كان رابع أكبر بحيرات العالم، إلا أنه يقف اليوم على شفا حفرة من الزوال، في مشهد مأساوي طالت تداعياته البشر والحيوانات والبيئة حول العالم.
عندما غزا الإسكندر الأكبر منطقة آسيا الوسطى خلال القرن الرابع قبل الميلاد، كان نهرا "آمو داريا" و"سير داريا" بمنزلة شرايين حياة تمد المنطقة بأكملها بأسباب العيش. وعلى مرّ مئات السنين، كانت مياه بحر آرال العذبة تغذي المستوطنات البشرية الممتدة على طول طريق الحرير الواصل بين الصين وأوروبا. في ذلك الزمن، شهدت المجتمعات القديمة لقوميات الطاجيك والأوزبك والكازاك وغيرها ازدهاراً كبيراً في الزراعة والصيد والرعي والتجارة والحِرف التقليدية.
يقع بحر آرال بين جمهوريتا كازاخستان وأوزبكستان، وكان يصب فيه على مدى آلاف السنين نهران رئيسان هما "آمو دَاريا" و"سير داَريا". وليس لهذا البحر أي منفذ، ولذا فإنه كان يحافظ على مستوى مياهه من خلال توازن طبيعي بين التدفق والتبخر. لكن، مع بداية عشرينيات القرن الماضي تغير مجرى الأمور بعد أن أصبحت ما يعرف بأوزبكستان اليوم، جزءاً من الإمبراطورية السوفيتية الناشئة. إذ قرر الزعيم السوفيتي آنذاك، جوزف ستالين، تحويل جمهوريات آسيا الوسطى إلى مزارع عملاقة للقطن، من دون الالتفات إلى واقع المناخ الجاف السائد في هذا الجزء من العالم والذي لا يتناسب مع زراعة محصول شره يحتاج إلى كثير من الماء. وبالفعل عكف السوفييت على إنجاز أحد أكثر المشروعات الهندسية طموحاً في تاريخ العالم: فلقد شقّوا بسواعدهم آلاف الكيلومترات من قنوات الري لسحب مياه نهرَي "آمو داريا" و"سير داريا" وتوجيهها لاستصلاح الأراضي الزراعية في تركمانستان وأوزبكستان ومناطق أخرى جنوب كازاخستان، ضمن سلسلة قرارات غير مدروسة اتخذتها وزارة الثروة المائية في الاتحاد السوفيتي.
الجريمة السوفيتية
وقد ظل نظام الري ذاك مستقراً بصورة نسبية حتى أوائل ستينيات القرن الماضي، إلى أن استحدث المهندسون السوفييت العديد من قنوات الري الإضافية، فكان ذلك بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير. إذ لم يعد النظام المائي مستداماً، فقد كان التبخر يُخفض مستوى المياه بنفس المقدار الذي تتدفق فيه الامدادات إلى البحر من نهرَي "آمو داريا" و"سير داريا" ما يجعل الدورة المائية مستدامة طالما أنّ معدل التدفق يساوي معدل التبخر في المتوسط.
لكن، ومع غياب العواقب البيئية المترتبة على تحويل مياه النهرين عن إدراك المهندسين السوفييت، وقع الخلل الجسيم الذي تسبب في جفاف البحر ببطء على مدى العقود الأربعة الماضية.
فمع حلول عام 1987، انحسرت مياه بحر آرال بشدة، فانقسم إلى كتلتين مائيتين: بحر شمالي في كازاخستان، وبحر جنوبي أوسع مساحة داخل منطقة "قرقل باغستان" ذات الحكم الذاتي الواقعة في أوزبكستان. وما إن حل عام 2002 حتى انكمش البحر الجنوبي بشكل كبير للغاية فانقسم بدوره إلى بحرين شرقي وآخر غربي. وفي يوليو 2014، جفت مياه البحر الشرقي تماماً.
ويقول خبراء غربيون إن الحلقة الأكثر بؤساً وإحباطاً في مأساة بحر آرال تكمن في أن المسؤولين بوزارة الثروة المائية السوفيتية الذين صمموا قنوات الري، كانوا يعرفون تمام المعرفة المصير الذي يدفعون بحر آرال إليه. ففي الفترة ما بين عشرينيات القرن الماضي وستينياته، كثيراً ما كان هؤلاء يستشهدون بمقولة عالم المناخ الروسي الشهير ألكسندر فويكوف، الذي وصف بحر آرال ذات مرة بأنه "خطأ طبيعي". ويبدو أن النظرة الاستراتيجية السوفيتية رجّحت في ذلك التاريخ قيمة المحاصيل الزراعية على الثروة السمكية.
اختفاء البحر
وبعد مضي عقود من الزمن تراجعت شواطئ بحر آرال شيئاً فشيئاً، وتقلصت مساحته بنسبة 90 بالمئة؛ فبعدما كان إلى حدود ستينيات القرن العشرين رابع أكبر كتلة مائية داخلية في العالم، بمساحة تقدر بنحو 68 ألف كيلومتر مربع، تقلصت هذه المساحة إلى العُشر، ما أدى إلى تعرية مساحات شاسعة من قعره الذي بات مكشوفاً ومغطى بالأملاح البحرية، وازدياد تركيز المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية التي تصل إليه مع مياه الصرف الزراعي، وبالتالي نفوق الحياة البحرية والأسماك. وبعد أن كانت ترتع في مياهه 24 نوعاً من الأسماك، يُصاد منها سنوياً نحو 500 ألف طن، اختفى تماماً نحو 20 نوعاً مع نهاية الثمانينات، ففقد البحر قيمته التجارية وخسر كثير من الصيادين مصدر رزقهم.
علاوة على ذلك، تحولت المساحات الجافة من البحر إلى بؤرة عملاقة لتراكم الأملاح التي ارتفعت نسبتها في مياهه عشر مرات. وعندما كان بحر آرال في صحة جيدة، كان مستوى ملوحة مياهه 10 جرامات في اللتر الواحد (ملوحة محيطات العالم على سبيل المثال تتراوح ما بين 33 و37 جراماُ في اللتر الواحد). أما اليوم، فإن ملوحة آرال تتجاوز 110 جرامات في اللتر الواحد، لذا لا يصلح لعيش الأسماك.
ولم تتوقف الخسائر البيئية عند هذا الحد. إذ أظهرت دراسات علمية مناخية أن نحو 75 مليون طن من غبار الأملاح السامة تحملها الرياح كل عام من القعر الجاف لبحر آرال، فتنتشر غرباً لمسافات غير محدودة، مشكّلة غيوماً من الغبار الملحي السام. وقد سُجل ارتفاع بأكثر من مرتين لنسبة الأملاح في مياه الأمطار في السنوات الأخيرة، بضواحي العاصمة الأوزبكية طشقند، وكذلك في جمهوريتا روسيا البيضاء ولاتفيا على بحر البلطيق. أما المناطق المحيطة ببحر آرال فقد ارتفعت نسبة أملاح مياه أمطارها سبع مرات. كما عُثر على بقايا آثار أملاح مصدرها بحر آرال في المناطق القطبية الجنوبية وفي غرينلاند وغابات النرويج.
كان علماء الكيمياء الأرضية يعتقدون أن قشرة سميكة من كلوريد الصوديوم ستتشكل على سطح بحر آرال مع جفاف مياهه وأنه بالتالي لن تكون ثمة أي عواصف ملحية. لكنهم كانوا مخطئين في اعتقادهم هذا. فالغبار الذي تنقله الرياح يحوي، فضلا عن المستويات السامة لكلوريد الصوديوم، قدراً يسيراً من المبيدات الحشرية مثل مادة "دي دي تي" ومادة توكسافين ومادة فوزالون، والتي يُعرف عنها كلها أنها مواد مسرطنة. وقد تغلغلت هذه المواد الكيميائية بصورة تدريجية في كل مستويات السلسلة الغذائية بالمنطقة. ونتيجة لذلك سجل باحثون وأطباء زيادة مقدارها ثلاثين مرة بأمراض الحمى المعوية في المناطق القريبة من آرال، وازدادت الإصابات بمرض التهاب الكبد الفيروسي سبع مرات، وارتفعت حالات الإصابة بالسرطان بـ25 ضعفا. كما بدأت تنتشر نطاق واسع الأمراضُ التنفسية وأنواع السرطانات والعيوب الخلقية والاضطرابات المناعية وداء السل المقاوم للأدوية المتعددة. ويقدر الخبراء بالإجمال، أن نحو 5 ملايين إنسان يعانون مشاكل صحية بسبب جفاف بحر آرال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرعب الجرثومي والبيولوجي
ويظل الأمر الأكثر إثارة للرعب ما كشفت عنه وثائق أميط عنها اللثام، من أن بحر آرال كان في الماضي مقراً لإحدى المنشآت السوفيتية السرية المخصصة لإجراء تجارب على الأسلحة البيولوجية. وكانت تلك المنشأة الواقعة على جزيرة "فوزروزدينيا" (التي لم تعد جزيرة بعد جفاف البحر) تعد موقع التجارب الرئيس لـ"مجموعة الحرب الجرثومية والبيولوجية" التابعة للجيش السوفيتي. إذ شُحنت آلاف الحيوانات إلى تلك الجزيرة حيث كانت تتعرض لبكتيريا الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) والجُدري والطاعون الدبلي وداء البروسيلات وعوامل بيولوجية أخرى. وقد ساور القلق السلطات الأميركية جراء احتمال وقوع براميل صدئة تحمل الجمرة الخبيثة في أيدي تنظيمات إرهابية؛ لذا بادرت في عام 2002 إلى إرسال فريق تنظيف إلى ذلك الموقع. ولم يُعثر على أي مواد بيولوجية في الغبار منذ ذلك التاريخ؛ لكن ظهور حالات طاعون بصورة متقطعة لا يزال يسبب نكبات لسكان المنطقة المجاورة.
وفي عام 1989، تحول بحر آرال الذي كان يمتد على أراضي كازاخستان وأوزبكستان، إلى بحرين، نتيجة تراجع منسوب مياهه وضعف تغذيته النهرية. وعوضاً عن البحر الواحد يوجد اليوم "بحر آرال الصغير" على الأراضي الكازاخية، و"بحر آرال الكبير" على الأراضي الأوزبكية. وقد تراجع وضع البحر المأساوي خلال السنوات الماضية، ولا سيما في كازاخستان، حيث أقامت السلطات هناك في تسعينيات القرن الماضي سداً للحيلولة دون تسرب المياه التي تصب فيه إلى المناطق الصحراوية في الجنوب. إلا أن ذلك السد انهار، وبعد ذلك وتحديداً في عام 2005. أما نقطة الضوء الوحيدة في هذه القصة الحزينة فهي عودة الروح للبحر الشمالي مؤخراً. ففي عام 2005، أنهى الكازاك بناء "سد كوكارالسك" بطول 13 كيلومتراً على الضفة الجنوبية للبحر الشمالي بتمويل من البنك الدولي، فنشأ عن ذلك كتلة مائية منفصلة كلياً تغذيها مياه نهر سير داريا. ومنذ بناء هذا السد، استعاد البحر الشمالي عافية مصايده بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً. لكن السد عزل البحر الجنوبي عن أحد مصادر المياه الرئيسة التي ترفده، مما دفع به إلى مصيره المحتوم.
من بحر إلى بحرين
نتيجة تلك الجهود، استعاد بحر آرال في كازاخستان كميات كبيرة من مياهه، واتسعت مساحاته وبلغ مجددا ميناء آرالسك بعدما انحسر عن أرصفته لسنوات؛ ما أدى إلى تحسن مناخ المنطقة، وظهور المراعي مجدداً في حوضه، وكذلك عادت الأسماك إلى مياهه ومعها قوارب الصيادين. أما الجزء الثاني من آرال، فما زالت الصحراء تلتهمه، لعدم اتخاذ تدابير كافية لإنقاذه. ويبقى هذا البحر في حاجة إلى عقود ليعود إلى سابق عهده، على أن تتضافر جهود جميع الدول التي يؤثر آرال على الحياة فيها. وكانت خمس جمهوريات في آسيا الوسطى مرتبطة بهذا البحر قد أسست عام 1993 "صندوق إنقاذ آرال"، لتنسيق الجهود الإنقاذية؛ وفي البداية تمكن الصندوق من حل بعض المسائل، إلا أنه ورغم الاجتماعات السنوية لم يتم حتى الآن التوصل إلى مستوى من التنسيق يؤثر بشكل جدي على مستقبل هذا البحر، وما زال وضعه يتدهور وبصورة خاصة "بحر آرال الكبير" في أوزبكستان.
ولأن مع كل محنة ثمة منحة، فقد استفادت مدينة ميوناك بغرب أوزباكستان، حيث اختفت المياه التى كانت ترسو فيها السفن وظهر قاع البحر المغطى بالملح الأبيض، من تدفق سياحي من نوع خاص: “سياحة الكوارث البيئية"، إذ يحرص كثير من الناس على المجيء إلى هذه البقعة المنكوبة لالتقاط صور سيلفي مع مقبرة السفن الصدئة التي تمخر اليوم عباب بحر الرمال المختلطة إلى جانب الإبل التي تمر عابرة المكان. صدق من قال: مصائب قوم عند قوم فوائد.