يحتل المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، مكانة مرموقة داخل مُدونة الفكر المغربي المعاصر، مكانة لا يُجابهه فيها إلا عبد الإله بلقزيز ومحمد نور الدين أفاية وموليم العروسي وعبد الفتاح كيليطو وغيرهم من المفكرين، الذين أرسوا دعائم ثقافة فكرية جديدة مُغايرة ومتنصلة من ربقة التقليد ومعياريته، من خلال موضوعات جديدة لها علاقة بما يعيشه المجتمع المغربي اليوم، سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
وعلى الرغم من أن كتابات عبد السلام بنعبد العالي، لها طرق خاصة في التعبير ومقاربة الأشياء والوقائع والمفاهيم الفلسفية، التي يُحاول دوماً أن يقيم معها نوعاً من المُساجلة الفكرية المدفوعة بهاجس المغايرة والاختلاف اللذين وسما أعماله الفكرية منذ سنوات، فهو الأقرب إلى التفكير فلسفياً في طبيعة الحياة اليومية، إنه أحد أهم المفكرين المغاربة، الذين غردوا خارج سرب المؤسسات الجامعية والعائلات الفكرية العريقة، التي لا تنتج إلا السطحية والتقليد والأجوبة الجاهزة. ففي الوقت الذي نرى بنعبد العالي مسائلاً ومقارعاً جملة من القضايا التي قد يتبدى للمرء أنها غير ذات قيمة، والتي تُصبح عند بنعبد العالي، ذات قيمة أكبر وهو يقوم بتشريحها لتشكل خطاباً مُؤسساً صوب فلسفة معاصرة أقرب إلى مشاغل الإنسان اليومية، تشتغل الجامعة خارج التفكير الفلسفي الحق والتضخم المَهُول، الذي باتت تحبل به بعض مختبراتها العلمية في إنتاج أطاريح جامعية وبحوث علمية ضحلة، تقوم على التدوير وإنتاج الأجوبة الجاهزة عوض طرح أسئلة مُكثفة عن مصير الكائن أمام الألم اليومي الذي ينخره، فهي لا تنفكّ تدور في فلك الخطاب الديني في علاقته بالمجتمع في غياب سحيق لمختبرات التفكير في الفن والجمال والجسد والفضاء العمومي وغيرها من المفاهيم الفلسفية، ذات العلاقة بما يعيشه المرء اليوم عربياً. وهذه الطرق الملتوية في التفكير، لا ينافسه فيها إلى رفيق دربه عبد الفتاح كيليطو واكتشافاته المُدهشة داخل الخطاب العربي قديماً وحديثاً.
في كتابه الجديد "لا أملك إلاَّ المسافات التي تُبعدني" (2020) الصادر حديثاً ضمن منشورات المتوسط - إيطاليا، يُواصل عبد السلام بنعبد العالي "مشروعه" الفكري في مقاربة قضايا من قبيل: الشذرة، المسودة، المفكر الإعلامي، العمل الثقافي والثورة، الفلسفة البوب، الهاتف المحمول، الفلسفة والأدب، عنف الوثوقية، الهوية والمثقف، ثقافة الأذن وثقافة العين، اللغة والسياسة، السخرية، العقلانية، التاريخ والصيرورة، الخفة والثقل، الحقيقة وغيرها من الموضوعات والمفاهيم المُمتدة على مدار 400 صفحة، والتي يضعنا من خلالها بنعبد العالي أمام مأزق منهجي، لا يتأسس على الطريقة العلمية المتعارف عليها، بخاصة أن كتاباً في حجمه وقيمته يفرض أقساماً ومحاور وفصولاً، لكن المؤلف، يتنصل من هذه الطريقة من خلال جعل كتابه يسترسل على شكل مقالات متنوعة ومُتناغة فيما بينها وجد مترابطة في عملية تفكيرها وكأنها نُسجت في لحظة واحدة. وهذا الأمر، لا نلمحه إلا في كتابات مفكرين كبار، التي تبدو في طرائق تَشَكُلها وكأنها قطع فنية منحوتة على مستوى نمط الفكر ونوعية المقاربة والمنهج اللذين يتنصلان من كل عمومية، تجعل الفكر الفلسفي ينزل من تجريديته ليعانق أنماطاً مختلفة أخرى من الكتابة، وهو أمر، يُحيلنا مُباشرة إلى التفكير في طبيعة أسس وخصائص المشروع الفكري لدى بنعبد العالي وقيمته ومُقارنته بأنماط مشاريع فكرية أخرى، فنتأكد أن صَاحبنا يرفض الانصياع إلى السلالات والعائلات الفكرية، عاملاً على توجيه النقد والمساءلة واللعب خارج قواعد وأسوار الجامعة بموضوعات تمتح زخمها التداولي من السجل اليومي للحياة المعاصرة، عبر مقالات شذرية وفلسفية موجزة في كتابتها لكنها مؤثرة في بنية الفكر المغربي المعاصر، بما تتيحه من إمكانية في إعمال النقد لحظة مقاربة الأشياء والموضوعات التي تطاول الحياة اليومية، يُعيد تفكيكها ثم بناءها، قبل أن يُساجلها ويَنقلها من ضاحية الهامش واللامفكر فيه صوب المركز، الذي يتنزل فيه الخطاب منزلة علمية. وهذه العودة لا تكاد تخلو من براءة، إذ تصبح الفكرة غريبة ويتيمة ومتنصلة من ربقة المركز وخطابه ومؤسساته في آن واحد، بطريقة يجعل فيها سير الفكر يتخذ تعدداً في السبل والرؤى، حتى يتنصل من قهر الجغرافيا بل ومن كل بديهية أو وثوقية، قد تعطل حاسة الفكر والشك والترحال كمقابل للحِلّ، الذي يستكين إليه الفكر الوثوقي، عكس مفهوم التّرحال أو الفكر النقدي بما يتميز به من "يتم وحركة وغربة" على حد تعبير المؤلف.
سجال معرفي
يركز بنعبد العالي في كتابه على فلاسفة بعينهم أمثال دريدا ودولوز وبارت وفوكو وهيدغر ونيتشه بشكل كبير، ليس كشارح لهم أو مُسوغ لأطاريحهم، بل يعمل على إقامة نوع من السجال المعرفي الرصين، بحيث يجعل من الفكرة تأخذ أبعاداً ومنعطفات أخرى داخل سياق عربي له علاقة أساساً بالحياة اليومية، من دون أن يتيح للفكرة أن تذوب وتتشرد وتتيه داخل النصوص الفلسفية، تُصبح بطريقة ما غير منتمية إلى زمننا الراهن. لذلك يستلطف بنعبد العالي هذا النوع من التفكير الفلسفي الذي يغوص في دفء الحياة اليومية وعناصرها المتشابكة وطوبوغرافيتها داخل أنظمة فكرية محددة لهؤلاء الفلاسفة، بالتالي فإن عملية "الاتكاء" التي نتلمسها عنده خصوصاً مع كتابات رولان بارت، لا يمكن النظر اليها في كونها مجرد اقتباس علمي وأكاديمي، يستند إليه بنعبد العالي ليضفي على خطابه نوعاً من المعرفة الأكاديمية، ويكتسب نجاعته في التأثير انطلاقاً من قوتهم، إذ عادة ما ندعي أننا أصحاب فكرة ما، لكن مع الزمن نتأكد حين نصطدم بها في إحدى النصوص الفكرية القديمة، بالتالي فإن عملية الاقتباس عن المؤلف "أمر يتم دوماً، بوعي وسبق إصرار". وهذا الأمر بالخصوص انتبهت إليه جيداً المفكرة جوليا كريستيفا، في حديثها عن خصوصية الإبداع، في كوننا حين نكون في حضرة الكتابة، عادة ما ندعي أننا نبدع، لكن الحقيقة، أننا فقط نقوم بعملية تدوير وإنتاج، لأننا نكتب انطلاقاً من لغة مترسبة في ذواتنا.
من هنا، فإن مفهوم الاقتباس عند بنعبد العالي، له علاقة بنوع من الإبداع والمُساجلة الفكرية، التي تصبح نوعاً من الحوار والتبادل الفكري بين الطرفين، والذي لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال الإقامة في فكر الآخر، وأعني في فكر لا يقبل إلا الاختلاف والمساجلة ولا يقوم إلا على نسف فكرة الانفصالات والقطائع الابستمولوجية. يقول في هذا الصدد "الاقتحام لغياهب التاريخ يطرح مسألة التراث الفكري وكيفية تملكه وتجاوزه، وهي كما نعلم، مسألة معقدة، يتوقف النظر فيها على فهمنا للفكر والقطائع والانفصالات. وهذا الفهم يتدرّج من مجرد الموقف الوضعي الذي يعتبر القطيعة انفصالاً مطلقاً". يضيف "إن الحوار مع التراث الفكري يهدف إلى بلوغ الشيء ذاته الذي قيل بأنحاء مختلفة. تلك هي مهمة الفكر، وذاك هو مرمى الحوار. إنه ما يفرض علينا نوعاً من التماهي مع المفكرين، بهدف إحداث الانفصال وتوليد الفوارق وخلق المسافات بيننا وبينهم، تلك المسافات التي من شأنها أن تجعل الفكر يمتد، بقدر ما ينفصل عن ذاته وعن غيره".
إن مفهوم الامتداد عوض القطيعة في فكر عبد السلام بنعبد العالي، مفهوم مهم لحظة الكتابة، إذ به تنطبع الرؤية ويتشعب خيط التفكير والترحال صوب مفاهيم جديدة وقضايا أكثر "معاصرة" تتسم بالاختلاف وبالتباين، ونقد لليقينيات والأزعومات التنميطية التي قيدت الفكر اليوم، وجعلت في أحيان كثيرة حديث كتب عن كتب أو هو مجرد شروح جامعية لمواقف وأطاريح فلاسفة ألمان وفرنسيين، من هنا، تبلغ قيمة كتابات عبد السلام بنعبد العالي في قُدرتها على خرق المألوف والكشف المخبوء واللامفكر فيه داخل حياتنا اليومية البسيطة، متحاشياً كل وثوقية قاتلة وعمياء، ومقاوماً جرح الوجود وعلته، مبعداً التراث الفكري من كل أكاديمية متصلبة واستقرار أبدي، ليفسح المجال أكثر وأشرع لمفاهيم من قبيل الاختلاف واليتم والمقاومة "الشرسة" لكل فكر متقوقع في وثوقيته.