يجمع الإعلام الإيراني بين أشكالٍ عدّة من فلسفات الإعلام، ويستند إلى أسسٍ ثيوقراطية مبنيَّة على الاعتقاد بأنّ المرشد الأعلى الذي يتحكّم في الإعلام، مفوّضٌ بالحق الإلهي كنائبٍ عن الإمام المنتظر الغائب.
كما يستند إلى الفكر القومي المتطرف الذي طُبّق من قبل في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، حيث كان المبرّر الأساسي لكبت الحريات هو مصلحة الدولة القومية، بتسخير الإمكانيات والوسائل كافة لدعم نظام الحكم وكي تتمكن من تحقيق أهدافها المتمثّلة في مصير وقوة الأمة بشكلٍ لا يترك مجالاً لمناقشة ودعم حريات الأفراد.
إعلامٌ ثوريّ
يتشكّل قوام الإعلام الإيراني من فلسفة الإعلام الثوري، فعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على الثورة الإيرانية 1979، إلَّا أنَّ الإعلام يُبقي الإيرانيين في حالة إثارة ثورية دائمة بالتحكّم في الآلة الإعلامية وتوجيهها لخدمة أهداف السلطة.
وما هو واضح أنّ وسائل الإعلام المحلية، ظلّت في حال معاناتها منذ قيام الثورة الإيرانية، ولكن الظروف ليست بأي حالٍ من الأحوال بأفظع ممّا كانت عليه في عهد المرشد الأعلى الخميني، نظراً إلى ما فرضته التطورات العالمية والتطور التكنولوجي والعولمة.
ومع ذلك، فإنّ السوء الذي يعاني منه الإعلام في عهد المرشد علي خامنئي، هو أنّ حكم الولي الفقيه وصل إلى حدِّ الرسوخ الكلي. لم تتغيّر طبيعة دور وسائل الإعلام في إيران بشكلٍ كبير عن دورها في نظام الشاه ولا عن الدور الذي لعبته وسائل الإعلام خلال عهد أسرة القاجار. وإنّ الدولة كانت ولا تزال هي أكبر مالك إعلامي. ولو أنَّ هناك انفراجاً في حرية التعبير، فقد حدث خلال الثورة الإيرانية وليس قبلها ولا بعدها. والجدير بالملاحظة أنَّه عندما هدأت الموجة الأولى من الإثارة الثورية، سرعان ما بدأ الأشخاص الذين تولَّوا السلطة يحدِّون من حرية الصحافة وقمع وسائل الإعلام.
يمكن النظر إلى اتفاق السلطوية الإيرانية مع النظرية الشيوعية في جزئية ملكية وسائل الإعلام كإحدى اختصاصات الحكومة، وكأداة من أدوات المرشد الأعلى في حالة إيران، أو الحزب الشيوعي في حالة الاتحاد السوفياتي سابقاً.
لهذا، فإنَّ الحكومة هي التي تتحكّم تحكّماً كاملاً في مجريات الشأن الإعلامي، فتعمل وسائل الإعلام على تربية الشعب على المسار الأيديولوجي، وتقوية القناعات الشعبية بالفكر السائد ومحاربة الفكر المضاد الذي تمثله الرأسمالية الغربية. وتختلف السلطوية الإيرانية عن الشيوعية بشكلٍ طفيفٍ في أنَّ السلطوية الإيرانية تبرِّر سيطرة المرشد على الإعلام من منطلق مصلحة الدولة، بينما في النظرية الشيوعية يقوم الإعلام على محورية المجتمع من منطلق مصلحة الجماعة وهيمنة الدولة.
التحكُّم بالمشهد
يتجسَّد الإعلام السلطوي الإيراني في العلاقة بينه وبين المجتمع، وهي علاقة ناشئة على الريبةِ والشكِّ، إذ وضعت الحكومة الإيرانية الكثير من القيود على الإعلام وعرقلت مساعي الصحافيين والإعلاميين عموماً لممارسة دورهم في النشر والحصول على المعلومات التي تقتضيها المهنة.
ولم يكن غريباً على الحكومة السيطرة على الإعلام لأنّه منذ الثورة الإيرانية ارتكز على الأيديولوجيا، كإرثٍ ممتدٍّ بالسيطرة على العقول. وبشكلٍ عام منذ نشأتها، كان لوسائل الإعلام دور سياسي، واستخدمها رجال الدولة للترويج لسياساتهم، بخاصة في حالات الحروب والصراعات، أو في التضليل ونشر الإشاعات لتثبيت أواصر الحكم.
وفي الحالة الإيرانية، يتم توجيه الخطاب الإعلامي على اعتبار أنَّه نابعٌ من موقف قوة، غير أنّه ينضح بالتناقضات، وفي ذلك، تلعب إيران على ما سمّاه مايكل هوفمان كما جاء في كتاب «حروب العقل» لماري جونز ولاري فلاكسمان بالعقل المزدوج للإعلام الجماهيري، الأول هو العقل الذي يقبل، والثاني هو العقل الذي يرفض، كتفسيرٍ للنفاق والرسائل المزدوجة التي تبثها وسائل الإعلام.
لدى إيران أجندة منحازة ومصمَّمة لجعلها تبدو المدافعة حصراً عن مناطق تدخلاتها في اليمن وسوريا ولبنان وجعل ميليشياتها تبدو كضحايا عاجزين، ولكنّ أجندتها صارخة لدرجة أنّها تفضح تحيّزها الأساسي.
قد يكون ذلك نتيجة طبيعية لسياسات طهران الاستقطابية، ولكن ممّا لا شك فيه أنّ إيران توجّه خطابها الإعلامي عن قصد، كمسألة يُختلف حولها، فهي تسعى إلى توسيع الفجوة بين التفسيرات المختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما تصريحات المسؤولين المتناقضة والمبتعدة أحياناً عن خطِّ المرشد خامنئي، بخاصة أنَّ معارضة قراراته وسياساته تعني عدم الولاء له ولإيران، فهي ليست بسبب معارضته أو الوقوف في وجهه، وليس للتشكيك في سياساته التي تمثِّل الخطّ العام للدولة، بل لإثارة شبح الولاء المزدوج، وهو ليس حقيقيّاً ولكنه يوفِّر قدراً ممّا يظنّه البعض نوعاً من حريّة التعبير.
أما تأثير ذلك في المتلقي الإيراني، هذا الجمهور الذي صدق الأسطورة وآمن بها والتعامل مع الأحداث من الجانب الشكلي، هو هروب من مواجهة العقل والمنطق، فاقتناص الجزيئيات الصغيرة لإبرازها في الخطاب بشكلٍ انفعالي لكسب الشارع، أسلوب ضعيف الحجة.
وهذه واحدة من إشكاليات الخطاب الإيراني الذي يهتمّ بخلق مشاكل خارجية لصرف الأنظار عمّا يدور في الداخل.
يمتلك النظام رؤية إعلامية ولكنَّها كلّيّة تتحكَّم بكامل المشهد الإعلامي الداخلي، وتستخدم تفسيراتها الخاصة التي تزوِّد بها المتلقي الإيراني في محاولةٍ للتحكم بالمشهد الإعلامي الخارجي.
سطوة الديماغوجيا
في المقابل، يستمدّ الإعلام الإيراني السلطوي وجوده من الأيديولوجيا المغذيّة له، ولذلك يبدو خطابه صراعاً على الوجود. وهذه النزعة المذهبية مغلَّفة بترسيخ أفكار التفوّق، بدايةً باعتقاد تفوّق العرق الفارسي الذي يمتدّ حسب ذلك إلى العِرق الآري.
وتأتي هذه المفاضلة بوقوع إيران وسط أعراق آسيوية وعربية ممّا يشعرها بالتفوق، ويجعلها تحرص على تكوين أذرع إعلامية داخلية وفي أي بلد تستهدفه. يتبنّى النظام الإيراني استراتيجية إقناعية معينة في خطابه، هي استراتيجية الأمر الواقع والتأثير في المتلقي وتشكيل الصورة الذهنية من خلال عشرات القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الناطقة بالعربية على أشكال برامج سياسية وتعبوية وثقافية وترفيهية، معتمداً على آليات عدّة هي:
- التركيز على عملية التكرار وضخّ المعلومات الكثيفة للتأثير في الناس حتى يؤمنون بما يطرح، ويصبح الحقيقة التي يجب الالتزام بها، من تلفيق الحقائق والتبعية الفكرية والسياسية.
- الربط السياسي بالمصالح من خلال الدعم المالي والاقتصادي والعسكري. وللإعلام في السياسة الشيعية المعاصرة، مركزية نابعة من اعتماد أدبيات الإرث الثوري كخُطب الخميني التي يُعاد تكرارها باستمرار، وربط مسؤولية الإشراف العام على جهاز الإعلام في إيران بالمرشد الأعلى من خلال الدستور، كتعيين رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وإقالته، وهذا يدلُّ على محورية دور الإعلام في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية.
- استخدام آلية الاستثارة العاطفية ومخاطبة المتلقي بالتركيز على قضايا وأحداث تثير الغضب والكراهية من خلال التأثير الوجداني، ومثال لذلك تبنّي واستغلال القضايا الإسلامية والقومية لتمرير المشروع الإيراني، ومن أهمها القضية الفلسطينية، وشؤون المسلمين، بخاصة في أوقات الكوارث والحروب والأزمات.
- تسريب المعلومات لجسّ نبض الشارع بشأن قراراتٍ مهمة، أو لتوجيه رسائل معيّنة إلى الخارج يمثّل الغرب المُستقبِل الأكبر لها ثم دول الخليج والدول العربية الأخرى.
- تلفيق الأكاذيب وبثّ الإشاعات على غِرار نظرية غوبلز التي تعود إلى وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز ( إكذِبْ واكذِبْ واكذبْ، حتى يصدقك الناس). ومتابعة تأثيراتها المختلفة وقياس ردود الفعل عليها داخليّاً وخارجيّاً، ومدى ما وصلته حالة التوتر وعدم اليقين للتشكيك في أي موقفٍ دولي.
ووفقاً لذلك أصبح الإعلام الجديد ذراع الحكومة الإيرانية ووسيلتها الناجعة التي تستخدمها بشكلٍ كثيفٍ لفرض نموذجها الفكري وتحقيق الهيمنة من خلال الخطاب الإعلامي الموجّه. وإزاء ذلك، عملت على تطوير استراتيجيّات إقناعية مُحدَّدة وموجَّهة للتأثير في المتلقِّي، مستثمرةً قدرتها الهائلة على مخاطبة طيفٍ واسعٍ من النسيج الاجتماعي لترويج مضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومن ذلك عملت على استخدام آليةِ تكريس الأمر الواقع، من خلال رسالةٍ إعلاميةٍ تخدم مصالحها. وكذلك، اعتمدت آلية تشكيل الصورة الذهنية بتحويل المدلولات التي يستحضرها الذهن بالإشارة إليها حتى تتحوّل من انطباعاتٍ إلى أحكام.
وكما عملت الحكومة الإيرانية على تحويل الإعلام إلى جسمٍ سلطويٍّ، فقد صمّمت خطة عمل إعلامية لإعادة دمج المجتمع الإيراني وإبعاده عن المجتمع الدولي. أدركت الحكومة بعدها أنّ عملية عزل المجتمع لم تنجح، وأنّ ولوجها حرباً داخلية معه لم يكن خياراً صائباً، ولكن على عكس ما يقتضيه استبدال المسار، اختارت الحكومة التمادي في ذلك ونجحت في استغلال الوسائط الرقمية والشبكات الاجتماعية، بعملياتٍ معقّدةٍ مكّنتها من القمع داخل الدولة وخارج الحدود.
لم ينعتق الإعلام الإيراني من سطوة الديماغوجيا العقائدية على وسائل التعبير، ولكن بنفس القدر الذي أعطت تقنيات الاتصالات الرقمية الحكومة الإيرانية فرصةً أفضل لمتابعة النشاط السياسي المعارض في الداخل والخارج، فإنَّ ابتداع وسائل جديدة بوصول الناشطين السياسيين والإعلاميين والمواطنين والصحافيين إلى الرأي العام العالمي زاد الضغط على طهران، ممّا يهدّد نشاطها الإعلامي ويطمس الوجه الرمزي الذي تكرِّس للحكم الدائم من ورائه.