برز اسم الكاتبة الإيرلندية البريطانية ماغي أوفاريل عقب صدور روايتها الأولى "بعد أن رحلت" عام 2000، والتي أشيد بها على نطاق واسع وتوجت بجائزة بيتي تراسك. وما لبثت أن فاز عملها الثاني "اليد التي قبضت عليَّ أولاً" بجائزة كوستا للرواية عام 2010، وهي الجائزة التي رُشحت لها لاحقاً مرتين، مرة في عام 2014 عن "إرشادات لموجة حر"، والأخرى في عام 2017 عن روايتها "لابد أن هذا هو المكان". وورد اسمها أيضاً في قائمة ووترستون التي شملت 25 كاتباً واعداً للمستقبل، وفي قائمة الأكثر مبيعاً عن مذكراتها "أنا، أنا، أنا" على صفحات الصنداي تايمز... وأخيرا تصدرت روايتها "هامنت" القائمة القصيرة لجائزة المرأة للإبداع 2020 وهي تنافس بجدارة للوصول إلى الفوز النهائي.
هاملت بتحريف بسيط
في وقت مبكر من حياتها، تحديداً منذ ثلاثين عاماً درست أوفاريل رائعة شكسبير "هاملت"، وقرأت حينذاك عن ابنه هامنت الذي توفي منذ أربعة قرون وهو في الحادية عشرة من عمره إثر تفشي وباء الطاعون "الموت الأسود"، في بلدة تقع في جنوب مقاطعة وركشير في إنجلترا على نهر أفون تسمى "ستراتفورد". وبعد أربع سنوات أو نحو ذلك، كتب شكسبير مسرحيته التي اعتبرها الكثيرون أعظم أعماله على الإطلاق، مانحاً بطله المأساوي اسم ابنه المفقود بتحريف بسيط. هنا تصرح أوفاريل "إن وفاته في مثل هذا العمر الصغير، وعلاقته بالمسرحية اللاحقة هي قصة ظلت تشغلني لفترة طويلة".
ارتأت الكاتبة المولودة في مايو (أيار) 1972، أن حياة ابن شكسبير "هامنت" لم تكن مجرد هامش في سيرة والده، ومن ثَمَّ خرجت علينا بأفضل رواية لها حتى الآن، في معالجة جديدة لموت هامنت وما خلفه من آثار طويلة الأمد في أسرته. تقول أوفاريل: "كنت مفتونة بهامنت منذ أن درست هاملت لأول مرة في المدرسة... لطالما أحسست بالحيرة والحزن بسبب ندرة الإتيان على ذكره في السيرة الذاتية والنقد الأدبي، لذلك قررت كتابة رواية عنه، في محاولة لمنحه صوتاً وحضوراً".
وعلى الرغم من أن الرواية تفتتح بهامنت، فإن العنوان يبدو مضللاً بعض الشيء، فالشخصية المركزية التي تحتل قلب الأحداث بالفعل هي "آغنس"، أم الصبي هامنت، في حين لم تمنح أوفاريل للشخصية الأكثر شهرة في التاريخ شكسبير، أي اسم يدل عليه، فهو في معالجتها لا يعدو مجرد زوج، أو أب، أو معلم للغة اللاتينية، ولا يسمح له إلا بنتف من الحوار، في إغفال متعمد يحرر السرد من أي حمولات ارتبطت باسمه.
أرادت أوفاريل أن تسلط الضوء على الحياة المنزلية اليومية لهذه الأسرة، التي يمكن أن تكون أي أسرة، منتصرة للهامش على حساب المتن، حتى في ما يخص العنوان. فالتصدير لهامنت والتركيز على آغنس الأم، في محيطها المحلي الضيق. كانت أغنس مشهورة، ومعروفة في البلدة بأنها امرأة غير تقليدية، حرة، تندمج أصولها على نحو خاص بالفولكلور الإنجليزي - "هناك قصة في هذه الأنحاء عن فتاة تعيش على حافة غابة" - تعيد الإنصات إلى العلاقة العميقة بين البشر والمناظر الطبيعية، مع أصداء حكايات من السير جاوين والفارس الأخضر... أغنس نفسها، في نظر جيرانها، مخلوق ينحدر من الأسطورة؛ ولذلك فهم ينظرون إليها بمزيج من الرهبة والحذر. وعندما كان المعلم اللاتيني الشاب "شكسبير" منكباً على تعليم أخوتها غير الأشقاء، تجسس عليها أولاً من نافذة حجرة الدراسة، وهي تتمشى في الغابة بصقر على معصمها، معتقداً أنها فتى وليست فتاة. وهنا تظهر موهبة أوفاريل العظيمة في التعامل بوضوح مع موضوعات "شكسبير"، من مثل هذا النوع من التمويه بين الجنسين أو الشبه الملغز بين الولد والبنت التوأم، ما يجعلها تتماس تقريباً مع حياة الكاتب المسرحي بأشكال أخرى، لا سيما أن هامنت قد اعتاد هو وشقيقته التوأم جوديث، خداع من حولهما بتبادل الأدوار والملابس، ونجم عن ذلك كثير من الخلط بينهما.
الطبيعي والخارق
لم يغفل النقد تلك النبرة الإهليلجية التي تشبه الحلم في ثنايا سرد "هامنت" والتي وإن لم تنغمس بوضوح في لغة القرن السادس عشر، فقد كانت ضرورية لخلق عالم يعطي شعوراً في الحال بأنه حقيقي تماماً وغرائبي بطريقة ما، كما لو كان الغشاء بين الطبيعي والخارق أكثر مسامية.
ولدى قراءة "هامنت" يتضح في كل صفحة من صفحاتها مدى تعمقها الشديد في البحث، فأي شخص زار مسقط رأس الكاتب المسرحي العظيم، يمكنه التعرف بسهولة على ما أوردته من وصف لمنزله السابق، وإن كانت أوفاريل تولج القارئ في الحياة القوية للمنزل، بروائح ورشة لصنع القفافيز، وحرارة المطبخ وصخبه الدائم، والجهد البدني المبذول في زراعة حديقة، وغيرها من الأشياء الحميمة الرهيفة. ولكن الكتاب في جوهره، يعتبر كتاباً عن الفجيعة، ودراسة معمقة عن الأسر التي أجبرت على الحبس في ظل تهديد الموت، والوسائل التي يجد الناس طريقهم خلالها. فيبدو المشهد الذي تُغسل فيه أغنس جثة ابنها الميت مدمراً تماماً (يجب دفنه بسرعة، خوفاً من انتشار الطاعون). ولكن أوفاريل التي كتبت روايتها قبل الوضع المتردي الذي نحياه الآن تقول إن أوجه التشابه بين روايتها والأزمة الحالية كانت غريبة بالفعل، "وربما في مواجهتنا لكوفيد 19 نتأمل دروس التاريخ العميقة عن وباء الطاعون".
بين التصريح والتلميح
لعل اللافت للنظر في مأساة شكسبير المتعلقة بوفاة ابنه، أنه لم يتناولها في أعماله قط بشكل صريح ومباشر، على الرغم من حقيقة أن العام الذي مات فيه، 1596، كان من أكثر الأعوام إنتاجية في مهنة الأب في محبسه جراء تفشي وباء الطاعون. غير أن نظرة أكثر إحاطة بأعماله، تكشف عن الحزن العميق الذي يلقي بظلاله على أجواء نصوصه على وجه العموم، كما أن أغلب إبداع شكسبير لم يخلُ من الثكل المرير في حيوات شخوصه وتبعاته المدمرة التي خبرها بنفسه. لتكون النتيجة النهائية أن الكاتب لم يخص ابنه بقصه واحدة، وإنما بعثرها في أعماله كافة.
إن هامنت لهو دليل على أن هناك دائماً قصصاً جديدة لتروى، وكأن القص يتولد من القص، حتى حول أكثر الشخصيات التاريخية شهرة. وما تؤكده أكثر رواية "هامنت"، أن الكاتبة الواعدة متعددة المواهب بشكل غير عادي، فهي تتمتع بنفاذ بصيرة داخل أهم الروابط البشرية - وهي الصفات التي امتلكها أيضاً مدرس لاتيني سابق من ستراتفورد، تعمدت الكاتبة إغفال اسمه انتصاراً للهامش، ربما لأن شهرته طبقت الآفاق.
أما عن جائزة المرأة للإبداع التي تصدرت أوفاريل قائمتها القصيرة منذ أيام، فقد انطلقت في عام 1996 كرد فعل على هيمنة الكتاب الذكور على الجوائز المرموقة، ما دفع بالبعض للتهكم بوصفها "جائزة الليمون"، والسخرية من أننا سنشهد قريباً جائزة لذوي الشعر الأحمر. لكنّ الجائزة على الرغم مما ينطوي عليه هدفها من تحيز واضح، نأت بنفسها عن التحيز باستثناء أن يكون العمل المقدم كتبته امرأة، صدر بالإنجليزية. وفي هذا العام تحتفل بمرور ربع قرن على بدء إطلاقها، باختيار عنوان من العناوين الفائزة، ليتم تتويجه مرة أخرى تحت عنوان "الفائز على الفائزين".