حلقة جديدة في إطار المبادرات الدولية بشأن الملف الليبي شهدناها خلال مؤتمر برلين. وقد وضع الكثيرون من متابعي الشأن الليبي الكثير من الطموحات على مخرجات هذا المؤتمر، سواء على صعيد وقف إطلاق النار في ما يخص الاشتباكات العسكرية حول العاصمة طرابلس، أو فيما يخص تفعيل خريطة طريق سياسية. لكن المتابعين لشأن الدولة الواقعة في شمالي أفريقيا عن كثب، كانوا يعلمون أن الأوضاع الداخلية هناك في الوقت الراهن لا تسمح بولادة مبادرات سياسية جديدة لوقف القتال.
الأطراف الأوروبية وسياسة التدخل في ليبيا
وجاء مؤتمر برلين ليعيد إلى الأذهان نماذج مؤتمرات الصخيرات، وباريس، وباليرمو، ولقاء موسكو، وهو المقصود منه أن الأطراف الأوروبية بدأت تعتمد على خلق الأُطر السياسية من خلال الاتفاقات والبيانات كسياسة للتدخل الدولي في ليبيا، وهو ما يُترجم في الداخل الليبي كنوع من التآمر على البلاد، ومحاولة قهر النخب السياسية فيها من خلال ضغوط المجتمع الدولي.
وبغض النظر عن المُختار من التسمية، سواء المجتمع الدولي، أو الاتحاد الأوروبي، أو دول غربية بعينها، ثبت بالدليل القاطع أن الداخل الليبي غير راغب في أي تدخل من الخارج في سياق الصراع في اللحظة الراهنة.
ضعف المبادرات الأوروبية
وكشف مؤتمر برلين عن عدد من العيوب في التناول الدولي لهذا الملف، وهو ما يمكن تلخيصه في غياب الإجماع والفاعلية في المبادرات الدولية المرتبطة بالشأن الليبي. والمؤتمر كان يهدف بالأساس إلى التوصل لحالة من وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة عسكرياً في الداخل الليبي، وأقصى الطموح كان عقد جلسة بين كل من خليفة حفتر وفايز السراج، لعلها تفرز إعادة إحياء لعملية التسوية السياسية.
علي أية حال، لم يتمكن المؤتمر من التوصل إلى أي من تلك الأهداف، لدرجة أن منظميه لم يتمكنوا من جمع السراج وحفتر في لقاء واحد، وهو ما كان متوقعاً في ظل السياق الحالي للصراع الداخلي في ليبيا، ما يؤكد ضعف موقف المبادرات الأوروبية في الآونة الأخيرة، خلال التقارب الشديد في موازين القوى بالداخل الليبي.
ويظل المجتمع الدولي يعمل من دون منظومة تحاول صنع حالة من التوافق بين الدول المعنية بالشأن الليبي، وهو ما يؤدي إلى عدد من المبادرات التي لا تثبت شيئاً من النجاح. وتلك الحالة التي تكررت أكثر من مرة تدفعنا إلى التساؤل حول مدى الانقسام في المجتمع الدولي بشأن هذا الملف، وكيف سينعكس ذلك على قدرة المجتمع الدولي على التوصل لأغلبية أو قرار جمعي في ما يخص ليبيا.
ضرورة تعديل السياسات إزاء الملف الليبي
ومما لا شك فيه أن مؤتمر برلين عبَّر عن حالة من الخلاف بين القوى الدولية، فأي متابع للمشهد في ليبيا يعرف أن هناك صراعات وتحالفات جديدة دولياً وإقليمياً، كما أنه من غير الممكن توقع نجاحات سياسية من خلال المؤتمر بين طرفين يطلقان النار ويشتبكان عسكرياً، فهي مبادرة جرى إنتاجها في سياق لا يساعد على النجاح، ما يعني أن ليبيا باتت في حاجة إلى تغيير في نمط الدور الدولي على الصعيد الدبلوماسي في المرحلة المقبلة، ومن ثم تعديل السياسات إزاء الملف الليبي.
ويطرح فشل المؤتمر في خلق حالة من تقارب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة سؤالين مهمين في سياق الأزمة، وهما الحلول من الخارج، والحلول من الداخل، وهي مشكلة تعاني منها ليبيا في الفترة الأخيرة. وجدير بالذكر أن المبادرات الخارجية باتت مصداقيتها، سواء بين جموع الشعب أو النخب السياسية، في تراجع مستمر، ما يقلّل بشكل متكرر ومن خلال أكثر من تجربة فرص نجاح المبادرات الدولية في ليبيا كما شهدنا في الآونة الأخيرة. ومن ثم أصبح هناك تحد جديد أمام المجتمع الدولي، وهو انتهاج أسلوب مختلف في التعامل دبلوماسياً مع ليبيا.
الاجتهادات الشخصية لم تحقق أي نجاحات
وكما ذكرنا سابقاً، فشلت كل من مبادرات فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، في التوصل إلى حل سياسي للأزمة الليبية، لذا فإن القضية غالباً تتعلق بنمط العمل أكثر من تعلقها بهوية الدولة التي طرحت المبادرة، وهذا يعني أن تواصل المجتمع الدولي مع الأطراف في ليبيا كمدخل للمبادرات قد يكون هو الحل الأكثر جدوى ونفعاً في التوقيت الحالي، وتلك النقطة تعني أن المجتمع الدولي يحتاج للبدء في عدد من الإجراءات التي تسمح له باستكشاف الوضع الداخلي في ليبيا، ثم بناء مبادرات سياسية قائمة على مردود هذا التفهم.
إذن الاجتهادات الشخصية التي تنعكس على مبادرات الدول بين حين وآخر، لم تحقق أي نجاحات في الداخل الليبي، ومن ثم، يجب أن يكون هناك تقارب في الرؤى، والكثير من المعرفة المتبادلة بين الطرف الدولي الذي يطرح المبادرة، والأطراف التي تصارع بعضها البعض في ليبيا.
الإرهاب الجغرافي
تبقى نقطتان تعوقان المشهد العام للتدخل الدولي في ليبيا، كشف عنهما مؤتمر برلين، الأولى عودة المقاتلين من كل من سوريا والعراق بعد انهيار سيطرة تنظيم داعش على مواقع جغرافية في تلك الدول وممارسة أعمال إرهابية فيها، والكثير من هؤلاء يتجهون الآن إلى ليبيا، نظراً إلى كونها السياق الأنسب في الوقت الراهن للجماعات الإرهابية التي تسعى إلى ممارسة الإرهاب الجغرافي الذي يعتمد على التحكم في رقعة شاسعة من الأرض، ويفرض سلطته على سكانها ومواردها.
أما النقطة الثانية فهي استمرار غياب الصدقية عن المجتمع الدولي في الداخل الليبي، وهو ما يخلق "لوبي" رافضاً لفكرة التدخل بأي شكل من الأشكال، سواء بين الأطراف الليبية، أو بين قوى المعارضة في أوروبا، حيث تعد ليبيا أحد ملفات السياسة الخارجية كثيرة الاستخدام من قِبل القوى السياسية في الدول الأوروبية.
لهذه الأسباب سيبقى قرار التدخل الدولي معلقاً
عودة المقاتلين من داعش وإعادة تمركزهم في ليبيا يرفع من فرص الصدام سواء العسكري أو السياسي، ومن ثم يزيد التكلفة الكُلية لأي تحرك دولي في الوقت الحالي. وإذا زادت أعداد المقاتلين العائدين، وتوصلوا بشكل أو بآخر إلى إنشاء تنظيم ما، أو أعادوا إحياء تنظيمات قائمة بالفعل مثل "القاعدة"، أو حتى الانصهار في ميليشيات، فإن ذلك سوف يجعل الداخل الليبي أكثر ضعفاً، كما سيجعل الصراع أكثر توتراً، لذا، من المتوقع أن يظل قرار التدخل الدولي معلقاً حتى تتكشف الأبعاد المختلفة لظاهرة عودة المقاتلين من سوريا والعراق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مسألة غياب مصداقية المجتمع الدولي كمؤسسات أو دول لدى الشعب الليبي تمثل نوعاً من حائط الصد تجاه أي مبادرات جادة. وهناك سببان رئيسان لغياب المصداقية، الأول هو ما فعله حلف الناتو عام 2011 من خلال عملية "فجر أوديسا"، حين تدخل عسكرياً من دون أي استراتيجية للخروج، أو حتى للوجود في مرحلة ما بعد انتهاء العمليات العسكرية، وهو ما ترك ليبيا في حالة مزرية من الفوضى، أعادت إحياء خطاب ما بعد الاستعمارية post-colonial discourse لدى العديد من القوى السياسية وأدت إلى فقدان المصداقية، بل وإلى تخوين كل ما يجيء به الغرب. وتلك الحالة لا تزال تشكل أحد عوامل الاستقطاب السياسي التي يعول عليها عدد من القوى السياسية داخل ليبيا، ما يخلق صعوبة في إنجاح دور التدخل الدولي في المشهد السياسي الليبي.
اتفاق الصخيرات... حبر على ورق
في النهاية، كشف مؤتمر برلين أن التناول الدولي لا يزال بعيداً عن مرحلة تحقيق نجاحات ملموسة في الأزمة الليبية، فالأطراف المختلفة في ليبيا لا تمانع المشاركة في المؤتمرات وعقد اللقاءات، لكنها تمانع عندما تعود بلادها ترجمة ذلك إلى واقع سياسي من خلال قرارات.
كما أن منظومة الفشل المتكرر للتدخل الدولي سياسياً في ليبيا من خلال مبادرات للصلح أو وقف إطلاق النار بدأت تنال من أهمية ومغزى اتفاق الصخيرات كمرجعية سياسية لنظام إدارة أو تسوية الصراع.
فاتفاق الصخيرات جرى توقيعه منذ أكثر من أربع سنوات، وحتى الآن لا يزال حبراً على ورق، فهو لم يتمكن من أن يكون إطاراً سياسياً قادراً على صناعة تسوية أو حل أزمات، ما يدل على حجم العوار في صياغته من قِبل الأمم المتحدة، بل في حقيقة الأمر، كل ما فعله هذا الاتفاق على الأرض حتى الآن هو إضافة طرف جديد في الصراع بين الشرق والغرب تحت اسم المجلس الرئاسي، ولكن الجدير بالذكر أن مؤتمر برلين لن يكون المبادرة الدولية الأخيرة في ظل الواقع السياسي والسجال العسكري اللذين تشهدهما ليبيا في اللحظة الراهنة.