بينما تسير في طريقك نحو مقر عملك أو دراستك، ربما يطلق هاتفك النقال إنذاراً شبيهاً لذلك الرنين الذي يدوي ليحذرك من طقس سيئ يطرق الأبواب. تنظر إلى السماء فتجدها صافية، ثم ترمق شاشة الهاتف الذكي، فتدرك أن بانتظارك ما هو أسوأ من العاصفة، إنه كورونا.
في ظل استفحال فيروس "كوفيد-19"، تعكف الحكومات على تبني حلول تقنية بديلة عن التتبع التقليدي الذي يعد طريقة مثبتة للسيطرة على الأمراض المُعدية، من خلال التواصل مع المصابين، وتحديد مخالطيهم باستخدام تطبيقات تقنية تسهم في تسريع العملية القديمة، والحد من العوامل التي تعرض حياة الطواقم الطبية للخطر، فبدلاً من تكبد عناء المقابلات المباشرة، وقلق الاستجوابات الطويلة، ستركز السلطات الصحية وقتها على مساندة الأطباء والممرضين.
وعلى الرغم من أن وسائل التتبع الجديدة قد تشكل تهديداً لسياسات الخصوصية إذا لم توضع لها الضوابط الكافية، فإنها ستساعد على تطبيق توصيات منظمة الصحة العالمية، التي لا تقتصر على عزل المريض فحسب، بل تشدد على فحص المخالطين له، ومراقبة الأماكن التي زارها، وهو ما كافحت الحكومة الصينية لتحقيقه من خلال أدواتها المتقدمة، وقدرتها على رصد المواقع من خلال هواتف مواطنيها، لكن هذا التصرف في دول مثل أميركا وبريطانيا ليس محبباً عندما يحدث من دون اشتراطات وقيود.
تحالف العمالقة
يُحسب لكورونا أنه أجبر غرماء الأمس على الاجتماع تحت راية واحدة، إذ يعمل مطورو "غوغل" و"آبل" معاً، منذ أبريل (نيسان) الماضي، على إيجاد أدوات مبتكرة ترفد جهود الدول لمكافحة الفيروس، وتمخض الجهد المشترك ابتكار أداة قائمة على الـ"بلوتوث"، تُسمى "إشعار التعرض"، تستطيع الحكومات من خلالها إنشاء تطبيقاتها الخاصة، وصولاً إلى الاستغناء عن التتبع التقليدي الذي يعد أسلوباً بطيئاً يتطلب جمع المعلومات يدوياً من الأفراد المصابين عن الأشخاص الذين سبق لهم الاتصال بهم، ثم إخطار هؤلاء الأفراد باتخاذ تدابير السلامة المناسبة، مثل العزل الذاتي، وفي حين أن هذه العملية ستظل مهمة أثناء البحث عن المفقودين، يعتقد تحالف غوغل وآبل أن النظام الجديد يمكن أن يتلافى بعض سلبياتها مثل العبء التنظيمي، خصوصاً مع الاحتياج الشديد إلى خدمات العاملين في القطاع الصحي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكن تفعيل الخدمة في الأجهزة المحمولة بطريقة آلية وقابلة للتطوير، فبعدما يضيف مصاب كورونا بيانات عن الأماكن التي زارها والأشخاص الذين خالطهم، ستخطر السلطات الشخص المخالط، مع تعليمات حول الخطوات التالية التي يتوجب القيام بها، وتكمن فائدة الإشعارات في أنها أكثر سرعة وأمناً، ويمكن للمختصين الاتصال بالفرد وتوجيهه، وإذا اقتضى الأمر، إشراكه في جهود تتبع الاتصال التقليدية، وطمأن التحالف بأن التقنية الجديدة لا تستخدم مستشعر الموقع بالجهاز للتتبع، بل تستعمل إحدى خواص البلوتوث الدقيقة، ويتغير معرّف التقارب المتداول للمستخدم في المتوسط كل 15 دقيقة، وهو ما يعزز الخصوصية ويمنع الاحتفاظ بالبيانات، وتجري معالجة المعرفات التي تم الحصول عليها من الأجهزة الأخرى حصرياً على الجهاز، كما يُمنح المستخدمون حق الاختيار، فهم يتمتعون بالشفافية والحرية في مشاركة المعلومات من عدمها.
وبإطلاق خدمة إشعار التعرض، رمت آبل وغوغل الكرة في ملعب الحكومات ومؤسساتها الصحية التي تقع على كاهلها مسؤولية إنشاء التطبيقات، بما يتلاءم مع ضوابط التقنية الحديثة، وأنظمة الدولة، وستشرف الشركتان على آلية اعتماد التطبيقات بناءً على مجموعة محددة من المعايير، لضمان توافقها مع اشتراطات الخصوصية، كما ستُفرض قيود على البيانات التي يمكن جمعها، بما في ذلك عدم القدرة على طلب الوصول إلى خدمات الموقع بالجهاز، وقيود على كيفية استخدام المعلومات.
ماذا يقول المتخصصون؟
وسط طوفان التطبيقات التي أطلقت أخيراً لكبح الجائحة المميتة، يأمل الخبراء أن تساعد برامج تتبع مسار الفيروس، ملايين البشر لاستئناف روتين الحياة المعتاد، مع استمرار الحاجة إلى إلزام عدد أقل بعزل أنفسهم في المنزل، ورغم الدور المحوري الذي تلعبه التطبيقات الجديدة، فإن البيانات التي تجمعها قد تكون عرضة لخطر العابثين، أو المراقبة الحكومية.
يؤكد جيمس لاروس، أحد الأكاديميين السابقين بجامعة هارفارد، وعميد كلية علوم الكمبيوتر والاتصالات (EPFL) المصنفة عالمياً، لـ"اندبندنت عربية"، أهمية التطبيقات في احتواء المرض، لكنه في الوقت نفسه، يشدد على ضرورة المحافظة على خصوصية المستخدم، معرباً عن أمله في أن تكون أداة فعالة بيد الحكومات.
ويلقي الضوء على إحدى مبادراتهم بإتاحة معلومات وشيفرة المصدر لإحدى تطبيقات التتبع التي طوروها، حتى يكون استخدامها بيد الجميع، من منطلق الرغبة في أن تتجه البلدان إلى إنشاء تطبيقات تتبعٍ مماثلة ومحمية، تحافظ على خصوصية شعوبها وأنظمتها الصحية. ويتابع، "هناك الكثير من البرامج، ولقد عملنا على نوع محدد منها، وهو تطبيق تتبع التقارب الذي ينبهك عندما تقترب من أحد المصابين، وسيكون هذا التطبيق مفيداً إذا عزل الأشخاص المشتبه فيهم أنفسهم في الحجر الصحي، لمدة أسبوع أو اثنين حتى تتأكد نتائج الفحوص، والحد من نقل العدوى إلى أفراد آخرين".
من جانبها، تفند كارميلا ترونكوسو، بروفيسور بكلية العلوم والاتصالات السويسرية، في ورقتها البحثية حول المشكلات التي تواجه تطبيقات تتبع التقارب، الحلول المطروحة لمعالجة مهددات الخصوصية، بداية بالنهج الذي يعرف بـ"انتزاع البيانات"، إذ يجيز في الظروف الاستثنائية حيازة بيانات الموقع، والاتصالات، وبيانات الاستشعار التي تُجمع بواسطة البنى التحتية التجارية والعامة؛ للتحكم بها وتحليلها، مع الاعتماد على معايير قانونية لحماية هذه المساعي، وينادي هذا النموذج بعملية جمع ضخمة للبيانات الشخصية، ويفترض أن الحصانة القانونية ستكون كافية لحماية السكان، وهو ما لا يحدث غالباً.
ثانياً، نهج البيانات "المجهولة" الذي يقترح إخفاء هوية الموقع وبيانات المستشعر للاستفادة منها في استخدامات أخرى تخص الوباء، لكنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إخفاء هوية البيانات الشخصية خلال عملية تتبع التقارب.
ثالثاً، إنشاء بنية تحتية خاصة بمهمة جمع البيانات اللازمة لتلبية احتياجات تتبع التقارب بشكل خاص لدى السلطات الصحية أو علماء الأوبئة، بهدف تضييق نطاق جمع المعلومات، وتجنب الاعتماد على البيانات التي تم جمعها من قبل البنى التحتية التجارية أو العامة، والتي لم تُؤسس لخدمة الهدف الجديد وهو تتبع التقارب في محيط مصابي كورونا، ويمكن تقسيم هذا النهج التأسيسي إلى فئتين، النماذج المركزية واللا مركزية.
وتحاول النماذج المركزية تضييق نطاق البيانات وتقليلها، من خلال توليد وتتبع معرفات مؤقتة موزعة على المستخدمين، يمكن استخدامها لإنشاء الرسم البياني لجهات اتصال المستخدم فقط في حالة إصابته، وتنشأ المعرّفات والرسوم البيانية على خادم يُفترض في الغالب أنه يخضع لسيطرة الحكومة أو كيان موثوق آخر، ويفترض النموذج أن الكيان المشغل للخادم لن يُسيء استخدام بيانات الخادم وقدراته.
فيما صممت النماذج اللا مركزية، لحماية أكبر قدر ممكن من البيانات الحساسة على أجهزة المستخدمين، وتتحكم أساليب النموذج في تدفق البيانات بشكل صارم لمنع الخادم المركزي من تجميع المعلومات، ما يعني أن الغرض الوحيد للخادم هو تمكين الناس من استخدام أجهزتهم الخاصة لتتبع جهات الاتصال، ولأن البرنامج لا يُمنح ميزة الوصول إلى البيانات الحساسة، فهو ليس قابلاً للتعرض لأي شكل من أشكال تهديد الخصوصية، بخلاف جميع الحلول الأخرى.
عباقرة بوسطن
وابتكر باحثون في كل من جامعة "هارفارد"، ومعهد "ماساتشوستس للتقنية" (MIT) تطبيق "برايفت كيت"، يمتاز بتغلبه على مخاوف الخصوصية من خلال مشاركة بيانات الموقع المشفرة بين الهواتف في الشبكة بطريقة لا تمر عبر سلطة مركزية، ورغم أنه ينبه إلى مكان وجود الفيروس فقط، وليس إلى أين يتجه، فإنه سيتيح للمستخدمين معرفة ما إذا اختلطوا بشخص يحمل الفيروس التاجي، من دون كشف هويته، ويمكن للمصابين مشاركة بيانات الموقع مع مسؤولي الصحة، حتى يتسنى لهم نشرها للعامة، ووضع إجراءات احترازية.
وبحسب إحدى المجلات التابعة للمعهد، فإن أهمية التطبيق، تكمن في تحديد النقاط التي يتفشى فيها الفيروس، وبذلك سيسهل عزل مواقع معينة وتعقيمها، بدلا من عمليات الإغلاق الشاملة، التي تضر الاقتصاد. ونجحت هذه الطريقة في أماكن مثل كوريا الجنوبية، حيث أنشئت مراكز الفحص خارج المباني التي زارها المصابون، لكن رغم ذلك، فإن المعلومات غير المكتملة ربما تشكل شعوراً زائفاً بالأمان، يدفع المستخدمين إلى الاعتقاد بأن بعض الأماكن آمنة عندما لا تكون كذلك.
جولة افتراضية في تطبيق داكوتا
وتبنت ولاية شمال داكوتا، تطبيق "كير 19"، الذي أطلق بالشراكة بين الجهات الصحية، وإحدى الشركات المتخصصة بتطوير تطبيقات التتبع، وفي صفحة الولاية الخاصة بمستجدات كورونا، يُوصف البرنامج بأنه يساعد في إبطاء انتشار الفيروس، بطرق أكثر فعالية من خلال تحديد الأفراد الذين يشتبه في تواصلهم مع أشخاص ثبتت لديهم الإصابة بالفيروس.
ووُلدت الفكرة على يد أحد مهندسي البرمجيات، الذي سبق له إنشاء برنامج تتبع لمشجعي إحدى الفرق الرياضية بجامعة ولاية داكوتا الشمالية، الذين يرغبون في التجمع حين التحضير للسفر لمتابعة مباريات فريقهم، وصدف أن مطوِّر البرنامج صديق لحاكم الولاية دوغلاس بورغام، الذي بادر بسؤاله "هل تستطيع تتبع مصابي "كوفيد- 19"؟
ومن هنا انطلق التطبيق الذي صار بمثابة مركز لمعلومات الولاية فيما يتعلق بمستجدات كورونا، ومن خلال المعلومات التي يدلي بها المصابون حول الأشخاص الذين كانوا على اتصال بهم، بالإضافة إلى الإفصاح عن المواقع التي زاروها، ستتمكن السلطات المحلية من تنفيذ إجراءات استباقية، مثل إغلاق أماكن معينة، وفحص المخالطين، وإلزامهم العزل المنزلي لحين التأكد من سلامتهم.
"اندبندنت عربية" استطلعت شاشة التطبيق بعد تنزيله، حيث يُطلب من المستخدم تحديد موقعه الجغرافي سواء كان من شمال الولاية أو جنوبها، أو في أي موقع بالولايات المتحدة، ثم تنبثق نافذة الإرشادات، لتسألك ما إذا كنت مصاباً بفيروس كورونا، وفي هذه الحالة ستتواصل معك الجهات الصحية المحلية، كجزء من عملية التتبع، وتكمن أهمية الاتصال لتسجيل المواقع التي زارها المصاب خلال 4 إلى 6 أيام، ولن يُطلب منك أي معلومات شخصية، غير الإقرار لاحقاً بالموافقة على السماح بتوثيق سجل الأماكن التي زرتها، باستخدام متتبع هاتفك النقال.
وفي نافذة الحماية، سيكون لديك خياران، مشاركة مسؤولي الولاية الأماكن التي زرتها، وإشعار الآخرين الذين يقتربون منك حتى ينبههم التطبيق بالابتعاد، ومن المؤكد أن هناك تفاصيل أخرى، وأيقونات لم نستطع الوصول إليها، لأنها تتطلب الوصول لخدمة الموقع بالهاتف، واصطدمت الرغبة في تجربة التطبيق عملياً، مع وجودنا في خارج نطاق الولايات التي يُستخدم فيها.
وتشجع الولاية السكان على تصنيف حركتهم اليومية أو الأسبوعية، إلى فئات مختلفة، مثل العمل، أو البقالة، ويقول المطورون إنهم يعملون على تطوير دقة تحديد المواقع، للتنبؤ بحركة الوباء باستخدام بيانات أكثر دقة، بعد الاستفادة من تقنية التتبع التي أطلقتها آبل وغوغل في مايو (أيار) الحالي.