للوهلة الأولى سيبدو الأمر وكأنه مزحة. مزحة بصدد لوحة وربما أكثر من هذا، مزحة بصدد صورة. والصورة تمثل جلسة لإنجاز اللوحة على أية حال. في الصورة رسام وسيدة بينهما اللوحة على حاملها. تجلس السيدة بكل وقار في مواجهة الرسام، بوقار ملوكيّ حتى وإن كان يمكن أن نتوقع منها إما أن تضحك لما يجري أو تغضب فيما الرسام مستغرق في التفكير في اللوحة وكيف سينجزها، هو المعتاد على مثل ذلك التفكير كما على التباطؤ الشديد في عمله. ولكن أن يستغرق العمل على اللوحة التي نحن في صددها هنا أكثر من سبعة عشر شهراً (من مايو/أيار 2000 إلى كانون أول/2001) فأمر بفوق التصوّر. بخاصة إذا كانت الموديل ملكة: بالتحديد ملكة المملكة المتحدة، سيدة بريطانيا الأولى، إليزابيت الثانية. وبخاصة أيضاً إذا كانت مساحة اللوحة في نهاية الأمر لا تزيد عن خمسة عشر سم عرضاً و22 سم ارتفاعاً (ما مجموعه 330 سنتمتراً مربعاً). والحقيقة أن كل شيء هنا يوحي بأننا في قلب المزحة، ويحق لمواطن بريطاني مهذب وتقليدي أن يعتقد أن في الأمر تركيبة ما، أو أن الصورة مزيفة، أو أن ثمة كاميرا خفية مخبوءة في مكان ما وأن السيدة في الصورة شبيهة بالملكة وإن كان من المؤكد في المقابل، أن الرسام حقيقي بل يحمل اسم فرويد. غير أن ذلك كله، ولسوء حظ المواطن البريطاني الحائر، ليس وارداً: السيدة هي الملكة نفسها بلحمها ودمها. واللوحة حقيقية انضمت في ذلك الحين إلى المجموعة الخاصة بالملكة. والصحف البريطانية تزمجر غاضبة. "هذا الفرويد يجب أن يُسجن في برج لندن!" عنونت صحيفة "ذا صان" ذات الشعبية الكاسحة، وصفق كثر للعنوان لكن أحداً لم يسجن لوسيان فرويد في أي برج ولن يعدمه أحد، بل سيعيش بعد اللوحة والصورة معزَّزاً مكرماً. ليس طبعاً لأنه حفيد فرويد الكبير، سيغموند، مؤسس التحليل النفسي في فيينا عند بدايات القرن العشرين. بل تحديداً لأنه كان واحداً من أكبر ثلاثة أو أربعة رسامين بريطانيين معاصرين، إلى جانب فرنسيس بيكون، صديقه وزميله الذي سيرحل بعد حين، ودافيد هوكني، كبير القوم وأكثرهم نجاحاً.
حرية الفن... أليس كذلك؟
حسناً، إذا بدا أننا قلنا في الفقرة السابقة كل شيء، فإننا في الحقيقة لم نفعل. فقد بقي الأساسي. بقيت الحكاية التي من شأنها أن تربط عناصر هذه "الكلمات المتقاطعة" الفنية الغريبة ببعضها بعضاً. لكنها على أي حال حكاية بسيطة. فإذا كان الملوك الكبار في تاريخ أوروبا، وغير أوروبا، اعتادوا منذ خرج الفن من الكنيسة إلى بيوت الناس الكبار، وقبل أن يخرج إلى الحياة العامة، نهائياً بل يصبح ميكانيكياً ومبتذلاً، أن يستدعوا فنانين كباراً ليرسموهم، فنانين يحملون أسماء تيسيانو وبيلا سكويث... وحتى غويا، ما الذي سيمنع ملكة بريطانيا المحبة للفن عادة، من أن تستجيب لطلب تقدم به أكبر فنان في البلد، وهو ثمانيني مثلها على أي حال يريد كما يبدو أن يخلد سنوات عمره وفنه الأخيرة، برسم لوحة خالدة لها وهي بدورها في آخر سنوات عمرها؟ وتم الاتفاق بكلمة شرف شفهية تعهّد بها الرسام، وهو المعتاد على رسم نساء عاريات، بأن تكون صورة الملكة محتشمة مُقسماً أنه لا يريد الاحتفاظ باللوحة بل سيقدمها إلى المجموعة الملكية هدية. وطربت جلالتها التي كانت تعاني ضائقة مالية ساحقة. لكنها، في غمرة الطرب، لم تسأل الرسام، كما لم يسأله أي من خاصتها ومسؤولي ديوانها، عن القياس الذي سيكون للوحة. اعتقدوا أن ليس من حقهم أن يسألوا رساماً عُرف أصلاً بضخامة حجم لوحاته، فهو لن يخذلهم في نهاية الأمر. لكنه خذلهم. خذلهم ولو أن التهذيب الإنكليزي، ومكانة الرجل، وتقاليد احترام الفن لن تجعلهم يصرحون بذلك لاحقاً. بالأحرى تركوا ذلك للصحافة الشعبية. ولكن هل يعبأ أحد حقاً بتلك الصحافة التي لا تتوقف عن البحث عن "فضائح" يومية لعناوينها الصاخبة، وسوف لن يفوتها أن تجد ضالتها الآن حتى ولو انتهى الأمر بفرويد –الحفيد طبعاً – إلى إنجاز لوحة تأخذ في تاريخ الفن مكان الموناليزا ومكانة كل الفنون الملوكية مجتمعة؟
مهما يكن من الأمر هو لن يفعل هذا. وحتى لو أننا لا نوافق الصحافي الذي طالب بإيداعه في برج لندن على فكرته السخيفة – من دون أن يعني هذا من وجهة نظر ما أنه لا يستحق ذلك! – ففي نهاية الأمر أتت اللوحة واحدة من أقبح اللوحات التي حققها في حياته. وهي لئن كانت تحمل حقاً ملامح الملكة وروحها الداخلية، فإنها تظهرها عجوزاً أكثر مما هي بكثير، وحانقة أكثر بكثير مما كانت حالها إزاء تصرفات كنّتها أميرة الشعب ذات يوم، وامرأة تشعر بنهاية العالم بأكثر مما اعترفت يوم تحدثت عن "عام مريع" مرّ على عائلتها الملكية قبل سنوات، وربة قصر ذُهلت ذات يوم حين اكتشفت مخابرات جلالتها أن أمين مجموعتها الفنية الملكية – أنطوني بلنت – كان مخبراً يعمل لحساب الـ "كي. جي. بي" جهاز المخابرات السوفياتي السيء الذكر.
تلك الحماة الشاحبة
ما صوّره لوسيان فرويد لم يكن ملكة بريطانيا، تلك الأمبراطورية التي لم تكن الشمس تغرب عنها، بل حماة مرتاعة غاضبة مكتئبة شاحبة. ولكن ما العمل والفن هو الفن! ما العمل والملكة الأكثر شهرة في العالم تؤمن بحرية الفن؟ بل سيهمس البعض أن عبقرية ابن إرنست ابن سيغموند مكنته من أن يحوّل الألوان والخطوط التي اشتغل عليها - في جلسات متلاحقة توافيه فيها الملكة إلى قصر سانت جيمس حيث أقيم له ستديو خاص لإنجاز تلك اللوحة بالذات على مدى أكثر من عام ونصف العام زُيّن بالشراب والمأكولات وطبعاً، بالحراس وأجهزة التنصّت-، إلى بورتريه حقيقي يصف الملكة كما هي حقاً وربما من منطلقات سيكولوجية ها هو يكشف الآن عمق وراثته لها عن جده. وقال ناقد: ما من صورة أو لوحة لإليزابيت صوّرتها من داخل روحها بأكثر مما فعلت هذه اللوحة!
المهم أن المسألة لم تكن، في نهاية الأمر لا مزحة ولا كاميرا خفية ولا صورة تم التلاعب بها على الحاسوب. بل لوحة حقيقية تتربع مكاناً فاخراً في إحدى قاعات قصر بيكنغهام، لتعيش طبعاً أكثر مما ستعيش الملكة نفسها، حتى ولو اضطرت إلى بيعها بعشرات الملايين من الجنيهات التي تقول التقديرات أنها تساويها بل يمكن أن تحصّل أكثر منها في أي مزاد لـ "سيذبي" أو "كريستي"، وستعيش – اللوحة طبعاً - من بعد رحيل لوسيان فرويد نفسه عشر سنوات بعد إنجازه اللوحة التي لن نعرف أبداً كم ضحك في سرّه وكم أحس بمتعة وهو يرسمها في حضرة الملكة.
عاش لوسيان فرويد حتى العام 2011 هو الذي كان وُلد في فيينا في العام 1922 ابناً لإرنست أصغر أولاد سيغموند، وظل طوال حياته يتذكر المجد والصراعات التي ارتبطت بذلك الجد كما يتذكر مبارحته وعائلته فيينا إلى لندن في العام 1933 مستبقين الجدّ، رائد التحليل النفسي الذي سيوافيهم هناك في العام 1938، يوم راح النازيون يضيّقون الخناق عليه. استقر لوسيان في لندن حيث راحت تظهر ميوله الفنية منذ وقت بسرعة في اتجاه الرقص أولاً ثم المسرح وصولاً أخيراً إلى الرسم الذي تميّز فيه منذ وقت مبكر، مشاركاً في معارض جماعية، حتى كان العام 1946 حين أقام، بعد زيارة إلى باريس استمرت شهرين، أول معرض خاص به في العاصمة البريطانية. وهو منذ ذلك الحين لم يتوقف عن الرسم وإقامة المعارض متميّزاً بأسلوب واقعي اعتمد أكثر ما اعتمد على رسم الأهل والأولاد والجيران والأصدقاء وعليّة القوم، حتى وصل إلى سيدة البلاد التي لن تقول أبداً رأيها في تلك اللوحة بالذات حتى وإن كانت تُنقل عنها دائماً عبارات الإعجاب بفن لوسيان فرويد بشكل عام.
لوسيان فرويد وإليزابيث الثانية واللوحة ثالثهما