي يتحكم بمقدرات لبنان منذ سنوات. وكان لافتاً تفاعل المواطنين مع هذه المبادرة لأنها تعبّر عن الغالبية الصامتة وأوجاع المهمشين الذين يعانون الفقر وسوء الخدمات واستغلال النفوذ وغياب الدولة العادلة.
صوت الانتفاضة الصارخ
"منشر الفساد" هو إحدى المبادرات الخلّاقة، أطلقتها مجموعة "الثورة مسؤولية" في إطار جهودها للتثقيف السياسي ونشر الوعي. وتوجهت المبادرة إلى عامة الشعب لتفنيد مكامن الفساد والجرائم المستمرة التي تتمثل في الاعتداء على المال العام. واعتمدت على تعليق مجموعة من القمصان والسراويل البيضاء التي كُتب عليها "جردة حساب" على منشر طويل امتد على إحدى زوايا ساحة النور التي تحتضن تجمع المتظاهرين المركزي في طرابلس، عاصمة محافظة لبنان الشمالي.
للوهلة الأولى، يصدم "المنشر" بصر المارة، قبل أن يحاكي عقولهم وإدراكهم ليذكرهم بـ"الشماعة" التي تُعلّق عليها الفضائح. يشير الناشط أحمد عمر وهو أحد القيّمين على المبادرة إلى أن هذا "المنشر" هو استعادة لمعرض نُظِّم العام الماضي (2018) تحت عنوان "تقدمنا لورا"، وتضمن عدداً كبيراً من الأرقام والمعطيات التي تكشف عن مكامن الفساد ويُفترض إطلاع المواطنين عليها.
استند "منشر الفساد" إلى تقارير موثقة، صادرة عن جهات رسمية محلية ودولية والموازنات العامة وتقارير الجهات الرقابية والجريدة الرسمية. كما أنه يسلط الضوء على مخالفات في وزارة الأشغال، وكلفة استئجار مبانٍ لإدارات حكومية، ومشاكل النظامَيْن الصحي والبيئي التي أدت إلى 17 ألف إصابة سرطان و1959 مليار ليرة كلفة الاستشفاء عام 2018، إضافة إلى الكلفة الباهظة لمشاركة المسؤولين في مؤتمرات في الخارج، التي ناهزت 27 مليار ليرة لبنانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونبّه "المنشر" إلى ارتفاع مؤشرات الفقر في لبنان، حيث يعيش40 في المئة من الشعب اللبناني بأقل من 4 دولارات يومياً، وهذه الحالة تزداد سوءاً مع التضخم المالي وتجاوز الدولار عتبة 2000 ليرة لبنانية وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب استفحال أزمة الكهرباء على الرغم من هدر 2 مليار دولار سنوياً وعدم القدرة على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
وينفي أحمد عمر أن تكون المبادرة انتقائية، لافتاً إلى أن المخالفات التي فضحها "المنشر" تطال كل الوزارات التي يشغلها سياسيون من أحزاب مختلفة ومتعارضة. ولا يستبعد تطوير فكرة "منشر الفساد" ونشر أرقام صادمة، "لأن المعطيات الموجودة تتطلب تعليق منشر فساد طويل من طرابلس إلى الناقورة (أقصى الجنوب)، نظراً إلى كثرة الفساد في إدارات الدولة كافة". ويؤشر ارتكاب معظم الوزارات للمخالفات وتعميم الفساد إلى أنّ البلد كان يعيش في ظل نظام تقاسم مغانم وتوزيع منافع.
وكرّست انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) طرابلس كـ"مدينة ملهِمة" لباقي المناطق على صعيد المبادرات الإبداعية والمتنوعة للتعبير عن الرأي. فما إن انتشرت ظاهرة "منشر الفساد" على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى بدأ تعميمها في باقي المناطق كما حصل في صيدا، على غرار ظاهرة القرع على الطناجر التي سرت كالنار في الهشيم وبدأ المواطنون يعبرون من خلالها عن اعتراضهم على سياسات السلطة وممارساتها.
خطوة نحو المحاسبة
تُعتبر الإضاءة على الفساد بطريقة إبداعية، خطوةً أولى نحو محاسبة المرتكبين في المرحلة المقبلة. ويلعب هذا "المنشر" دوره في حض المواطنين على المطالبة بحقوقهم الأساسية، والتمسك بأجندة الثورة من تشكيل حكومة اختصاصيين والدعوة إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وصولاً إلى استعادة الأموال المنهوبة التي تُقدّر بـ 800 مليار دولار. ويطمح أصحاب المبادرة إلى أن يستجيب القضاء إلى مطالب الشارع ويؤكد على استقلاليته، ويبدأ بملاحقة الملفات التي يملكها والتي يُزَوَّد بها من قبل المؤسسات والجمعيات القانونية المدنية والجهات الرقابية.
وعبّر الناشطون عن تمسكهم بسلمية الثورة وباتّباع الخطوات الدستورية والقانونية، معلنين معارضتهم لاستخدام العنف من أجل خدمة مصالح الزعيم.
ويعرب الناشط أحمد عمر عن أمله "بوصول الأمور إلى خواتيمها، لأن هناك تغييراً حصل على الأرض، ففي السابق تنازل المواطنون عن جزء من حقوقهم بحجة دفاع الزعيم عن الطائفة ووجودها، إلاّ أنّ الغشاوة انقشعت عن عيونهم وباتوا يعرفون أن الزعيم استثمر في فقرهم لزيادة ثرواته ونفوذه".
ويعوّل "منشر الفساد" على وعي المواطنين لتجاوز المرحلة الماضية التي كانوا يخضعون خلالها للزعيم، لأن التبعية شكلّت لفترة طويلة "بوابةً" للحصول على بعض المنافع وللعبور إلى سوق العمل والاستشفاء والحصول على الخدمات الأساسية كالتعليم والسكن والمساعدات وغيرها.