طالب أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجامعة العربية، الدول الأعضاء مراراً بسداد مساهماتها في تمويل المنظمة، التي تعاني شبح تجميد معظم أنشطتها وتسريح موظفيها وإغلاق بعثاتها في الخارج، نتيجة ضعف الميزانية، وعدم تلقي الأمانة العامة كامل الحصص المقررة على الأعضاء، التي تصل إلى نحو 60 مليون دولار.
وتتعرض المنظمة لانتقادات مستمرة حول دورها وحضورها في الأزمات والقضايا المختلفة التي تعانيها المنطقة، فضلاً عن حاجتها إلى ترشيد إنفاقها الذي يذهب غالبيته إلى تغطية رواتب الموظفين والدبلوماسيين، والإنفاق على البعثات الخارجية، ولا يتبقّى منه سوى هامش ضئيل لنفقات نشاطات الجامعة وبرامجها والمصروفات العامة.
لكن، الأزمة المالية التي عبّر عنها الأمين العام للجامعة لم تكن وليدة اليوم، إذ شهدت المنظمة كثيراً من الأزمات منذ نشأتها، والتي أدّت في كثير من الأحيان إلى عجزها عن سداد التزاماتها المالية، والأهم تراجع دورها في تعزيز العمل العربي المشترك في كل المجالات، إلى الحدّ الذي دفع بعض الأمناء العموم السابقين إلى التهديد باستقالتهم سواء علانية أو في الاجتماعات المغلقة.
أزمة مُزمنة
يقول جمال بيومي، مستشار الأمين العام للجامعة العربية سابقاً، "الميزانية كانت دائماً مشكلة منذ بداية تأسيس المنظمة. في البداية تكفّلت مصر ببناء المقر بالقاهرة، حينما انطلقت الجامعة عام 1945 بعضوية الدول العربية المستقلة آنذاك، ثم تشكّل نظام للتمويل غير عادل، إذ كانت القاهرة وحدها تدفع 25 في المئة من الميزانية، والنسبة المتبقية تلتزم بها الدول العربية مجتمعة".
وأضاف بيومي، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "ظل هذا الوضع قائماً حتى عام 1967، إذ كانت مصر في حالة نكسة، وبدأت تتضرر من هذا الإنفاق، وجرى الاتفاق على نظام جديد لم يكن عادلاً أيضاً، نصّ على أن 6 دول عربية كبرى صاحبة أكبر دخل قومي، ومن بينها مصر، تدفع معظم الميزانية".
وتابع، "حتى العام 2000 لم تكن الميزانية تتجاوز 35 مليون دولار، وهو ما يشير إلى المشكلة المستمرة. الجميع يطالب الجامعة بالحضور والنشاط، لكن هل يمكن أن يتحقق ذلك من دون إنفاق؟ الجامعة العربية والمنظمات النوعية المنبثقة عنها لا تتجاوز موازنتها السنوية اليوم 100 مليون دولار، منها نحو 60 مليوناً للجامعة العربية ونحو 40 مليوناً للمنظمات النوعية، علماً أنه لا يجرى تحصيل إلا أقل من نصف هذا المبلغ فعلياً، في حين أن تمويل منظمات دولية أخرى يصل إلى مليارات الدولارات".
وأشار بيومي إلى أن هناك دولاً "لا تسدد مساهماتها لسنوات، على سبيل المثال الصومال لا يدفع، والعراق ظل سنوات لا يدفع أيضاً، لأنه كان في حالة حرب، وغيرهما من الدول لم يسدد الحصص المقررة في مواعيدها، وهو ما اضطر معه الأمين العام الأسبق عمرو موسى إلى التهديد بالاستقالة في أوائل الألفينيات فحلّت الأزمة من خلال دفع المتأخرات وتسديد مساهمات سنة كاحتياطي نقدي، فظلت الجامعة سنوات تتمتع باستقرار مالي".
وشهدت المنظمة خلال السنوات الأخيرة أزمة مالية هي الأسوأ منذ نشأتها، نتيجة عدم تسديد الدول حصصها، إذ تشير تقارير الموقف المالي للجامعة التي اطلعت عليها "اندبندنت عربية" إلى أنّ نصف الدول الأعضاء لا يقوم بسداد ميزانيته منذ سنوات، بينما يبلغ إجمالي القيمة المُحصلة سنوياً نحو النصف فقط في أفضل الأحوال، كما أنّ الدول الملتزمة تتأخر في السداد عدة أشهر، إذ اضطر ذلك الأمانة العامة إلى اللجوء إلى الاحتياطي النقدي للجامعة لسداد رواتب الدبلوماسيين وغيرها من النفقات، وفي صيف 2017 لم يكن لدى الجامعة ما يكفي لسداد الرواتب.
نصف الدول لا تدفع حصتها
وكشف الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، في تصريحات صحافية الشهر الماضي، أنه جرى تحصيل 49.5 في المئة فقط من الميزانية خلال العام المنصرم 2019 من أصل 60 مليون دولار، مؤكداً أن "12 دولة عربية لا تسدد مساهماتها منذ سنوات، على الرغم من أن البعض حصته لا تتجاوز 650 ألف دولار سنوياً فقط"، معتبراً أنه "لا يمكن التذرع بضعف القدرة المالية، لأن المساهمات تمثل مبالغ هزيلة".
وذكر مصدر دبلوماسي عربي، في حديث خاص، أن بعض الدول "تستخدم مسألة سداد حصتها لأغراض إدارية وسياسية تتعلق بالمنظمة، مثل تعيين سفراء من مواطنيها في مناصب بالجامعة، أو احتجاجاً على موقف أو خلاف معين، أو للضغط من أجل إلزام دول أخرى بالسداد، أو لإجبار الأمانة العامة على ترشيد النفقات، خصوصاً عبر إنهاء خدمات المستشارين والمتعاقدين".
ولفت، إلى أن المساهمة في الموازنة "تمثل التزاماً أساسياً وطبيعياً على الدول الأعضاء، لكن حساسية هذه المسألة تأتي من اعتبار بعض الدول أن السداد من عدمه أمر يخص سيادتها، أو أنها غير قادرة، نظراً إلى ظروفها الاقتصادية والسياسية، وهو ما ينعكس في نهاية المطاف على فعالية المنظمة واستقرارها المالي، ويعكس أيضاً مدى قناعة تلك الدول بمسيرة العمل العربي المشترك".
وأوضح المصدر، يوجد مقترح بأن يكون "الوزن التصويتي للدول على قرارات الجامعة محدداً بعدد من النقاط"، وفقاً لحجم المساهمة في الميزانية، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، لكن الدول "ترفض هذا المقترح"، بحجة أنه "لا يتفق مع مبدأ السيادة المتساوية للدول الأعضاء، وأن القرارات تتخذ في الغالب بالإجماع أو التوافق، ولا يتم اللجوء إلى التصويت إلا في حالات تعذر التوافق".
تكفي الرواتب
وقال مصدر مسؤول بالجامعة العربية، في تصريح خاص، إن "نحو 90 في المئة من الموازنة تذهب كرواتب للموظفين، ولا يبقى سوى قيمة ضئيلة جداً للقيام بالنشاطات والفعاليات والبرامج المختلفة التي تغطي كل مجالات التعاون بين الدول العربية تقريباً"، موضحاً "يوجد عجز في الصندوق العربي للمعونة الفنية في أفريقيا الذي يفترض أن يكون أداة رئيسة في تعزيز حضور الجامعة بالقارة، والوقوف بوجه توغل الأدوار الإقليمية غير العربية المناوئة الجامعة في أفريقيا، حيث تتحفظ العديد من الدول على المساهمة في موازنة الصندوق، حتى تلتزم بقية الدول العربية بسداد حصصها فيه".
وأشار المصدر إلى أن كثيراً من النفقات الضرورية، مثل الأعمال الجارية لتوسعة وتطوير المقرات والقاعات، يجرى من خلال "مساهمات فردية" من بعض الدول.
مشكلة البعثات الخارجية
وترفع جامعة الدول العربية علمها على نحو 20 بعثة ومكتباً في قارات العالم المختلفة، خصوصاً في الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن، التي تضم مقرات رئيسة للمنظمات الدولية، مثل نيويورك وجنيف وبروكسيل وفيينا وأديس أبابا وغيرها.
لكن العديد من الدول العربية طالبت ضمن مقترحات ترشيد الإنفاق وإصلاح منظومة الجامعة بإلغاء تلك البعثات أو تقليصها، وخفض نفقاتها التي تخصص في أغلبها لرواتب الموظفين بتلك البعثات، وإيجار المقرات، ففي عام 2015 وصلت ميزانية البعثات الخارجية للجامعة إلى نحو 20 مليون دولار سنوياً، منها 19 مليوناً للرواتب والإيجار، بينما 5 في المئة من هذه الميزانية مخصصة للأنشطة بمختلف المكاتب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واتخذ مجلس الجامعة كثيراً من القرارات بإعادة النظر في تلك البعثات، بناءً على تقارير سنوية لتقييم عملها ولتحديد جدوى بقائها، وذلك تنفيذاً لتوصيات ومقترحات اللجنة المستقلة لإصلاح وتطوير الجامعة برئاسة الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي الصادر في يناير (كانون الثاني) 2013.
وعقدت اللجنة المعنية بتقييم أوضاع وجدوى بعثات ومكاتب جامعة الدول العربية بالخارج آخر اجتماعاتها قبل عامين، وأعلنت الأمانة العامة للجامعة أنها قلّصت نفقات هذه البعثات بنحو 20 في المئة، لكنها أوصت باستمرار عمل المكاتب والبعثات كأداة رئيسة للصوت العربي بالعالم.
ومن جانبه، يرى جمال بيومي، أنه على الرغم من النسبة الكبيرة التي تخصص للبعثات الخارجية من إجمالي ميزانية الجامعة، فإنه ليس "هناك إسراف في الإنفاق على البعثات الخارجية، وهي ضرورية بطبيعة الحال، بدليل أن معظم تلك النفقات ضرورية وتشغيلية تتعلق باستمرار وجود البعثات في حد ذاتها، وليس في مظاهر من البذخ والنشاطات غير الضرورية".
وأشار إلى أن هذا الوجود "ضروري لتعزيز حضور الجامعة، فالعديد من البلدان الأوروبية الأعضاء بحلف الناتو لدى كل منها 3 بعثات و3 سفراء في العاصمة البلجيكية بروكسيل وحدها على سبيل المثال، فهناك بعثة لدى الاتحاد الأوروبي وأخرى لدى الناتو، إضافة إلى بعثتها الدبلوماسية لدى بلجيكا، وحتى لدى مصر هناك العديد من الدول العربية التي كان لديها مندوبية لدى الجامعة العربية وسفارة لدى مصر، وهذا الوجود طبيعي وضروري، الجامعة العربية منظمة إقليمية قديمة وتسبق نشأتها نشأة الأمم المتحدة، ولا تعمل في فراغ، بل بالتنسيق والتفاعل مع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، وإن كانت بعض هذه البعثات بحاجة إلى إعادة نظر".